فى لحظة إقليمية بالغة التشابك والتعقيد، يتشابك فيها كل ما هو أمنى بما هو إنسانى، وتتقاطع فيها حدود الدول مع مسارات الأزمات، جاء خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الذكرى الثانية عشرة لثورة 30 يونيو محمّلًا بدلالات تتجاوز الطابع الاحتفالى، ليطرح رؤية سياسية متكاملة تُعيد قراءة الواقع، وتُعيد تعريف المشروع الوطنى فى ظل التحولات الجارية داخليًا وخارجيًا.
يقرأ المقال خطاب 30 يونيو بوصفه وثيقة سياسية وإنسانية، تكشف كيف أعادت القيادة المصرية صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن داخليا، ومارست حيادا محسوبا خارجياَ باتزان رشيد وسط تصاعد التهديدات الإقليمية.
لم يكن الخطاب خطاب ظرف، بل خطاب توقيت دقيق:
ففى الخارج، يشتعل الإقليم على وقع حرب مفتوحة فى غزة، ودوامات عنف فى السودان، وصراعات متجذرة فى سوريا، واليمن، وليبيا، إلى جانب تصعيد غير مسبوق بين إيران وإسرائيل، بلغ حدّ الضربات العسكرية المتبادلة، وفتح الباب أمام سيناريوهات تهدد استقرار الإقليم بالكامل، بما فى ذلك الأمن القومى العربى والمصرى.
وفى الداخل، تواصل الدولة المصرية مشروعها الطموح لإعادة بناء المؤسسات، واستعادة الثقة، وتحقيق معادلة الأمن والتنمية، فى ظل ضغوط اقتصادية واجتماعية مركبة، تتطلب من الدولة التماسك، ومن القيادة وضوح الرؤية واتزان القرار.
ومن هنا، يُمكن قراءة خطاب 30 يونيو 2025 بوصفه تجسيدًا لرؤية القيادة السياسية لواقع مزدوج: واقع داخلى يتطلب التماسك والإنجاز، وواقع خارجى يتطلب الحذر والحكمة والمرونة الاستراتيجية.
وما بين هذين الواقعين، يعكس الخطاب تطورًا فى لغة الدولة وتوجهاتها، وهو ما يستوجب قراءته ليس كوثيقة مناسبات، بل كنصٍّ سياسى واستراتيجى يُعيد ترسيم العلاقة بين الدولة، والمواطن، والمحيط.
ولتحليل الخطاب يمكن تناول محورين أساسيين: أحدهما يحلل البعد الداخلى التنموى والاجتماعى-الإنسانى (شرعية الدولة الجديدة - وعى المواطن - العلاقة بين الدولة والمجتمع - موقع المواطن المصرى فى قلب المشروع الوطنى)، والآخر يحلل البعد الخارجى مقدما نموذجا مصريا فى إدارة التوازن وسط صراعات الإقليم على النحو التالى:
أولًا- الجمهورية الجديدة والتحول نحو الشراكة الواعية:
الخطاب جاء كتثبيت لرؤية سياسية لا مجرد تذكير بثورة، فلم يكن حديث الرئيس عن 30 يونيو مجرد استدعاء لتاريخ مضى، بل فى الحقيقة كان بمثابة تجديد للعهد بين الدولة والمواطن، لم يتعامل الرئيس مع الذكرى كاحتفاء شكلى، بل وظّفها لتأكيد شرعية "الجمهورية الجديدة" فقد جاء الخطاب ليؤكد أن الثورة لم تكن لحظة عابرة، بل بداية لمشروع وطنى ممتد.
لم يتعامل سيادة الرئيس مع الذكرى الثانية عشرة لثورة 30 يونيو باعتبارها مجرد لحظة رمزية، ولكن باعتبارها لحظة تأسيسية تحولت مع الوقت إلى مشروع دولة، لا يتم اختزالها فى بنية تحتية ولا فى مشروعات ضخمة، بل فى رؤية شاملة تبدأ ببناء الإنسان، وتراهن على وعى المواطن كشريك أساسى فى صناعة القرار.
وهكذا تحولت الثورة من فعل احتجاجى إلى أساس لعقد سياسى جديد، من لحظة غضب شعبى إلى مسار سياسى ناضج، تقاس شرعيته بالقدرة على الإنجاز، ويقوم على الوعى لا الوصاية، تبنى ركائزه على المشاركة لا التوجيه من أعلى، من 30 يونيو كثورة شعبية، إلى دولة الإنجاز والاستقرار، إلى مشروع حكم يتجاوز الاضطرابات، ويبنى على الشرعية عبر الأداء لا الشعارات.
وبالتالى لا يمكن فهم الجمهورية الجديدة فقط من خلال مؤسساتها أو سرديتها السياسية، بل من خلال كيفية إدارتها لعلاقتها بالناس، قلب التغيير فى الجمهورية الجديدة: قيادة لا تُملى، بل توضح. وشعب لا يُساق، بل يُشارك، ومن هنا يأخذ الخطاب بعد آخر يعبر فيه الرئيس عن تحول جوهرى فى فلسفة الحكم، من الدولة الصلبة إلى الدولة الراعية "عندما يتحدث الرئيس بلسان الناس".
من بين أكثر اللحظات دلالة فى خطاب الرئيس، تلك التى تحدّث فيها عن المواطن العادى، عن التعب، وعن معنى الصبر فى زمن التغيير. لم تكن هذه مجرد كلمات مجاملة، بل كانت جزءًا من خطاب يستبطن التحول العميق فى علاقة الدولة بالمجتمع، وفى فهم القيادة السياسية لمفهوم "المسئولية المشتركة".
ففى سياق أزمات اقتصادية ضاغطة عالميًا، من تضخم، وتراجع سلاسل الإمداد، إلى أزمات العملة والغذاء والطاقة، بدت الدولة المصرية، كما يعكس الخطاب، حريصة على أن تستمر فى البناء دون أن تتخلى عن مواطنيها.
وهنا تظهر واحدة من أهم الرسائل فى خطاب 30 يونيو: أن الدولة لم تعد تتعامل مع المواطن بوصفه متلقيا أو عبئا، بل شريك فى التحمل، وموضوع للرعاية، ومصدر للشرعية.
الحديث عن برامج الحماية الاجتماعية، وتوسيع نطاق الدعم، ومضاعفة الجهود فى ملف الصحة والتعليم، ليس تكرارًا روتينيًا، بل تثبيت لسردية سياسية جديدة، ترى أن الأمن القومى يبدأ من كرامة المواطن، وأن التنمية ليست فقط أرقامًا، بل أثر إنسانى واجتماعى عابر للطبقات.
وفى هذا الإطار، يُمكن القول إن خطاب الرئيس فى هذه المناسبة لم يكن مجرد استعراض لإنجازات، بل محاولة لبناء علاقة وجدانية مع المواطن، تُعيد الاعتبار لفكرة الدولة الراعية، التى تعرف صعوبة اللحظة، ولا تطلب الصبر إلا وهى تعد بالعدل، ولا تُراهن على التحمل إلا وهى تُعطى إشارات الأمل.
بهذا المعنى، يُصبح خطاب 30 يونيو 2025 تجسيدًا لدولة تتحول من "الصلابة المؤسسية" إلى "المرونة الاجتماعية"، دون أن تفقد انضباطها أو قدرتها على الإنجاز.
فالدولة التى تبنى مدنًا ذكية، تُدرك فى الوقت نفسه أهمية أن يبقى إنسانها قادرًا على الحلم، وعلى العيش الكريم، حتى فى عز الأزمات.
ثانيًا- الاتزان فى تفاعلات إقليمية ودولية مشتعلة:
وسط حالة من السيولة الإقليمية غير المسبوقة، بدا لافتًا أن خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الذكرى الثانية عشرة لثورة 30 يونيو، لم يتطرق بشكل مباشر إلى التصعيد المتسارع بين إيران وإسرائيل، رغم أنه يُعد من أبرز ملامح اللحظة الجيوسياسية الراهنة وأكثرها تهديدًا لاستقرار الإقليم بأسره.
لكن هذا "الغياب" لم يكن غفلة، ولا تجاهلًا، بل يُمكن قراءته كجزء من لغة سياسية جديدة تتبناها مصر فى السنوات الأخيرة: لغة يُمكن للصمت فيها أن يكون أبلغ من التصريح، وأن يكون التوازن المقصود أداة تأثير لا علامة حياد سلبى.
لقد اختار الرئيس أن يُشير إلى اشتعال الإقليم –من غزة إلى السودان، وسوريا، وليبيا– دون تسمية أطراف بعينها فى الصراع الإيراني–الإسرائيلى، وهذا ما يُمكن تسميته "الدبلوماسية الرمزية"، التى لا تُقحم الدولة فى اصطفافات أيديولوجية أو عسكرية، لكنها تُبقى لنفسها قدرة التأثير، والمناورة، وموازنة المصالح.
مصر، تاريخيًا، لم تكن قوة متسرعة فى الاصطفاف. لكنها، فى خطاب هذا العام، بدت أكثر وضوحًا فى ممارسة ما يمكن تسميته بـ "الحياد المنتج"،حياد لا يعنى الغياب، بل يهدف لتأمين المجال السياسى المصرى من الانجرار إلى دوامات الصراع، دون أن تتخلى عن مبادئها فى دعم الاستقرار، ورفض فرض الإرادة بالقوة، والتمسك بالشرعية الإقليمية.
والأهم من ذلك، أن هذا الصمت الاستراتيجى أتى فى لحظة تتشابك فيها جبهات النار فى المنطقة، حيث لم يعد ممكنًا أن تتخذ الدولة موقفًا انفعاليًا دون أن تدفع ثمنًا، أو تصطف دون أن تخسر أوراقها، وهنا تقدم مصر فى خطاب رئيسها نموذجًا مختلفًا يتمثل فى نموذج الدولة التى تُدير المخاطر بصوت خفيض، وتختار متى تتكلم، ومتى تصمت، ومتى تتدخل من وراء الستار.
بهذه الرؤية، يُمكن فهم أن الخطاب لم يكن فقط بيانًا داخليًا للشعب المصرى، بل رسالة للخارج أيضًا تتمثل فى أن مصر تقرأ الإقليم جيدًا، وتتحرك بحكمة، وتبنى موقفها على المدى الطويل لا على الاندفاع اللحظى.
وبالتالى يمكن القول إن غياب الإشارة المباشرة إلى الصراع الإيراني–الإسرائيلى لا يُقرأ فقط كحساب للموقف، بل كجزء من تحول أوسع فى فلسفة التعبير السياسى المصرية؛ حيث لم تعد الأولوية للصوت المرتفع، بل للصوت الموزون الذى يخلق المعنى بالاختيار، لا بالإكثار.
أعاد الرئيس التأكيد على مركزية الأمن، ليس كذريعة أو أداة، بل كنقطة ارتكاز لبناء دولة قادرة على العمل والتنمية وسط محيط مضطرب.
وقد وُظف الحديث عن الشهداء، وتضحيات الجيش والشرطة، لا للاستدعاء العاطفى، بل لتأكيد أن الأمن ليس ترفًا سياسيًا، بل مسئولية مستمرة.
وبالتالى يمكن إيجاز ماورد فى خطاب سيادة الرئيس فيما يتعلق بالشأن الخارجى فى النقاط التالية:
- عكست إشارات الرئيس الخارجية سياسة تتسم بالثبات والمرونة معًا.
- تأكيد الدعم للحقوق الفلسطينية والرفض الصارم لمحاولات فرض الأمر الواقع.
- التحذير الضمنى من خطورة التدخلات الإقليمية.
- الصمت الاستراتيجى تجاه التصعيد الإيراني–الإسرائيلى، كأحد أشكال الحياد المدروس، حفاظًا على توازن المصالح وتحاشيًا للانزلاق فى اصطفافات مكلفة.
ختامًا، لم يكن خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الذكرى الثانية عشرة لثورة 30 يونيو خطابًا احتفاليًا تقليديًا، بل كان نصًا سياسيًا مركبًا، يُعيد ترسيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويُقدّم رؤية واقعية لموقع مصر فى عالم مضطرب.
داخليًا، جسّد الخطاب فلسفة الجمهورية الجديدة بوصفها مشروعًا ممتدًا للوعى والمشاركة، لا مجرد مظلة سياسية تُمارَس من أعلى.
وخارجيًا، عبّر عن سياسة الحذر الفعّال، التى لا تغيب عن ساحات الإقليم، لكنها تُحسن اختيار توقيت الصوت، ومساحة الصمت.
وبين الاثنين، بدت مصر –كما تعكس كلمات رئيسها– كدولة تُدرك أن الثورات تُقاس فقط بما يُبنى بعدها من معنى، ومن مؤسسات، ومن علاقة ناضجة مع الشعب، ومع العالم، وهو ما يجعل خطاب 30 يونيو هذا العام، وثيقة سياسية وإنسانية، لا لحظة عابرة فى روزنامة المناسبات.
وهكذا، لا تعود الذكرى مجرد استدعاء للتاريخ، بل تأسيس للمستقبل، تكتب فيه الدولة بالوعى، وتبنى فيه الشرعية بالفعل، لا بالهتاف.