الدراما المصرية من القوة الناعمة إلى الذكية
26-10-2022

محمد نبيل محمد
* عضو اتحاد الكتاب

بعد جلاء العدوان الثلاثي على مصر في 23 ديسمبر 1956 بأقل من سبعة أشهر اجتمع الرئيس جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وأنور السادات مع الفنان فريد شوقى وتم الاتفاق على صناعة فيلم يجسد بطولات المدينة الباسلة، وبالفعل تم تصوير مشاهد الفيلم الخارجية في أماكنها الطبيعية في مدينة بورسعيد الباسلة سواء في وقت العدوان، أو عقب الانسحاب كما كانت مشاهده الداخلية في ستوديو مصر. وفى 8 يوليو عام 1957 تم عرض فيلم "بورسعيد " بـسينما ريفولى وهو ما لم يحدث في تاريخ السينما العالمية - آنذاك -  أن عرض فيلم روائي عن إحدى الحروب القصيرة التي شهدها العالم الحديث، وكما كانت معركة الكرامة لأهالي المدينة الباسلة كانت معركة الإبداع لكتيبة من النجوم تباروا جميعا لتمجيد معركة بورسعيد ولم ينظر أحد منهم أين موقع اسمه من أفيش الفيلم ؟ وما هو حجم الدور ؟ وإنما الأهم كان ما الذي سيقدمه النجم دعما للفن وردا للحق الوطني ومساهمة في بناء ( السينما ) أحد أهم عناصر القوى الناعمة للوطن الناهض. ومن هؤلاء الأبطال : فريد شوقي، هدى سلطان، ليلى فوزي، شكري سرحان، زهرة العلا، أمينة رزق، حسين رياض، زينب صدقي ، رشدي أباظة ، توفيق الدقن ، عدلى كاسب، نعيمة وصفى ، نور الدمرداش، سراج منير، أحمد مظهر الذي كان في أدوراه الأولى وعز الدين ذو الفقار مخرج الفيلم، وبدأ فريد شوقى إنتاج الفيلم في نهاية عام 1956 وأشرف علي الإنتاج المنتج والمخرج حلمي رفلة وبلغت تكاليف إنتاجه حوالي 35 ألف جنيه، وبعد الانتهاء من تنفيذ الفيلم أهدى فريد شوقي نسخة من الفيلم إلى الرئيس جمال عبد الناصر متضمن رسالة إلى "الزعيم جمال عبد الناصر" نشرتها جميع الصحف حينها بنفس العنوان قال فيها : "إن اللحظات التاريخية التي اجتازها شعب مصر خلال العدوان الثلاثي الغاشم أثبتت للعالم أننا شعب مجيد، قاوم بربرية المستعمرين ببسالة، وسطر في التاريخ بنصره أروع مواقف البطولة وهو يكافح من أجل القيم الإنسانية والحضارة والمستقبل، ومن أجل أن يسود السلام والحرية والطمأنينة والخير, والفن المصري الذي كان مجرد وسيلة للتسلية في العهود البائدة، التي ساندت الاستعمار ضد الشعب، عرف دوره في هذه المعركة الوطنية فساهم ليصنع الساعات التاريخية بما وسعه الجهد، من أجل انتصار الإنسانية على البربرية، وانتصار الخير على الشر، وانتصار الحرية على الاستعمار, كان هناك دور ينتظر الفن، دوراً أكبر مما قام به خلال المعركة وهو يسجل وحشية المستعمرين وبربريتهم وخستهم وفظائعهم, قررت أن أنتزع للفن شرف القيام بهذه المهمة الجليلة، فأنتجت فيلم بورسعيد؛ الذي أقدمه اليوم مسجلاً فيه ما ارتكبته قوى البغي والعدوان من همجية وبربرية ووحشية، إن فيلم بورسعيد سيقول للعالم الحر المؤمن بحق الإنسان في أن يعيش في سلام، بأنه رغم ما ارتكبته قوات الاستعمار الغاشم في المدينة الباسلة بورسعيد، إلا أنها عاشت لتعلن العالم أن الحرية ستنتصر في النهاية. إننا نؤمن اليوم بأن الفن رسالة ضخمة في الطريق الذي تسعي إليه البشرية من أجل إقرار السلام والحب والطمأنينة والخير، ولهذا جندنا كل قوانا ومواهبنا لتحقيق هذا الهدف السامي، وأخيرا أرجو أن أكون قد أديت بهذا الفيلم بعض ما ينبغي أن أقوم به كمواطن مصري يؤمن بالحرية وحق الشعوب في أن تعيش حرة كريمة آمنة".
هكذا كانت الدراما الوطنية مصدر قوة هائلة للمصريين تنتصر لقضاياهم، وتعين القرار السياسي على مواجهة أصعب الظروف، وتنير أحلك الطرق من خلال نخبة من الوطنيين الحقيقيين والمتبرعين بفكرهم والمتطوعين بجهدهم من أجل محاولة الانتصار للسينما المصرية التي تحولت من عنصر قوة ناعمة إلى قوة ذكية في الخمسينيات وقبل صياغة العديد من الدراسات والبحوث في الولايات المتحدةالآن - إلى عناصر القوة الذكية، التي أصبحت عنصرا مؤثراً قويا لصالح الفكر الأمريكي ومروجاً دعائيا هو الأمثل للاقتصاد الأمريكي، وبمثابة مفارز متقدمة عابرة للحدود السياسية الأمريكية، ويكفى الإشارة إلى مؤشرات عوائد الأفلام الحربية الأمريكية التي تتجاوز النصف مليار كما في فيلم " إنقاذ الجندي رايان " الذي تكلف السبعين مليونا دولار وقدم عوائد عرض بلغت أربعمائة وواحد وثمانين مليون دولار، فضلاً عما روج له الفيلم من مدى اهتمام القيادة العليا برسالة أم لمجند بالجيش الأمريكي، وصُنف الفيلم بأنه واحد من أهم الأفلام الحربية علي الإطلاق وهو أيضاً من أهم أفلام مخرجه ستيفن سبيلبيرج والذي صرح بأنه فكر في عمل الفيلم ليكون بمثابة نصب تذكاري لتخليد ذكري الجنود الشجعان الذين حاربوا وماتوا في هذه الحرب الهائلة خاصة في غزو شاطئ نورماندي، فلقد تفوق مشهد الجسر في الفيلم علي أفلاماً كاملة صنعت عن موقعة الجسر كأفلام (الجسر, وحرب الشتاء، وستالينجراد ) وغيرها من الأفلام التي جسدت الحرب العالمية، حصد الفيلم خمس جوائز أوسكار: منها أحسن إخراج وأخري للتمثيل لتوم هانكس وغيرهما للمونتاج والتصوير والديكور، وسعى الفيلم لتغليف العديد من المشاهد الحربية التي تبدو في ظاهرها عنيفة ودموية بالكثير من الدفقات الشعورية الإنسانية التي لا يملك المشاهد معها سوي التعاطف والاندماج، كما استخدام سبيلبيرج التقنيات والمؤثرات السمعية والبصرية بأقصى درجة ممكنة ليصل كمخرج إلي مستوي احترافي متقدم جدا لفيلمه الذي يعد واحدا من أهم وأنجح الأفلام التي أعادت إحياء الحرب العالمية الثانية, ولا يفوتنا الإشارة إلى حرفية التصوير وحسن التعبير بصرياً من خلال استخدام الألوان ودرجة شحوب كل لون بداية من ألوان الملابس العسكرية إلي السماء والبحر خاصة في ظل ساحة معركة حية
أدعو القارئ إلى مشاهدة فيلم (دونكيرك) الذي يجسد نجاح انسحاب أعتى جيوش العالم من ميناء صغير في فرنسا أمام الغزو الألماني ومقارنة هذا الميناء المدافع بميناء بورسعيد المهاجم الذي أجبر جيوش ذات الدولتين (فرنسا وانجلترا) ومعهما جيش العصابة الصهيونية على الانسحاب أمام بسالة المواطن البورسعيدي (النموذج في صناعة النصر) وليس في الانسحاب كما الوضع في معركة ميناء (دونكيرك!(
قد يكون ذلك ردا على من يقول إن أكتوبر قد انتهت وتم تقديمها في أفلام عديدة سابقاً، إننا الآن نرى في الفيلمين المشار إليهما، على سبيل المثال، رغبة أكيدة لدى المحترفين الوطنيين من المنتجين والمخرجين والممثلين في إعادة تقديم نموذج البطولة بما يتواكب وتقنيات العصر الحديث ويتوازى مع السياسة العامة للدولة.
وأتذكر عندما كتب نجيب محفوظ مقالًا نٌشر في كتاب "حول الثقافة والتعليم" بعد استحقاقه نوبل، تناول فيه إشكالية صناعة الأفلام التاريخية، وأشار إلى أن المقبل على إنتاج فيلم تاريخي أمامه طريقان: الأول هو الالتزام بالأحداث التاريخية بتفاصيلها ، والثاني هو أن يتخذ من التاريخ قالبًا لعمله الفني دون التزام بالحدث، وربما نجد في صناعة السينما الوطنية وعودة الدولة ومشاركة الوطنيين من المنتجين المحليين وليس غيرهم في تحقيق الأمل، والانتصار ليس للتاريخ فقط، وإنما للمستقبل وهو الأهم ؟

 


رابط دائم: