من المجلة - الافتتاحية

السياسة الخارجية المصرية بعد 30 يونيو: "نموذج الدولة القائد" فى عالم مضطرب

طباعة

تُعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013 نقطة تحول مفصلية فى تاريخ مصر الحديث، ليس فقط على الصعيد الداخلى بإعادة تشكيل المشهد السياسى والاقتصادى والاجتماعى، بل امتدت تداعياتها وآثارها العميقة لتشمل دوائر السياسة الخارجية المصرية، مُعلنةً عن بداية مرحلة جديدة اتسمت بالسعى الحثيث لاستعادة الدور المحورى لمصر على الساحتين الإقليمية والدولية. وكانت أهم التحديات التى واجهت الدولة المصرية تتمثل فى البيئة الإقليمية والدولية المضطربة والمُعقدة، التى حفلت بالتحديات الجسيمة والفرص الواعدة فى آن واحد، بالإضافة إلى تحديات الداخل من إعادة بناء مؤسسات الدولة، ومجابهة ومكافحة التطرف والإرهاب، وحتمية البدء فى الإصلاح الاقتصادى والإدارى. فبعد فترة من الانكفاء النسبى والانشغال بترتيب البيت الداخلى بعد فوضى وتداعيات أحداث عام 2011، انطلقت الدبلوماسية المصرية، بفضل رؤية واضحة وثابتة للرئيس عبدالفتاح السيسى، لتُعيد تعريف أولوياتها وتُجدد أدواتها وتُنوع شراكاتها، مُرتكزةً على إرث تاريخى عريق ومبادئ راسخة، ومُستجيبةً لمتطلبات الواقع المتغير وتطلعات الشعب المصرى نحو استعادة مكانة بلاده اللائقة.

فقد واجهت السياسة الخارجية المصرية فى أعقاب ثورة 30 يونيو تحديات غير مسبوقة، فرضتها حالة السيولة الاستراتيجية التى اجتاحت منطقة الشرق الأوسط، وتصاعد حدة النزاعات الإقليمية، وانتشار ظاهرة الإرهاب العابر للحدود، وتزايد التدخلات الخارجية فى شئون دول المنطقة، فضلا عن التحديات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية التى ألقت بظلالها على قدرة الدولة على الحركة والتأثير خارجيا. كان على صانع القرار المصرى أن يتعامل مع هذا المشهد المُركب بحكمة وعقلانية، وأن يوازن بين ضرورة الدفاع عن المصالح الوطنية الحيوية والأمن القومى المصرى، وبين الالتزام بالمبادئ الثابتة التى حكمت سياسة مصر الخارجية على مر العصور، والمتمثلة فى احترام سيادة الدول، وعدم التدخل فى شئونها الداخلية، ودعم الحلول السياسية للأزمات، وتعزيز التضامن العربى والإفريقى، والدفاع عن القضايا العادلة للشعوب، وفى مقدمتها القضية الفلسطينية.

فى هذا السياق، برزت أهمية تبنى مقاربة شاملة ومتعددة الأبعاد للسياسة الخارجية، لم تقتصر على الدبلوماسية الرسمية التقليدية، بل امتدت لتشمل أدوات وقنوات أخرى أثبتت فعاليتها فى خدمة الأهداف الوطنية. فقد شهدت السنوات التى تلت الثورة نشاطا مكثفا للدبلوماسية الرئاسية، بقيادة الرئيس السيسى شخصيا، الذى قام بجولات وزيارات خارجية متعددة، وعقد لقاءات قمة مكثفة، لتعزيز العلاقات الثنائية، وشرح وجهة النظر المصرية، وبناء جسور الثقة مع مختلف القوى الدولية والإقليمية. وبالتوازى مع ذلك، نشطت الدبلوماسية البرلمانية، مستفيدة من عراقة التجربة البرلمانية المصرية، لتعزيز التواصل مع برلمانات العالم، ودعم القضايا الوطنية فى المحافل البرلمانية الدولية، وتعميق العلاقات الشعبية. كما لعبت الدبلوماسية الشعبية، بتنسيق ودعم من الدولة، دورا مهما فى تصحيح الصورة الذهنية عن مصر فى الخارج، ومواجهة الحملات الإعلامية المغرضة، وحشد الدعم والتأييد للمواقف المصرية.

تتناول هذه الافتتاحية تحديات السياسة الخارجية المصرية فى مرحلة ما بعد ثورة 30 يونيو وحتى الآن، مع التركيز بشكل خاص على كيفية تعامل مصر مع النزاعات الإقليمية المتفاقمة، وفى القلب منها القضية الفلسطينية التى ظلت تمثل الأولوية المركزية للدبلوماسية المصرية. وتهدف الافتتاحية إلى إبراز الأسس والمبادئ التى استندت إليها السياسة الخارجية المصرية فى مواجهة هذه التحديات، وكيف تمكنت من الحفاظ على ثباتها ورسوخها رغم التقلبات العاصفة. كما تسعى إلى تسليط الضوء على الأدوار المتكاملة للدبلوماسية الرئاسية، والبرلمانية، والشعبية فى تنفيذ هذه السياسة وتحقيق أهدافها، مُستندةً فى ذلك إلى التقارير والأبحاث والدراسات الموثوقة، وخاصة تلك التى تعكس الرؤية المصرية وتوجهات القيادة السياسية ممثلة فى فكر ورؤى الرئيس عبدالفتاح السيسى، لتقديم صورة شاملة ودقيقة عن مسار السياسة الخارجية المصرية فى عقد حاسم من تاريخها المعاصر.

القسم الأول- سياق ما بعد 30 يونيو.. تحديات ومرتكزات السياسة الخارجية المصرية

شكلت ثورة الثلاثين من يونيو 2013 منعطفا تاريخيا حاسما فى مسيرة الدولة المصرية الحديثة، حيث لم تقتصر تداعياتها العميقة على إعادة هيكلة المشهد السياسى والاجتماعى الداخلى فحسب، بل امتدت لتلقى بظلالها الكثيفة على مجمل توجهات السياسة الخارجية المصرية ومحددات حركتها فى بيئة إقليمية ودولية بالغة التعقيد والاضطراب. فبعد سنوات من التحولات الجذرية التى أعقبت ثورة 25 يناير 2011، وما صاحبها من تحديات أمنية، واقتصادية، وسياسية، جاءت ثورة 30 يونيو لتمثل استجابة شعبية واسعة لتصحيح المسار والحفاظ على هوية الدولة الوطنية ومؤسساتها، ولتؤسس لمرحلة جديدة سعت فيها مصر لاستعادة توازنها الداخلى وتأكيد حضورها الفعال على الساحة الدولية. وجدت الدبلوماسية المصرية نفسها أمام مهمة شاقة ومزدوجة: الدفاع عن شرعية التغيير السياسى الذى حدث فى الداخل وتوضيح حقيقته للعالم الخارجى فى مواجهة حملات تشويه ممنهجة، وفى الوقت ذاته، التعامل مع تركة ثقيلة من التحديات الإقليمية المتفاقمة والمصالح الوطنية التى تتطلب حماية وصونا فى ظل مناخ دولى متغير.

كانت البيئة الإقليمية التى ورثتها مصر بعد 30 يونيو تتسم بدرجة غير مسبوقة من السيولة الاستراتيجية والتفتت. فالمنطقة العربية كانت تشهد موجات عاتية من عدم الاستقرار، تمثلت فى انهيار أو ضعف مؤسسات الدولة الوطنية فى عدد من البلدان المحورية، مثل ليبيا، وسوريا، واليمن، وصعود التنظيمات الإرهابية والمتطرفة التى استغلت حالة الفراغ الأمنى والسياسى لتتمدد وتهدد أمن المنطقة برمتها، وتزايد حدة الاستقطاب الإقليمى والتدخلات الخارجية فى الشئون الداخلية للدول العربية. هذه التحديات لم تكن مجرد قضايا خارجية بعيدة، بل كانت تمس صميم الأمن القومى المصرى، سواء عبر الحدود الغربية الممتدة مع ليبيا التى تحولت إلى بؤرة للفوضى والإرهاب، أو من خلال التهديدات القادمة من سيناء بفعل نشاط الجماعات المتطرفة، أو عبر التأثيرات غير المباشرة لعدم الاستقرار الإقليمى على المصالح الاقتصادية والأمنية المصرية الأوسع. كما شكلت قضية سد النهضة الإثيوبى تحديا وجوديا يتعلق بأمن مصر المائى وحقها التاريخى فى مياه النيل، وهو ما تطلب جهودا دبلوماسية مكثفة ومعقدة للحفاظ على هذه الحقوق.

داخليا، كانت الدولة المصرية تواجه تحديات اقتصادية ضخمة، تمثلت فى تراجع معدلات النمو، وارتفاع معدلات البطالة والتضخم، والحاجة الملحة لإعادة بناء الثقة فى الاقتصاد المصرى وجذب الاستثمارات الأجنبية لدفع عجلة التنمية. هذا الوضع الداخلى كان له انعكاساته المباشرة على السياسة الخارجية، حيث أصبح تحقيق الاستقرار الاقتصادى والتنمية المستدامة هدفا رئيسيا للدبلوماسية المصرية، يتطلب بناء شراكات اقتصادية قوية وتنويع مصادر الدعم والتعاون الدولى. كما كان لزاما على السياسة الخارجية أن تعمل على حشد الدعم الدولى لمصر فى حربها ضد الإرهاب، وتأكيد الرواية المصرية للأحداث فى مواجهة محاولات العزل أو التشكيك التى قادتها بعض القوى الإقليمية والدولية.

فى مواجهة هذا المشهد المعقد، كان لا بد للسياسة الخارجية المصرية أن تعيد تحديد أولوياتها وترتيب أدواتها. وقد ارتكزت المقاربة المصرية فى مرحلة ما بعد 30 يونيو، تحت قيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى، على مجموعة من المبادئ والمرتكزات الأساسية التى هدفت إلى تحقيق التوازن بين الحفاظ على الثوابت التاريخية للدبلوماسية المصرية وبين التكيف مع المتغيرات الجديدة. تمثل المبدأ الأول فى استقلالية القرار الوطنى ورفض أى شكل من أشكال التبعية أو التدخل الخارجى فى الشئون المصرية. وارتبط بذلك السعى نحو سياسة خارجية متوازنة تقوم على تنويع العلاقات والشركاء الدوليين، وعدم وضع كافة الأوراق فى سلة واحدة، والانفتاح على القوى الكبرى (الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، والاتحاد الأوروبى) والقوى الإقليمية الصاعدة، بما يخدم المصلحة الوطنية المصرية العليا.

المبدأ الثانى تمثل فى الالتزام الثابت بمبادئ القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة، وعلى رأسها احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها، وعدم التدخل فى شئونها الداخلية، وحل النزاعات بالطرق السلمية. وقد شكل هذا المبدأ الإطار الحاكم لمواقف مصر تجاه الأزمات الإقليمية المختلفة، حيث أكدت مصر على دعمها للدولة الوطنية ومؤسساتها فى ليبيا، وسوريا، واليمن، والعراق، ورفضها للحلول العسكرية ودعمها للمسارات السياسية التى يقودها أبناء هذه الدول بأنفسهم.

المبدأ الثالث هو الحفاظ على الأمن القومى العربى باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومى المصرى، والعمل على تعزيز التضامن العربى وآليات العمل المشترك لمواجهة التحديات المشتركة، وفى مقدمتها الإرهاب والتدخلات الخارجية.

أما المبدأ الرابع، فتمثل فى الدفاع المستمر عن القضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية لمصر والعرب، والتأكيد على الحقوق الفلسطينية المشروعة وغير القابلة للتصرف، وعلى رأسها حق إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. وقد واصلت مصر دورها التاريخى كوسيط نزيه وفعال فى هذا الملف، سواء فى رعاية جهود المصالحة الفلسطينية أو فى التهدئة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والدفاع عن الحقوق الفلسطينية فى كافة المحافل الدولية.

وأخيرا، شكل البعد الإفريقى مرتكزًا أساسيًا فى السياسة الخارجية المصرية، حيث أكدت مصر على انتمائها الإفريقى، وعملت على تعزيز علاقاتها مع دول القارة فى كافة المجالات، مع إيلاء اهتمام خاص لدول حوض النيل وقضايا المياه والتنمية المستدامة ومكافحة الإرهاب فى القارة السمراء.

لقد فرضت تحديات ما بعد 30 يونيو على الدبلوماسية المصرية ضرورة تبنى رؤية شاملة واستراتيجية واضحة المعالم، قادرة على حماية المصالح الوطنية فى بيئة مضطربة، مع التمسك بالمبادئ الراسخة التى طالما شكلت هوية السياسة الخارجية المصرية. وكانت هذه الرؤية، التى وضعها الرئيس السيسى، هى الأساس الذى انطلقت منه مصر لاستعادة دورها وتأثيرها، والتعامل بحكمة وعقلانية مع تعقيدات المشهد الإقليمى والدولى.

القسم الثانى- إدارة الأزمات الإقليمية.. ثوابت الموقف المصرى فى مواجهة الاضطراب

مثلت الأزمات المتفجرة فى المحيط الإقليمى لمصر، لا سيما فى ليبيا، وسوريا، واليمن، بالإضافة إلى التحديات المستمرة فى السودان، اختبارًا حقيقيًا لقدرة السياسة الخارجية المصرية بعد ثورة 30 يونيو على التعامل مع بيئة شديدة السيولة, والتقلب، والخطورة. وقد تبنت مصر فى تعاملها مع هذه الأزمات مقاربة استندت إلى المبادئ الثابتة التى تم تحليلها فى القسم السابق، وهى مقاربة جمعت بين الحزم فى الدفاع عن الأمن القومى المصرى والمصالح الحيوية، وبين الالتزام بمبادئ الشرعية الدولية، ودعم الدولة الوطنية ومؤسساتها، ورفض التدخلات الخارجية، والسعى الدءوب نحو الحلول السياسية السلمية التى تلبى تطلعات شعوب المنطقة فى الأمن والاستقرار والتنمية، بما يكفل تحقيق "المكسب للجميع".

أولًا- سد النهضة وأمن مياه النيل.. معركة الوجود والحسابات الاستراتيجية

يُعد ملف سد النهضة الإثيوبى واحدًا من أبرز التحديات الجيوسياسية التى واجهت مصر فى العقد الأخير، وخاصة بعد ثورة 30 يونيو 2013، إذ أعاد هذا الملف تعريف أولويات السياسة الخارجية المصرية، وأظهر تداخلات الأمن المائى مع الأمن القومى، فضلًا عن كونه اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة على إدارة صراع ممتد تلتزم فيه بمبادئها، فى الوقت الذى تتداخل فيه الأبعاد التنموية مع الأبعاد السياسية والعسكرية، وتتقاطع فيه المصالح الإقليمية والدولية.

1- الأمن المائى كقضية وجود لا تحتمل التنازل:

تنطلق المقاربة المصرية من إدراك راسخ بأن نهر النيل ليس مجرد مورد طبيعى، بل هو مسألة وجودية لا تحتمل المساومة. تعتمد مصر على نهر النيل فى أكثر من 68% من مواردها المائية، فى ظل غياب مصادر بديلة كافية للمياه الجوفية أو الأمطار أو التحلية. ويمثل النهر شريان حياة لأكثر من 100 مليون مواطن، وتخضع الزراعة والصناعة ومياه الشرب بشكل شبه كلى لتدفقاته.

من هذا المنطلق، يُعد أى تقليص فى حصة مصر المائية، نتيجة لإجراءات أحادية من قبل إثيوبيا، تهديدًا مباشرًا لحياة الملايين، وللاستقرار الاجتماعى والاقتصادى للدولة. ومن ثم، لم يكن مستغربًا أن يصف الرئيس عبدالفتاح السيسى مرارًا أمن المياه بأنه "خط أحمر"، بقوله: "المساس بحقوق مصر المائية خط أحمر لا يمكن تجاوزه".

2- استراتيجية التفاوض المرن وطويل النفس:

اعتمدت القاهرة على نهج تفاوضى مرن، متعدد المسارات والأدوات، بهدف التوصل إلى حل دبلوماسى شامل وعادل. وجاء توقيع "اتفاق إعلان المبادئ" عام 2015، ليشكل نقطة انطلاق لهذا المسار، حيث اتفقت مصر، والسودان، وإثيوبيا على احترام مبدأ الاستخدام العادل والمنصف للمياه، دون الإضرار الجسيم بأى طرف.

إلا أن المفاوضات، التى توالت لاحقًا برعاية الاتحاد الإفريقى، والولايات المتحدة، والبنك الدولى، كشفت عن فجوة عميقة فى المواقف. ففى مفاوضات واشنطن (2019-2020)، انسحبت إثيوبيا من التوقيع على المسودة النهائية، رغم توافق مصر والسودان على بنودها. وبرغم ذلك، لم تغلق القاهرة باب الحوار، بل واصلت طرح مقترحات فنية وقانونية تحفظ لإثيوبيا حقها فى التنمية، ولدول المصب حصصها المائية التاريخية، وفقًا لاتفاقيات 1902 و1929 و1959.

3- تدويل القضية: من النزاع الفنى إلى الأمن الدولى:

عندما اتضح أن التفاوض لا يحقق تقدمًا، قررت مصر نقل الملف إلى المنصات الدولية، وفى مقدمتها مجلس الأمن الدولى، الذى طُرح عليه الملف مرتين فى عامى 2020 و2021. وقد سعت القاهرة من خلال هذا التحرك إلى تأطير النزاع بوصفه تهديدًا للأمن والسلم الدوليين، وليس مجرد خلاف فنى.

واستندت مصر فى مرافعاتها إلى مبادئ القانون الدولى، وأكدت على ضرورة وجود اتفاق قانونى ملزم يحدد آليات ملء وتشغيل السد. وقد حصل هذا التوجه على دعم عدد من القوى الكبرى، من بينها الولايات المتحدة، وفرنسا، والاتحاد الأوروبى، والاتحاد الإفريقى.

4- توسيع النفوذ فى دول حوض النيل:

أدركت القاهرة أن نجاحها فى إدارة ملف السد يتطلب توسيع نطاق العلاقات الثنائية مع دول حوض النيل الأخرى، لتقليل الاعتماد على الموقف الإثيوبى المنفرد، وتعزيز شبكات التعاون الإقليمى. لذلك، نشطت مصر فى تنفيذ مشروعات مشتركة فى مجالات الرى، والطاقة، والبنية التحتية، مع دول، مثل أوغندا، وكينيا، وتنزانيا، وجنوب السودان.

كما حرص الرئيس السيسى على زيارة معظم دول حوض النيل، فى إطار ما أطلق عليه "الدبلوماسية الرئاسية المباشرة"، التى هدفت إلى بناء الثقة وتعزيز الحضور المصرى فى العمق الإفريقى، بما يتجاوز النزاع مع إثيوبيا، ويكرس لمبدأ "المكسب للجميع".

5- خطاب الردع والتصعيد المسئول:

على الرغم من تمسك مصر بالحل السلمى، فإنها لم تتخلَّ عن خطاب الردع فى مواجهة ما تعتبره تعنتًا إثيوبيًا. وقد ظهر ذلك فى تصريحات مباشرة للرئيس السيسى، أبرزها فى مارس 2021، حيث قال: "كل الخيارات مفتوحة، ومياه مصر لا مساس بيها".

ورافق هذا الخطاب تصعيدًا محسوبًا فى القدرات العسكرية، لا سيما فى الاتجاه الاستراتيجى الجنوبى. فشهدت القوات المسلحة المصرية تعزيزات نوعية، منها افتتاح قاعدة "برنيس" العسكرية على البحر الأحمر، وتحديث الأسطول البحرى، وتكثيف التدريبات مع دول الخليج وإفريقيا، ما رسّخ رسالة واضحة مفادها أن مصر لن تسمح بفرض الأمر الواقع، لكنها أيضًا لا تسعى للحرب.

6- حشد الدعم العربى والدولى:

أدركت مصر أهمية تعبئة الدعم العربى والدولى لموقفها، وهو ما انعكس فى بيانات جامعة الدول العربية المتكررة منذ عام 2020، والتى أكدت أن الأمن المائى المصرى هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومى العربى. كما أبدت دول، مثل السعودية، والإمارات، والكويت مواقف داعمة لمصر، سواء فى البيانات السياسية أو فى الكواليس الدبلوماسية.

أما دوليًا، فقد أبدت الولايات المتحدة تفهمًا واضحًا للمخاوف المصرية. وأكد وزير الخارجية الأمريكى الأسبق مايك بومبيو أن "مصر لديها حق مشروع فى القلق على أمنها المائى"، فى حين اعتبرت بعض الدول الأوروبية أن استمرار النهج الأحادى الإثيوبى يقوّض الاستقرار الإقليمى فى شرق إفريقيا.

ثانيًا- الأزمة فى فلسطين.. صراع ممتد وتحديات متجددة

تظل القضية الفلسطينية هى القضية المركزية بالنسبة للأمن القومى المصرى، وتشهد تطورات وأزمات متلاحقة تعكس عمق الصراع وتعقيداته. يتمحور جوهر الأزمة حول استمرار الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية، والتوسع الاستيطانى، والحرب التى تشن على قطاع غزة بين الحين والآخر وآخر ذلك حرب الإبادة التى يمارسها جيش الاحتلال منذ أكتوبر 2023 لتحقيق أهداف التهجير وتصفية القضية الفلسطينية، والانقسام السياسى الفلسطينى الداخلى، فضلا عن تدهور الأوضاع الإنسانية والاقتصادية بشكل كبير. وقد شهدت السنوات الأخيرة تصاعدًا فى وتيرة العنف والمواجهات، خاصة فى القدس، والضفة الغربية، وقطاع غزة، مما أسفر عن سقوط العديد من الضحايا وتدمير البنية التحتية.

تتعدد أبعاد الأزمة الفلسطينية، فمن الناحية السياسية، لا يزال الجمود يسيطر على عملية السلام، مع غياب أفق حقيقى للتوصل إلى حل الدولتين الذى يحظى بإجماع دولى فى ضوء عدم انصياع حكومة الاحتلال لمطالبات المجتمع الدولى والصوت المصرى الرشيد لوقف إطلاق النار فى قطاع غزة، والبدء فى عملية التعافى المبكر وإعادة الإعمار وفقًا للخطة العربية والإسلامية المعتمدة فى القمة العربية الطارئة التى انعقدت فى القاهرة، من أجل البدء فى مرحلة المفاوضات النهائية. وتواجه السلطة الوطنية الفلسطينية من جهة أخرى تحديات كبيرة فى ظل استمرار الاحتلال والانقسام الداخلى، مما يضعف قدرتها على تلبية احتياجات الشعب الفلسطينى وتحقيق تطلعاته الوطنية. أما على الصعيد الإنسانى، فإن الأوضاع فى قطاع غزة، الذى يعيش فيه أكثر من مليونى فلسطينى تحت حصار خانق منذ سنوات، فهو يمر بمرحلة كارثية بكل المقاييس نتيجة الحرب الممتدة منذ أكتوبر 2023 والتى ترتكز على التجويع وتدمير البنية الأساسية، حيث يعانى السكان من نقص حاد فى الغذاء، والدواء، والمياه، والكهرباء، وارتفاع معدلات البطالة والفقر إلى مستويات غير مسبوقة. كما أن هذا العدوان يزيد من معاناة المدنيين ويؤدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية.

يشكل الموقف المصرى تجاه القضية الفلسطينية ركيزة أساسية فى السياسة الخارجية المصرية، وينطلق من ثوابت تاريخية وقومية تتمثل فى دعم حقوق الشعب الفلسطينى المشروعة، وفى مقدمتها حقه فى تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وتلعب مصر دورًا محوريًا ومركزيًا فى جهود الوساطة بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى، وفى محاولات رأب الصدع الفلسطينى الداخلى وتحقيق المصالحة الوطنية. كما تبذل مصر جهودًا كبيرة لتقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية للشعب الفلسطينى، خاصة فى قطاع غزة الذى بلغ حجم المساهمة المصرية فى المساعدات التى نفذت من خلاله ما يصل إلى 80% من مجمل المساعدات، وتعمل على تخفيف آثار ذلك الحصار من خلال حرصها على فتح معبر رفح البرى بشكل منتظم للحالات الإنسانية ونقل المساعدات. وتؤكد مصر دائمًا على ضرورة التوصل إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية وفقًا لقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية، باعتبار ذلك السبيل الوحيد لتحقيق الأمن والاستقرار فى المنطقة. كما تحذر مصر باستمرار من تداعيات استمرار الوضع الراهن، وتدعو المجتمع الدولى إلى تحمل مسئولياته فى الضغط على إسرائيل لوقف ممارساتها غير القانونية والعودة إلى مسار المفاوضات الجادة.

ثالثًا- الملف الليبى.. الجوار الملتهب وتوازنات الأمن القومى

شكلت الأزمة الليبية، بحكم الجوار الجغرافى المباشر والحدود البرية الممتدة لأكثر من ألف كيلومتر، التحدى الأمنى الأبرز للأمن القومى المصرى عقب ثورة 30 يونيو 2013. إذ أدى الانهيار المؤسسى فى ليبيا بعد أحداث 2011 إلى تحول أراضيها إلى بيئة خصبة للتنظيمات الإرهابية والمتطرفة، فضلًا عن تنامى شبكات الهجرة غير الشرعية وتجارة السلاح والجريمة المنظمة العابرة للحدود.

أمام هذا الواقع، تبنت مصر مقاربة استراتيجية شاملة لإدارة الملف الليبى، جمعت بين الحزم فى حماية الأمن القومى والانخراط البنّاء فى جهود التسوية السياسية، انطلاقًا من إيمانها بأن استقرار ليبيا ليس خيارًا بل ضرورة حيوية لأمن مصر ومحيطها الإقليمى.

1- دعم الجيش الوطنى وتثبيت مؤسسات الدولة:

ركزت القاهرة منذ البداية على أهمية بناء وتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية باعتبارها حجر الزاوية فى إعادة الاستقرار، وساندت الجيش الوطنى الليبى بقيادة المشير خليفة حفتر فى مواجهته للتنظيمات الإرهابية فى بنغازى، ودرنة، وسرت. وظل الموقف المصرى ثابتًا فى التأكيد على ضرورة قيام جيش وطنى موحد قادر على فرض القانون والسيادة، بعيدًا عن هيمنة الميليشيات والكيانات الموازية.

2- المسار السياسى: من إعلان القاهرة إلى الاستحقاقات الانتخابية:

فى يونيو 2020، أطلقت مصر "إعلان القاهرة"، الذى طرح خارطة طريق سياسية شاملة، شملت وقف إطلاق النار، وتفكيك الميليشيات، وتوحيد المؤسسات الليبية، وصولًا إلى إجراء انتخابات. وقد حظى الإعلان بدعم إقليمى ودولى، وشكل قاعدة لمخرجات لجنة 5+5 العسكرية المشتركة، التى ساهمت فى تثبيت الهدوء الميدانى.

ومنذ عام 2021، دعمت مصر كل المسارات السياسية التى قادتها الأمم المتحدة، من ملتقى الحوار السياسى إلى جهود البعثة الأممية لتقريب وجهات النظر بين البرلمان والمجلس الأعلى للدولة. كما استضافت القاهرة جولات تفاوض بين الفرقاء الليبيين، وشاركت بفعالية فى اجتماعات دول الجوار واللجنة الإفريقية رفيعة المستوى.

وفى ضوء تعثر إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية فى ديسمبر 2021، سعت مصر إلى الدفع نحو توافقات دستورية وقانونية تُنهى الانسداد السياسى، مع التشديد على ضرورة احترام الإرادة الشعبية الليبية، ورفض فرض ترتيبات انتقالية جديدة دون توافق وطنى.

3- مواجهة الإرهاب وتأمين الحدود:

واصلت مصر تأمين حدودها الغربية كأولوية أمنية قصوى، ورفعت من درجة جاهزيتها العسكرية فى الاتجاه الاستراتيجى الغربى. وشهدت الفترة ما بين 2020 و2024 تنفيذ تدريبات مشتركة وتمارين ميدانية، بالتعاون مع ليبيا وعدد من الدول الصديقة، لمواجهة تهديدات الإرهاب وتهريب السلاح والعناصر المتطرفة.

كما احتفظت القاهرة بحقها فى التدخل المباشر للدفاع عن أمنها القومى فى حال تعرضه لتهديد حقيقى، وهو ما تم تأكيده بوضوح فى خطاب الرئيس السيسى بمدينة سيدى برانى فى يوليو 2020، عندما اعتُبر خط "سرت-الجفرة" خطًا أحمر للأمن القومى المصرى والليبى على حد سواء.

4- رفض التدخلات الخارجية والميليشيات المرتزقة:

استمر الموقف المصرى فى التصدى لأى تدخلات أجنبية غير شرعية فى الشأن الليبى، خاصة ما يتعلق بالتدخل الميدانى أو نقل للمرتزقة. وقد عملت مصر، بالتنسيق مع الأطراف الإقليمية والدولية، على الدفع نحو خروج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، تنفيذًا لمخرجات مؤتمرى برلين الأول والثانى، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة.

5- مسارات التنمية والدعم الإنسانى:

تجاوز الدور المصرى البعد الأمنى والسياسى، ليشمل الدعم التنموى والإنسانى للشعب الليبى، من خلال إعادة فتح السفارة المصرية فى طرابلس عام 2021، وتوقيع اتفاقيات تعاون فى مجالات الكهرباء، والبنية التحتية، والتعليم. كما تم تنظيم قوافل طبية ومساعدات إنسانية، وتعزيز فرص التدريب للكوادر الليبية فى مصر.

وفى عام 2023، تم الإعلان عن إنشاء منطقة اقتصادية مصرية-ليبية مشتركة فى شرق ليبيا، لتعزيز التعاون التجارى والاستثمارى، والمساهمة فى جهود إعادة الإعمار.

وهكذا، حافظت مصر حتى عام 2025 على مقاربة متماسكة للأزمة الليبية، ترتكز على أولوية الأمن القومى، وضرورة الحل السياسى الليبي-الليبى، مع دعم مؤسسات الدولة الليبية الشرعية ورفض أى ترتيبات تكرس الانقسام أو النفوذ الأجنبى، بما يصون مصالح الشعب الليبى ويمنع انزلاق البلاد إلى الفوضى مجددًا. إلا أن عودة الاضطرابات مرة أخرى إلى الداخل الليبى بعد أحداث العنف التى يشهدها الغرب الليبى والتى اندلعت من قلب طرابلس، تفرض مزيدًا من التحديات والاقترابات الحذرة من الجانب المصرى، والاستعداد بمجموعة من السياسات التدخلية المرتكزة على ثوابتها المعلنة فى هذا الملف حال تدهور الأحداث.

رابعًا- الأزمة السورية.. الحفاظ على الدولة الوطنية ومواجهة الإرهاب وتداعيات الصراع الممتد

تبنت مصر موقفًا ثابتًا وواضحًا منذ اندلاع الأزمة السورية فى مارس 2011، يقوم على جملة من المبادئ الأساسية، فى مقدمتها الحفاظ على وحدة وسلامة أراضى الدولة السورية، ورفض محاولات التقسيم أو الهيمنة الأجنبية، مع التأكيد على أن الحل الوحيد والمستدام للأزمة هو الحل السياسى الذى يراعى تطلعات الشعب السورى المشروعة، ويحفظ مؤسسات الدولة الوطنية، ويقضى على التنظيمات الإرهابية التى اتخذت من الفوضى منصة لتهديد أمن سوريا والمنطقة والعالم. وقد اتسمت التدخلات المصرية بالالتزام بتحقيق مصالح الشعب السورى، ويمكننا أن نفرق بين مرحلتين من التدخلات والاستجابات:

أ- مرحلة ما قبل انهيار نظام الأسد:

1- دعم مسار التسوية السياسية تحت مظلة الأمم المتحدة:

منذ البداية أيدت مصر كافة الجهود الأممية الرامية إلى تسوية الأزمة السورية، خصوصًا مسار جنيف وقرار مجلس الأمن رقم 2254 (ديسمبر 2015)، والذى مثل فى هذا الوقت المرجعية الأساسية لأى حل سياسى شامل، يتضمن وقفًا دائمًا لإطلاق النار، وصياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات تحت إشراف أممى، وتشكيل هيئة حكم انتقالية بتوافق السوريين.

وفى الإطار ذاته، واصلت القاهرة دعم المبعوث الأممى حينذاك، فى تحركاته لإحياء اجتماعات اللجنة الدستورية السورية، مع التأكيد على ضرورة شمولية العملية السياسية وعدم الاقتصار على الجوانب التقنية. كما شددت مصر فى كافة المحافل الدولية على ضرورة خلق بيئة آمنة ومحايدة لعودة اللاجئين والنازحين بشكل كريم وطوعى.

2- رفض التدخلات الأجنبية والوجود العسكرى غير الشرعى:

كرّست مصر منذ البداية وحتى الآن موقفها الرافض لأى تدخل عسكرى خارجى غير مشروع على الأراضى السورية، واعتبرت أن وجود قوات أجنبية بدون موافقة الدولة السورية يشكل انتهاكًا صارخًا للسيادة ويؤجج الصراع. وكررت مصر فى بياناتها الرسمية، وفى اجتماعات جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامى، دعواتها لانسحاب جميع القوات الأجنبية والمرتزقة.

3- التواصل مع الدولة السورية واستعادة العلاقات الرسمية:

شهد الموقف المصرى تطورًا ملحوظًا خلال الفترة 2022-2024، تمثل فى الانفتاح التدريجى على الحكومة السورية، فى سياق عربى أوسع لإعادة دمج سوريا فى النظام الإقليمى. وقد دعمت القاهرة قرار عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية فى مايو 2023، وشاركت بفعالية فى القمة العربية بجدة التى شهدت حضور الرئيس السورى بشار الأسد للمرة الأولى منذ أكثر من عقد.

تزامن ذلك مع خطوات عملية لتعزيز التنسيق الأمنى والإنسانى، شملت إرسال مساعدات طبية وغذائية إلى المناطق المتضررة، خاصة بعد الزلزال المدمر الذى ضرب شمال سوريا فى فبراير 2023. كما أجرت القاهرة محادثات مع دمشق حول قضايا اللاجئين وإعادة الإعمار، مع التأكيد على احترام القرار السيادى السورى والتوازن بين إعادة العلاقات وتحقيق تقدم فى المسار السياسى.

4- استعادة دور عربى فعال فى الملف السورى:

دعمت مصر حينها الجهود التى قادتها السعودية، والأردن، والإمارات، لإطلاق مبادرة "خطوة مقابل خطوة"، والتى تسعى إلى تسوية تدريجية تتضمن إجراءات سياسية، وأمنية، وإنسانية متبادلة بين الحكومة السورية والمجتمع الدولى، تمهيدًا لرفع العقوبات واستعادة العلاقات الكاملة. وقد شددت القاهرة على أهمية أن يكون هذا المسار جزءًا من عملية سياسية أشمل، لا بديل عنها، لضمان استدامة الاستقرار فى سوريا والمنطقة.

5- محاربة الإرهاب ودعم الاستقرار الإقليمى:

ظلت مصر تعتبر أن مكافحة الإرهاب فى سوريا شرط أساسى لتحقيق أى تسوية حقيقية، مع التشديد على ضرورة إنهاء الحالة الميليشياوية وضبط السلاح فى إطار مؤسسات الدولة.

كما نبهت مصر إلى المخاطر المتصاعدة التى يشكلها تصاعد التوترات شمال شرقى سوريا، سواء فى مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" أو مناطق النفوذ التركى، مؤكدة أن أى ترتيبات أمنية لا بد أن تتم بالتنسيق مع الحكومة السورية وتحت مظلة الدولة.

ب- مرحلة ما بعد انهيار نظام الأسد:

ومع سقوط نظام الأسد، التزمت مصر بموقف ثابت يقوم على دعم وحدة الدولة السورية، ورفض أى تدخل خارجى، والسعى لحل سياسى شامل يحفظ المؤسسات الوطنية ويستجيب لتطلعات الشعب السورى. حيث دخلت الأزمة مرحلة جديدة تمامًا، أعادت خلط الأوراق داخليًا وإقليميًا، وفرضت على الفعالين الإقليميين، وفى مقدمتهم مصر، مراجعة أدواتهم دون المساس بالثوابت.

1- منع انهيار الدولة السورية:

انطلقت مصر فى تعاملها مع مرحلة ما بعد الأسد من إدراك استراتيجى بأن سقوط النظام لا يجب أن يعنى سقوط الدولة. ومن هذا المنطلق، دعت القاهرة كافة الأطراف الإقليمية والدولية إلى تجنيب سوريا سيناريو الفوضى الشاملة أو التقسيم، وناشدت قوى المعارضة والمكونات المجتمعية إلى تغليب منطق الدولة على منطق الثأر أو المحاصصة.

أعادت مصر التأكيد على أهمية الحفاظ على وحدة الأجهزة السيادية ومؤسسات الدولة المدنية والأمنية، بصرف النظر عن النظام السياسى الذى سيتبلور، محذرة من فراغ أمنى قد تستغله التنظيمات الإرهابية أو القوى المتطرفة.

2- دعم الانتقال السياسى السلمى:

رأت القاهرة أن سقوط النظام لا يُنهى الأزمة بل يفتح فصلًا جديدًا يتطلب إدارة دقيقة للانتقال السياسى. وعليه، قدمت دعمًا دبلوماسيًا لأى ترتيبات انتقالية تُبنى على توافق وطنى سورى واسع، وبرعاية أممية واضحة تستند إلى قرار مجلس الأمن 2254.

شددت مصر فى البداية على ضرورة تشكيل هيئة حكم انتقالية ذات تمثيل عادل، تملك الصلاحيات التنفيذية، وتتولى إدارة شئون البلاد مؤقتًا، لحين إعداد دستور جديد وإجراء انتخابات بإشراف الأمم المتحدة. كما أكدت على أهمية عدم إقصاء أى طرف غير متورط فى الإرهاب أو جرائم الحرب، لضمان شمولية العملية السياسية.

ومع وصول أحمد الشرع لسدة الحكم، تعاملت مصر مع الأمر بكل حكمة ورشادة وعقلانية وفقًا لمقتضيات احترام إرادة الشعب، ولم تتوان القاهرة عن استقباله ممثلًا للدولة السورية فى القمة العربية الطارئة التى انعقدت بالقاهرة مؤخرًا.

3- مواجهة الفوضى والإرهاب:

أعادت مصر التحذير من أن الفوضى فى سوريا تمثل تهديدًا مباشرًا للأمن الإقليمى والعربى، وأكدت استعدادها لدعم أى جهود جماعية لمحاربة الإرهاب وإعادة الاستقرار. وقد دعت إلى نزع سلاح الميليشيات ودمج العناصر المؤهلة منها فى مؤسسات الدولة، بالتوازى مع ضبط الحدود وملاحقة الخلايا النائمة.

4- رفض التدخلات الخارجية ومحاولات الوصاية:

أكدت مصر مجددًا رفضها لأى تدخل عسكرى أو وصاية أجنبية على سوريا، وشددت على أن مستقبل البلاد لا يجب أن يُرسم فى أى عاصمة إقليمية أو دولية، بل ينبغى أن يتحدد على يد السوريين أنفسهم.

وقد حذرت القاهرة من أن القوى الإقليمية قد تحاول استغلال الفراغ لإعادة ترتيب مناطق النفوذ، ما قد يُغرق سوريا فى صراعات طويلة الأمد، ويمزق نسيجها الوطنى. وطالبت بخروج جميع القوات الأجنبية غير الشرعية لاستعادة السيادة السورية.

5- الانخراط فى جهود إعادة الإعمار وعودة اللاجئين

أعربت مصر عن استعدادها للمساهمة فى جهود إعادة الإعمار، بالتعاون مع الشركاء العرب والدوليين، شرط أن تُدار بشفافية وبما يخدم وحدة سوريا. كما أكدت على ضرورة وضع خطة متكاملة لعودة اللاجئين والنازحين، تضمن لهم الأمن والخدمات الأساسية، وتعيد ترميم النسيج الاجتماعى السورى.

بهذه الموقف، واصلت مصر حتى عام 2025 تمسكها بموقف مبدئى ومتوازن من الأزمة السورية، يجمع بين رفض التفكك والتدخلات الأجنبية، ودعم تطلعات الشعب السورى نحو الحرية والكرامة، فى إطار عملية سياسية شاملة تحفظ وحدة الدولة وتضمن عودتها إلى محيطها العربى والدولى. هذا الدور المصرى فى الملف السورى بعد زوال النظام، يؤكد أن مصر دولة تملك رؤية ومسئولية تجاه استقرار المنطقة، انطلاقًا من ثوابتها الراسخة، لكن بأدوات وآليات جديدة تتناسب بمرونة مع التطورات الجارية.

خامسًا- الأزمة اليمنية.. دعم الشرعية والحل السياسى الشامل

انحازت جمهورية مصر العربية منذ بداية الأزمة اليمنية إلى جانب الشرعية الدستورية، ممثلة فى الحكومة المعترف بها دوليًا، ودعمت الجهود الرامية إلى استعادة سيطرة الدولة على كافة الأراضى اليمنية. يأتى هذا الموقف انطلاقًا من ثوابت السياسة الخارجية المصرية التى تؤكد على احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها، ورفض التدخل فى شئونها الداخلية، ودعم الحلول السياسية للأزمات الإقليمية.

شاركت مصر فى التحالف العربى لدعم الشرعية فى اليمن، والذى تشكل فى مارس 2015 بهدف استعادة سلطة الحكومة الشرعية وإنهاء الانقلاب الذى قادته جماعة الحوثى. تركز الدور المصرى فى التحالف بشكل أساسى على تأمين حرية الملاحة فى البحر الأحمر ومضيق باب المندب، نظرًا لأهميتهما الاستراتيجية للأمن القومى المصرى وحركة التجارة الدولية. وقد أكدت مصر فى مناسبات عدة على أن مشاركتها تهدف إلى دعم الاستقرار فى اليمن والمنطقة، وليس لها أى أطماع أخرى.

لذا، أكدت مصر مرارا وتكرارا على أن الحل النهائى للأزمة اليمنية لن يكون عسكريًا، بل يجب أن يكون سياسيًا وشاملًا. ودعمت مصر كافة الجهود والمبادرات الرامية إلى التوصل إلى تسوية سياسية سلمية بين الأطراف اليمنية المتنازعة، بما يحفظ وحدة اليمن واستقراره ويلبى تطلعات شعبه. وفى هذا الإطار، أيدت مصر المرجعيات المتفق عليها لحل الأزمة، والمتمثلة فى المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية، ومخرجات مؤتمر الحوار الوطنى الشامل، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وخاصة القرار رقم 2216 الذى يدعو إلى انسحاب الحوثيين من المدن والمؤسسات الحكومية وتسليم الأسلحة.

كذلك، أولت مصر اهتمامًا كبيرًا بالجوانب الإنسانية للأزمة اليمنية، حيث تدهورت الأوضاع المعيشية بشكل حاد، وانتشرت الأمراض والأوبئة، وازدادت معدلات الفقر والجوع. وقد ساهمت مصر فى تقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية للشعب اليمنى الشقيق، ودعت المجتمع الدولى إلى تكثيف جهوده للتخفيف من معاناة المدنيين وتوفير احتياجاتهم الأساسية. كما استضافت مصر العديد من الجرحى اليمنيين للعلاج فى مستشفياتها، وقدمت الدعم للمنظمات الإنسانية العاملة فى اليمن.

من هنا، تؤكد مصر دائمًا على موقفها الثابت الداعم لوحدة اليمن واستقلاله ووحدة وسلامة أراضيه، وترفض أى محاولات لتقسيمه أو التدخل فى شئونه الداخلية. كما تدعو كافة الأطراف اليمنية إلى تغليب صوت الحكمة والعقل، والجلوس إلى طاولة الحوار للتوصل إلى حل سياسى ينهى الصراع ويحقن الدماء، ويفتح آفاقًا جديدة للتنمية والإعمار فى اليمن. وتشدد مصر على أهمية الدور العربى فى حل الأزمة اليمنية، وضرورة تضافر الجهود الإقليمية والدولية لتحقيق السلام والاستقرار فى هذا البلد العربى الشقيق، بما يخدم مصالح شعبه ويساهم فى تعزيز الأمن والاستقرار فى المنطقة بأسرها.

وقد تعززت هذه الرؤية الاستراتيجية بشكل غير مسبوق مع تصاعد الهجمات الحوثية على الملاحة فى البحر الأحمر منذ أواخر عام 2023، ما فرض على مصر إعادة ترتيب أولوياتها الأمنية والدبلوماسية فى هذا الملف شديد الحساسية.

1- تهديدات الحوثى للملاحة الدولية وأمن البحر الأحمر

مع اشتداد الصراع فى اليمن، دخل الحوثيون مرحلة تصعيدية جديدة من خلال استهداف السفن التجارية وناقلات النفط الغربية فى البحر الأحمر باستخدام الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية، بزعم أن هذه الاستجابة تمثل دعمهم لفلسطين فى ظل العدوان الإسرائيلى على غزة (2023-2025). لكن هذا التصعيد تطور إلى استهداف مباشر لسفن لا علاقة لها بالنزاع، ما اعتُبر تهديدًا خطيرًا لأمن الممرات البحرية الدولية.

بحلول عام 2025، بات واضحًا أن هذه الهجمات لم تكن معزولة، بل جزء من استراتيجية إيرانية أوسع لفرض النفوذ عبر أذرعها الإقليمية، من الحوثيين فى اليمن إلى ميليشيات فى العراق، وسوريا، ولبنان. وقد أدى ذلك إلى زيادة التوترات فى البحر الأحمر، ورفع درجات التأهب العسكرى والدبلوماسى لدول الإقليم.

2- حماية المصالح الحيوية بلا انزلاق مباشر

رغم خطورة التهديدات الحوثية، اتسم الموقف المصرى بالحذر الاستراتيجى. فقد رفضت القاهرة الانخراط العسكرى المباشر فى التحالف الدولى بقيادة الولايات المتحدة (عملية "حارس الرخاء")، التى بدأت فى ديسمبر 2023 لردع الحوثيين، مكتفية بتقديم دعم استخباراتى ولوجستى محدود.

لكن فى المقابل، عززت مصر من وجودها البحرى فى البحر الأحمر، ورفعت جاهزية الأسطول الجنوبى، خاصة فى قاعدتى برنيس وسفاجا، كما كثّفت مناوراتها البحرية مع السعودية، وفرنسا، والولايات المتحدة. حيث المؤكد أن أى تهديد مباشر للملاحة قرب باب المندب أو قناة السويس يعنى تهديدًا مباشرًا للأمن القومى المصرى.

3- التنسيق العربى والإقليمى

تزامن التحرك المصرى مع تنسيق وثيق مع السعودية والإمارات، حيث اعتبرت الدول الثلاث أن أمن البحر الأحمر خط أحمر استراتيجى، وأنه لا يمكن ترك الممرات المائية رهينة للميليشيات أو القوى غير النظامية. وقد دعمت مصر جهود الرياض للوصول إلى اتفاق سياسى شامل فى اليمن، يُنهى الحرب ويُعيد بناء الدولة اليمنية.

كما سعت القاهرة إلى تعزيز التعاون الأمنى مع دول القرن الإفريقى ومحيطه (إريتريا، وجيبوتى، والسودان، والصومال) لمراقبة التحركات البحرية المشبوهة ومنع استخدام السواحل كنقاط انطلاق لتهريب السلاح أو الهجمات البحرية.

4- المواقف الدولية والدعوات لحماية الملاحة

رحبت مصر بالبيانات الدولية التى أدانت هجمات الحوثى، لا سيما من قبل مجلس الأمن والأمم المتحدة، لكنها فى الوقت ذاته حذرت من عسكرة البحر الأحمر أو تحويله إلى ساحة صراع أمريكى-إيرانى. وأكدت أن أمن البحر الأحمر مسئولية إقليمية فى الأساس، ويجب أن تقوم على حلول دبلوماسية تعالج جذور الأزمة، لا فقط مظاهرها العسكرية.

فى هذا السياق، قد يكون من المهم عقد مؤتمر إقليمى أمنى، خاص بـ "أمن البحر الأحمر وباب المندب"، يضم دول الإقليم والقوى الكبرى ذات المصالح فى الممرات المائية، بهدف بلورة ميثاق أمن جماعى يحفظ السيادة الوطنية ويضمن سلامة الملاحة.

5- الدعم المصرى للحل السياسى فى اليمن

رغم التصعيد العسكرى، تمسكت مصر بدعم الحل السياسى فى اليمن، استنادًا إلى مرجعيات معترف بها دوليًا: المبادرة الخليجية، ومخرجات الحوار الوطنى، وقرارات مجلس الأمن، وعلى رأسها القرار 2216. وشددت على ضرورة إشراك كافة القوى اليمنية غير الإرهابية فى ترتيبات انتقالية، مع ضمان وحدة الأراضى اليمنية وسيادة مؤسسات الدولة.

وقد شاركت مصر فى مشاورات متعددة لدفع جهود السلام، بالتعاون مع السعودية ومبعوث الأمم المتحدة، مشددة على ضرورة وقف التدخلات الخارجية، وخاصة الإيرانية، التى تُغذى الصراع وتُقوّض فرص الاستقرار.

6- قناة السويس والتداعيات الاقتصادية للهجمات

تأثرت قناة السويس بشكل مباشر بتصاعد الهجمات الحوثية فى البحر الأحمر منذ أواخر 2023، إذ شهدت انخفاضًا ملحوظًا فى أعداد السفن العابرة، خاصة من شركات الشحن العالمية التى قررت تحويل مساراتها إلى طريق رأس الرجاء الصالح، رغم طوله وتكلفته العالية، تجنبًا لأى مخاطر أمنية. وقد أدى هذا التحول إلى تراجع مؤقت فى عائدات قناة السويس خلال عامى 2024 و2025، وهو ما أقرّت به هيئة القناة، مؤكدة فى الوقت ذاته أن مصر تعمل على تجاوز الأزمة عبر إجراءات تأمين مشددة وتنسيق دولى.

ردًا على هذا التهديد، قامت مصر بتعزيز قدرات المراقبة البحرية على طول المجرى الملاحى، ونشرت وحدات تأمين إضافية فى مناطق المدخل الجنوبى للقناة ومياه البحر الأحمر. كما طرحت الحكومة حوافز إضافية لشركات الشحن والتوكيلات الملاحية، لتشجيعها على الاستمرار فى استخدام القناة رغم المخاطر الإقليمية.

بهذه المقاربة المتوازنة، سعت مصر إلى حماية أمنها القومى، ومنع انتقال الصراع إلى حدودها البحرية المباشرة، وفى الوقت ذاته، المساهمة فى جهود السلام الإقليمى، باعتبار اليمن ركيزة من ركائز أمن الخليج والبحر الأحمر معًا.

سادسًا- التحديات فى السودان.. دعم الاستقرار والانتقال السلمى فى ظل أزمة ممتدة

نظرًا للعلاقات التاريخية والاستراتيجية العميقة التى تربط مصر والسودان، والتى تمتد عبر وادى النيل وتشمل روابط ثقافية، واجتماعية، واقتصادية، وأمنية متشابكة، وارتباط أمنهما القومى بشكل وثيق لا ينفصم، أولت مصر اهتمامًا بالغًا واستثنائيًا للتطورات المتسارعة فى السودان، خاصة بعد التغييرات السياسية التى شهدتها البلاد منذ الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير فى أبريل 2019، وما تلاها من تحديات جسام خلال الفترة الانتقالية، وصولًا إلى اندلاع النزاع المسلح الحالى فى أبريل 2023.

أكدت مصر على دعمها الكامل لاستقرار السودان ووحدة أراضيه وسلامة مؤسساته الوطنية، واحترامها لخيارات الشعب السودانى وتطلعاته المشروعة. وعملت مصر بشكل حثيث على دعم جهود الانتقال السلمى للسلطة فى الفترات التى سبقت النزاع الأخير، وشجعت الحوار بين كافة المكونات السياسية، والعسكرية، والمدنية السودانية للتوصل إلى توافق وطنى يحافظ على الدولة ومؤسساتها، ويحقق تطلعات الشعب السودانى فى الديمقراطية والتنمية والعدالة. كما كثفت مصر من تعاونها مع السودان فى مختلف المجالات، بما فى ذلك التنسيق الأمنى، والعسكرى، والاقتصادى، وتبادل الخبرات، إدراكًا منها لأهمية العلاقة الاستراتيجية بين البلدين الشقيقين وضرورة تعزيزها لمواجهة التحديات المشتركة.

منذ اندلاع الأزمة الأخيرة فى السودان فى 15 أبريل 2023، بين الجيش السودانى وقوات الدعم السريع، تحركت مصر على كافة المستويات الدبلوماسية والإنسانية لاحتواء الأزمة وتداعياتها الخطيرة. دعت مصر بشكل فورى إلى وقف إطلاق النار الشامل والدائم، وحقن دماء الشعب السودانى، وتغليب لغة الحوار. كما استنفرت كافة مؤسساتها المعنية لتقديم الدعم الإنسانى العاجل للأشقاء السودانيين المتضررين من النزاع، سواء داخل السودان أو للذين نزحوا إلى الأراضى المصرية. فتحت مصر حدودها لاستقبال مئات الآلاف من الفارين من ويلات الحرب، وقدمت لهم كافة التسهيلات والمساعدات الطبية والإغاثية اللازمة، انطلاقًا من العلاقات التاريخية بين الشعبين وواجبها الإنسانى والأخوى.

على الصعيد الدبلوماسى، قادت مصر تحركات مكثفة على المستويين الإقليمى والدولى لحشد الجهود الرامية لإنهاء الصراع. وفى هذا الإطار، استضافت القاهرة فى يوليو 2023 قمة "دول جوار السودان"، والتى هدفت إلى بلورة رؤية مشتركة لدول الجوار المباشر للسودان حول سبل إنهاء النزاع، والحفاظ على وحدة السودان وسلامة أراضيه ومؤسساته، ومنع التدخلات الخارجية فى شئونه الداخلية، وتنسيق جهود الإغاثة الإنسانية. وأكدت مخرجات القمة على ضرورة احترام سيادة السودان، ودعم مسار سياسى شامل بمشاركة جميع الأطراف السودانية.

تواصل مصر جهودها الحثيثة مع كافة الأطراف السودانية، والإقليمية، والدولية المعنية، من أجل التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية لكافة المناطق المتضررة، وإطلاق عملية سياسية شاملة تفضى إلى تشكيل حكومة مدنية انتقالية تمهد الطريق لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتحقيق السلام والاستقرار الدائم فى السودان. وتؤكد مصر أن أمن واستقرار السودان هو جزء لا يتجزأ من أمن واستقرار مصر والمنطقة بأسرها. ومع حلول عام 2025، تزايدت التحذيرات من تفكك السودان ما لم يتم التوصل إلى تسوية شاملة، وهو ما دفع مصر إلى تكثيف تحركاتها الإقليمية والدولية، بالتوازى مع تعزيز حضورها على الأرض فى المناطق الحدودية وتأمين مصالحها الحيوية، مؤكدة أن أمن السودان واستقراره يشكلان امتدادًا مباشرًا للأمن القومى المصرى.

سابعًا- الأزمة فى لبنان.. تحديات متراكمة ومستقبل غامض

يعانى لبنان من أزمة متعددة الأوجه هى الأسوأ فى تاريخه الحديث، حيث تتداخل الأبعاد الاقتصادية، والمالية، والسياسية، والاجتماعية بشكل معقد. فمنذ أواخر عام 2019، دخل الاقتصاد اللبنانى فى دوامة من الانهيار المتسارع، تجلت فى تدهور قيمة العملة الوطنية بشكل غير مسبوق، وارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات قياسية، وفرض قيود قاسية على السحوبات المصرفية، مما أدى إلى تجميد ودائع المواطنين وتقويض الثقة فى القطاع المصرفى الذى كان يعتبر ركيزة أساسية للاقتصاد. وقد انخفض الناتج المحلى الإجمالى بشكل حاد، حيث تشير التقديرات إلى انكماش تجاوز 50% خلال عامين فقط (2019-2021)، وتفاقمت معدلات البطالة والفقر، إذ يعيش أكثر من 70% من السكان تحت خط الفقر وفقا لتقديرات الأمم المتحدة.

تتعدد أسباب هذه الأزمة العميقة، فمنها ما هو هيكلى ومتراكم عبر عقود من السياسات الاقتصادية غير المستدامة، والفساد المستشرى فى مؤسسات الدولة، وسوء الإدارة، والاعتماد المفرط على التدفقات الخارجية ورأس المال المضارب. ومنها ما هو مرتبط بالتطورات الإقليمية والدولية، مثل تداعيات الأزمة السورية، وتراجع الدعم المالى من الدول الخليجية، وتأثير جائحة كوفيد-19. كما ساهم انفجار مرفأ بيروت فى أغسطس 2020 فى تعميق الكارثة، حيث ألحق أضرارًا أمنية، ومادية، واقتصادية هائلة بالعاصمة، وقدر البنك الدولى خسائره بنحو ثمانية مليارات دولار، مما زاد من الضغط على البنية التحتية المتهالكة أصلًا.

على الصعيد السياسى، شهد لبنان حالة من الشلل المؤسسى والفراغ الرئاسى المتكرر، وصعوبة فى تشكيل الحكومات، وتجاذبات حادة بين القوى السياسية المختلفة، مما أعاق اتخاذ القرارات الإصلاحية الضرورية. كما أن التدخلات الإقليمية والخارجية تزيد من تعقيد المشهد، وتجعل من الصعب التوصل إلى توافق وطنى حول القضايا المصيرية. وقد أدت هذه الأوضاع إلى تزايد حالة اليأس والإحباط لدى المواطنين، واندلاع احتجاجات شعبية واسعة تطالب بالتغيير ومحاسبة المسئولين عن الانهيار.

أما الموقف المصرى تجاه الأزمة اللبنانية، فقد تمثل فى التأكيد المستمر على دعم استقرار لبنان ووحدته وسيادته، وتقديم المساعدات الإنسانية والطبية للشعب اللبنانى، خاصة بعد انفجار مرفأ بيروت. كما دعت مصر كافة الأطراف اللبنانية إلى تغليب المصلحة الوطنية العليا، والإسراع فى تشكيل حكومة قادرة على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، والتعاون مع المجتمع الدولى للحصول على الدعم اللازم. وأكدت مصر دومًا على أهمية النأى بلبنان عن الصراعات الإقليمية، ورفض أى تدخلات خارجية فى شئونه الداخلية، مع التشديد على أن الحل يجب أن يكون لبنانيًا خالصًا يلبى تطلعات الشعب اللبنانى فى الأمن والاستقرار والازدهار.

حدثت انفراجة عام 2025، حيث شهد تطورًا سياسيًا مهمًا تمثل فى انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة فى مطلع العام، بعد فراغ رئاسى، وشلل سياسى حال دون اتخاذ قرارات إصلاحية جوهرية. وقد جاء هذا الانفراج مدعومًا بجهود دولية وإقليمية شاركت فيها مصر، وفرنسا، وقطر، من أجل إعادة تفعيل مؤسسات الدولة اللبنانية وتمكينها من مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

ورغم هذا التطور، لا تزال التحديات كبيرة، خاصة فى ضوء تصاعد التوترات الأمنية جنوبا بين "حزب الله" وإسرائيل منذ أواخر 2023، والتى دفعت لبنان إلى حافة الانزلاق فى صراع إقليمى واسع. وتثير هيمنة "حزب الله" على القرار العسكرى والأمنى خارج إطار الدولة، ومشاركته فى نزاعات إقليمية بالنيابة، قلقًا متزايدًا داخل لبنان وخارجه، لا سيما مع اتساع نطاق استخدام الأراضى اللبنانية كمنصة لإطلاق صواريخ واستهدافات متبادلة بين "حزب الله" وإسرائيل تهدد السلم الأهلى وسلامة الأراضى اللبنانية.

فى هذا السياق، أكدت مصر فى بياناتها الرسمية ومشاركاتها فى المحافل الدولية دعمها الثابت للبنان الموحد ذى السيادة، ورفضها القاطع لتحويله إلى ساحة تصفية حسابات خارجية. كما شددت على أهمية حصر السلاح فى يد الدولة اللبنانية، وتمكين الجيش والمؤسسات الأمنية الرسمية من بسط سيطرتها على كامل الأراضى اللبنانية. وحذرت القاهرة من خطورة الانزلاق إلى مواجهة شاملة لا يتحمل لبنان تداعياتها فى ظل هشاشته الاقتصادية والاجتماعية.

على الجانب الإنسانى، واصلت مصر تقديم المساعدات الطبية والإغاثية للبنان، وأكدت دعمها لأى حكومة تعمل على تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الضرورية، والتعاون مع صندوق النقد الدولى، واستعادة ثقة المجتمع الدولى. كما دعت إلى إطلاق حوار وطنى لبنانى صادق يضع حلولا دائمة لقضايا السيادة، والهوية الوطنية، والعدالة الاجتماعية، ومكافحة الفساد، بما يحقق تطلعات الشعب اللبنانى فى الأمن والاستقرار والازدهار.

لعل ما سبق هو ما أكد عليه الرئيس السيسى فى زيارة الرئيس اللبنانى جوزيف عون للقاهرة فى مايو الماضى، حيث أكد على: "دعم جهود لبنان فى إعادة الإعمار، من خلال الاستفادة من الخبرات المصرية الرائدة، فى هذا المجال. مشددًا على موقف مصر الثابت فى دعم لبنان، سواء من حيث تحقيق الاستقرار الداخلى، أو صون سيادته الكاملة، والرفض القاطع لانتهاكات إسرائيل المتكررة ضد الأراضى اللبنانية، وكذلك احتلال أجزاء منها. وأن مصر ستواصل مساعيها المكثفة، واتصالاتها مع مختلف الأطراف الإقليمية والدولية، لدفع إسرائيل نحو انسحاب فورى وغير مشروط، من كامل الأراضى اللبنانية، واحترام اتفاق وقف الأعمال العدائية، والتنفيذ الكامل والمتزامن، لقرار مجلس الأمن رقم (1701) دون انتقائية، بما يضمن تمكين الدولة اللبنانية، من بسط سيادتها على أراضيها، وتعزيز دور الجيش اللبنانى، فى فرض نفوذه جنوب "نهر الليطانى". مطالبًا المجتمع الدولى بتحمل مسئولياته تجاه إعادة إعمار لبنان، وحث الهيئات الدولية والجهات المانحة على المشاركة بفعالية فى هذا الجهد، لضمان عودة لبنان إلى مساره الطبيعى على طريق السلام والتعايش والمحبة فى المنطقة".

ثامنًا- الأزمة فى العراق.. تحديات الأمن وإعادة الإعمار

مر العراق فى عام 2025 بمرحلة حساسة للغاية، حيث واجه تحديات أمنية، واقتصادية، وسياسية معقدة، بعد سنوات طويلة من الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية التى أثرت بشكل كبير على استقراره وتنميته. على الرغم من التحسن النسبى فى الوضع الأمنى، تبقى هناك العديد من العقبات التى تعترض جهود الحكومة فى بسط سيطرتها الكاملة على الأراضى العراقية، بالإضافة إلى التصدى لفلول التنظيمات الإرهابية. كما تظل آثار النزاعات الطائفية والعرقية والتدخلات الإقليمية تهدد استقرار العراق.

حيث تشكل التحديات الاقتصادية ضغطًا كبيرًا على الحكومة العراقية، فالعراق يعتمد بشكل شبه كامل على صادرات النفط، ما يجعل اقتصاده عرضة لتقلبات الأسواق العالمية. ورغم المحاولات لتنويع مصادر الدخل القومى وإضافة قطاعات اقتصادية جديدة، إلا أن الجهود لم تكن كافية لتوفير فرص العمل الكافية للشباب أو لإعادة إعمار البنية التحتية التى تعرضت للتدمير خلال الصراعات الأخيرة. علاوة على ذلك، تظل الإشكاليات الإدارية والمالية عقبة كبيرة فى طريق التنمية المستدامة والإصلاحات الاقتصادية الضرورية.

أما على الصعيد السياسى، فالعراق لا يزال يواجه تحديات فى بناء مؤسسات وطنية قوية قادرة على مواجهة تجاذبات الكتل السياسية المتعددة. يؤثر التدخل الإقليمى والدولى فى الشأن الداخلى بشكل مستمر، ويؤثر فى التوازن السياسى والقرار السيادى فى العراق. ولكن الحكومة العراقية تواصل جهودها لتعزيز سيادتها الوطنية، وإيجاد توازن فى علاقاتها مع دول الجوار والمجتمع الدولى، ولعل استضافة العراق للقمة العربية الأخيرة فى مايو الماضى إشارة إلى تعزيز دور العراق فى المنطقة العربية. بما يعكس العودة القوية للعراق إلى الساحة العربية، حيث يولى اهتمامًا خاصًا بالقضايا العربية المشتركة، بما فى ذلك الأمن، والتنمية، والتعاون الاقتصادى.

يعد الموقف المصرى تجاه العراق موقفًا ثابتًا وداعمًا لوحدة واستقرار العراق، حيث ترفض مصر أى تدخلات فى الشأن الداخلى العراقى. حيث تؤكد القاهرة دائمًا على أهمية الحفاظ على الهوية الوطنية العراقية وتعزيز المصالحة بين كافة مكونات الشعب العراقى. وقد شاركت مصر بشكل فعال فى دعم العراق خلال حربه ضد الإرهاب، ووفرت الدعم اللازم فى جهود إعادة إعمار المناطق المحررة. وتستمر مصر فى تعزيز التعاون الثنائى مع العراق فى عدة مجالات حيوية، تشمل الأمن، والاقتصاد، والبنية التحتية، بهدف دعم العراق فى مواجهة التحديات وتحقيق استقراره.

لعل أبرز ما ترجم الاستجابة المصرية لدعم العراق هو (مشروع "المشرق الكبير" أو "المشرق الجديد")، الذى يهدف إلى تعزيز التعاون بين العراق، ومصر، والأردن، والذى يمثل إحدى المبادرات الاستراتيجية المهمة التى تساهم فى تقوية الروابط بين هذه الدول الثلاث، ويعزز التعاون فى مجالات الطاقة والربط الكهربائى والنقل والتجارة. كما أن هذا المشروع يعكس رؤية مشتركة لدعم التكامل الإقليمى فى المشرق العربى.

تاسعًا- النظام العالمى وتحديات التوازن فى العلاقات الدولية

شهد العالم منذ عام 2013 تحولات كبرى فى بنية النظام الدولى، أبرزها تصاعد الصراع بين القوى الكبرى، وتغير أنماط التحالفات الدولية، إلى جانب ما لحق به من أحداث كبرى كتداعيات جائحة كورونا، والحرب الروسية-الأوكرانية، وتصاعد النزعة الحمائية فى الاقتصاد العالمى. وفى خضم هذه التغيرات، برزت السياسة الخارجية المصرية كقوة توازن تسعى إلى الحفاظ على مصالح الدولة الوطنية فى عالم شديد السيولة والتحول بهدف تحقيق "المكسب للجميع"، من خلال سياسة الاتزان الاستراتيجى.

1- الصراع الأمريكى-الصينى وصعود التعددية القطبية

تُمثل التحولات فى العلاقة بين الولايات المتحدة والصين أبرز ملامح التغير فى النظام الدولى. فقد دخلت القوتان فى صراع جيوسياسى ممتد حول النفوذ الاقتصادى، والتكنولوجى، والعسكرى. هذا الصراع كان له تأثيرات كبيرة على مناطق متعددة فى العالم، بما فى ذلك الشرق الأوسط، مما جعل التوازن فى العلاقات الدولية أمرًا ضروريًا.

فى هذا السياق، اتبعت مصر سياسة عدم الانحياز الصارم لأى من طرفى الصراع، مع الحفاظ على علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة، التى تُعد أحد الشركاء الأمنيين، والعسكريين، والاقتصاديين الرئيسيين لمصر. وفى الوقت نفسه، سعت مصر إلى تطوير علاقات متنامية مع الصين، خاصة فى مجالات الاستثمار، والبنية التحتية، والتكنولوجيا، كاستجابة مصرية لمبادرة الحزام والطريق، التى تعد من أبرز المشاريع التى تؤكد على قوة التعاون بين البلدين.

2- الحرب الروسية-الأوكرانية: ضغوط اقتصادية وفرص دبلوماسية

أدت الحرب الروسية-الأوكرانية إلى تغييرات جذرية فى سلاسل الإمداد العالمية، وأسفرت عن أزمات فى الغذاء والطاقة، مما انعكس بشكل مباشر على الأمن الغذائى المصرى. حيث إن مصر تعتمد بنسبة تتجاوز 80% من وارداتها من القمح على روسيا وأوكرانيا. هذه الأزمة كان لها تأثيرات سلبية على الاقتصاد المصرى، لكن فى المقابل، أتاحت لمصر فرصة دبلوماسية لتوثيق العلاقات مع الطرفين، والمحافظة على مواقف متوازنة.

استمرت مصر فى تعاونها العسكرى والتجارى مع روسيا، بينما لم تنخرط فى محاور معادية لها، بل دعت إلى الحلول السياسية ووقف الحرب، وهو ما يعكس الواقعية السياسية التى تنتهجها مصر منذ تولى الرئيس السيسى سُدة الحكم. هذا التوجه يعكس حرص مصر على الحفاظ على استقرارها الاقتصادى، بينما تتجنب الانجرار إلى تحالفات قد تضر بمصالحها.

3- أزمات الاقتصاد العالمى: الديون، والتضخم، وتغير المناخ

تواجه الدول النامية، بما فى ذلك مصر، ضغوطًا هائلة نتيجة ارتفاع الديون العالمية، وزيادة معدلات التضخم، واضطراب الأسواق العالمية. فى هذا السياق، تبنّت مصر نهجًا يقوم على تنويع الشركاء الاقتصاديين، وتوسيع قاعدة الاستثمارات الأجنبية المباشرة، إلى جانب البحث عن تمويلات مرنة من المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد الدولى والبنك الدولى. هذا النهج يهدف إلى تأمين مصادر تمويل متعددة، مع الحفاظ على السيادة الاقتصادية والسياسية للبلاد.

أما فى ملف تغير المناخ، فقد برزت مصر كفعال إقليمى ودولى مهم، خاصة مع استضافتها لمؤتمر COP27فى شرم الشيخ فى 2022، حيث دعت إلى العدالة المناخية، والضرورة الملحة لتحقيق التوازن بين التنمية وحماية البيئة. فى هذا السياق، ظهرت مصر كداعم للسياسات البيئية العالمية، مع التأكيد على ضرورة تخصيص موارد لدعم الدول النامية فى مواجهة تحديات تغير المناخ.

4- الدبلوماسية المصرية فى مواجهة نظام عالمى يتغير

اتخذت مصر منذ 30 يونيو 2013 سياسة خارجية قائمة على الاتزان الاستراتيجى، حيث سعت إلى تحقيق الحد الأقصى من المكاسب من التغيرات الدولية دون الانجرار إلى الاستقطاب الدولى الذى قد يضر بمصالحها. من أبرز معالم هذه السياسة:

- التحرك متعدد المسارات: عززت مصر علاقاتها مع روسيا، والصين، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبى فى آنٍ واحد، وهو ما يعكس السياسة المتوازنة التى تنتهجها.

- عدم التدخل فى شئون الدول الأخرى: التزمت مصر بمبدأ احترام السيادة وعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى، مع التركيز على التعاون الدولى فى الملفات ذات الاهتمام المشترك.

- الاستفادة من المنظمات الدولية: استخدمت مصر المنظمات الدولية كمنصات لعرض رؤيتها السياسية، كما فى مجلس الأمن، والاتحاد الإفريقى، والجامعة العربية، مما ساعد فى تعزيز دورها كقوة دبلوماسية مؤثرة.

- ترسيخ مبدأ المصالح المتبادلة: تمثل المصالح المتبادلة الأساس فى العلاقات الاقتصادية والسياسية، حيث حرصت مصر على تحقيق تكاملات فى العلاقات مع مختلف الأطراف لتحقيق مصالح مشتركة، على اعتبار أن ذلك هو قمة البراجماتية التى أفرزتها العلاقات الدولية، والتى تقوم على إعلاء المصالح المشتركة.

يتضح من كل ما سبق، أن السياسة الخارجية المصرية أظهرت قدرة على التكيف مع التحولات الدولية الكبرى التى يشهدها النظام العالمى، مع الحرص على الحفاظ على استقرارها الإقليمى والدولى. من خلال الاتزان الاستراتيجى، والتحرك متعدد المسارات، والتمسك بمبادئ السيادة وعدم التدخل، ما مكن مصر من أن تثبت نفسها كفعال إقليمى متوازن وشريك دولى فعال قادر على الوساطة الفعالة فى مختلف القضايا والمناطق، كل ذلك فى عالم تتزايد فيه التوترات الجيوسياسية، وتواجه فيه الدول تحديات متعددة فى مجالات الاقتصاد، والأمن، والبيئة.

كما أنه فى مجمل تعاملها مع هذه الأزمات الإقليمية المعقدة، أظهرت السياسة الخارجية المصرية بعد 30 يونيو قدرة على التمسك بالمبادئ الثابتة مع التحلى بالواقعية والمرونة اللازمة. فقد نجحت فى حماية أمنها القومى المباشر، خاصة على الحدود الغربية، مع تجنب الانجرار إلى صراعات إقليمية واسعة النطاق. وأكدت على دورها كقوة استقرار إقليمية تسعى للحلول والوساطة السياسية، وتحافظ على مفهوم الدولة الوطنية فى مواجهة مشاريع التفتيت والفوضى، مستندة فى ذلك إلى رؤية استراتيجية واضحة ومبادئ راسخة.

القسم الثالث- القضية الفلسطينية.. توجه ثابت ومركزى ورؤية استراتيجية

تحتل القضية الفلسطينية مكانة مركزية وراسخة فى وجدان الشعب المصرى وعقيدة السياسة الخارجية المصرية على مر العصور. ولم تكن مرحلة ما بعد ثورة 30 يونيو استثناءً من هذه القاعدة، بل شهدت تأكيدًا متجددًا على الثوابت المصرية تجاه القضية، وتكثيفًا للجهود الدبلوماسية على كافة المستويات، انطلاقًا من رؤية استراتيجية شاملة بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى، تدرك أن أمن فلسطين واستقرارها جزء لا يتجزأ من الأمن القومى المصرى والعربى، وأن حل القضية الفلسطينية حلًا عادلًا وشاملًا يمثل مفتاحًا رئيسيًا لاستقرار منطقة الشرق الأوسط برمتها.

واجهت مصر فى هذا الملف تحديات مضاعفة بعد عام 2013. فبالإضافة إلى استمرار الاحتلال الإسرائيلى وسياساته التوسعية، وتدهور الأوضاع الإنسانية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، خاصة فى قطاع غزة المحاصر، والانقسام الفلسطينى الداخلى بين حركتى فتح وحماس، كان على الدبلوماسية المصرية أن تتعامل مع تداعيات التغيير السياسى فى مصر نفسها، ومحاولات بعض القوى الإقليمية والدولية استغلال الأوضاع لتهميش الدور المصرى أو فرض رؤى لا تتسق مع المصالح المصرية والفلسطينية. كما تزامنت هذه الفترة مع تصاعد حدة الأزمات الإقليمية الأخرى، مما شكل ضغطا إضافيا على أجندة السياسة الخارجية المصرية.

رغم هذه التحديات، حافظت مصر على موقفها المبدئى والثابت، والذى أكدت عليه القيادة السياسية فى كافة المحافل. تمثل هذا الموقف فى الدعم الكامل وغير المشروط للحقوق الفلسطينية المشروعة وغير القابلة للتصرف، وعلى رأسها حق الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة والقابلة للحياة على حدود الرابع من يونيو عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. ورفضت مصر بشكل قاطع أى حلول أو صفقات تنتقص من هذه الحقوق، أو تسعى لتصفية القضية الفلسطينية على حساب دول الجوار، مؤكدة أن الحل العادل يجب أن يستند إلى قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة ومبادرة السلام العربية.

ترجمت مصر هذا الموقف المبدئى إلى تحركات دبلوماسية نشطة ومتعددة الأوجه. فعلى صعيد عملية السلام، واصلت مصر دورها التاريخى كوسيط رئيسى ومحورى، تسعى لإحياء المفاوضات بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى على أساس حل الدولتين. ورغم تعثر المفاوضات وتوقفها فى كثير من الأحيان، لم تتوقف الجهود المصرية عن محاولة كسر الجمود، وطرح المبادرات، والتنسيق مع الشركاء الدوليين والإقليميين، مثل الرباعية الدولية، والاتحاد الأوروبى، والأردن لدفع العملية السلمية إلى الأمام. وقد أكد الرئيس السيسى فى مناسبات عديدة على استعداد مصر لبذل كافة الجهود الممكنة لتحقيق السلام العادل والشامل الذى يضمن حقوق جميع الأطراف.

وعلى صعيد الوضع فى قطاع غزة، لعبت مصر دورًا لا غنى عنه فى التهدئة ومنع التصعيد بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل. فبحكم الجوار الجغرافى والاتصالات الوثيقة مع كافة الأطراف، تدخلت مصر مرارا وتكرارا لوقف إطلاق النار وإنهاء جولات العنف التى كانت تهدد بانفجار الأوضاع فى القطاع والمنطقة. ولم يقتصر الدور المصرى على التهدئة الأمنية، بل امتد ليشمل جهودا حثيثة لرفع المعاناة عن سكان القطاع المحاصر، من خلال فتح معبر رفح البرى بشكل منتظم مع مراعاة الاعتبارات الأمنية، وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية والإغاثية، والمساهمة فى جهود إعادة إعمار ما دمرته الحروب الإسرائيلية، خاصة بعد حرب عام 2021. حيث أطلقت مصر حينها مبادرة كبرى لإعادة إعمار غزة إبان زيارة السيد الرئيس لباريس، وتعهدت بتقديم دعم مالى وتقنى كبير لهذا الغرض، إيمانا منها بمسئوليتها تجاه الأشقاء الفلسطينيين.

أما على صعيد المصالحة الوطنية الفلسطينية، فقد بذلت مصر جهودا مضنية ومستمرة لرأب الصدع بين حركتى فتح وحماس وتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، إدراكا منها بأن الانقسام يضعف الموقف الفلسطينى ويخدم مصالح الاحتلال. استضافت القاهرة جولات عديدة من الحوار بين الفصائل الفلسطينية، ورعت اتفاقات للمصالح مثل اتفاق القاهرة (2017)، وسعت لتذليل العقبات التى كانت تعترض تنفيذ هذه الاتفاقات على الأرض. ورغم الصعوبات والتراجعات التى شهدها ملف المصالحة، لم تيأس مصر من مواصلة جهودها، مؤكدة على أن الوحدة الفلسطينية شرط أساسى لتمكين الشعب الفلسطينى من مواجهة التحديات وتحقيق أهدافه الوطنية.

وقد انسجمت هذه الجهود المصرية مع الرؤية الاستراتيجية للرئيس السيسى، التى تعتبر القضية الفلسطينية قضية أمن قومى مصرى وعربى بالدرجة الأولى. وقد أكدت تحركات الدبلوماسية الرئاسية على هذه الأولوية، حيث كانت القضية الفلسطينية حاضرة بقوة فى كافة لقاءات الرئيس السيسى مع قادة العالم، وفى خطاباته أمام المحافل الدولية مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة. كما عملت الدبلوماسية البرلمانية والشعبية على حشد الدعم الدولى للقضية الفلسطينية، وفضح الممارسات الإسرائيلية، والتأكيد على عدالة المطالب الفلسطينية.

مع التطورات الأخيرة فى القضية الفلسطينية، وما تم ارتكابه من جرائم حرب وصلت وفقًا لتوصيفات دولية إلى حد الإبادة، مارسها يوميًا جيش الاحتلال منذ الثامن من أكتوبر 2023 وعلى مدار الثمانية عشر شهرًا الماضية، لم تقبل مصر سردية حكومة الاحتلال التى تقوم على أن هدفها تدمير قوة حماس العسكرية والقضاء على عناصرها، مع إخلاء غزة ومحيطها من كافة العناصر التى يشتبه فى انتمائها لحماس، بهدف تأمين الكيان المحتل من أى عدوان مستقبلى.

هذه كلها أهداف معلنة، غير أن الهدف الحقيقى الذى أدركته الإدارة المصرية منذ اللحظة الأولى وتكافح وتجابه فى كافة المحافل الدولية لإيقافه، يتمثل فى تصفية القضية الفلسطينية ديموغرافيًا وفقًا لمخطط حرب الإبادة والتجويع والحرمان من كل مقومات الحياة الإنسانية بهدف تهجير الفلسطينيين، ولا أدل على ذلك سوى نزوح مليونى شخص نحو الجنوب هم تقريبًا كامل سكان القطاع، ناهيك عن تدمير 80 % من البنية التحتية فى القطاع من منازل، ومدارس، ومستفيات، وطرق، والمطار، والمناطق الصناعية. كل ذلك تحقيقًا للعقيدة الدينية التى تتحكم فى عقول قادة الكيان المحتل من اليمين المتطرف، بهدف الإعلان الرسمى لدولتهم الدينية، وهو الأمر الذى نستشفه من تحليل مضمون تصريحات خبراء ورموز دولة الاحتلال فى كافة وسائل الإعلام.

مارس الكيان المحتل وجيشه وقادته هذه الجرائم ضد الإنسانية، مظللًا إياها بمدخل إنسانى زائف حاول من خلاله أن يضلل الرأى العام العالمى عبر سرديات فشلت فى أن تجمل حربه العنصرية نتيجة للدور المصرى. ففهم الصورة الكاملة لحرب الإبادة التى شنها جيش الاحتلال -وتفسير عجزه الكبير رغم الدعم الهائل والحماية المقدمتين من الولايات المتحدة للكيان المحتل-، يساهم كثيرًا فى فهم أبعاد الوهم الكامن فى عقل رئيس وزراء الكيان.

حتى أنه مؤخرًا، وبفضل جهود الدور المصرى فى القيام بدورها التاريخى فى الوساطة وما تم تقديمه من مقترحات وأوراق مصرية صاغتها عقول المفاوض المصرى، بما قادنا لتحقيق الهدنة المؤقتة، إلا أننا نجد أن جيش الاحتلال قد أفشلها بمعاودته الحرب. لم يفِت ذلك فى عزيمة المفاوض المصرى الذى قدم منذ يونيو 2024 العديد من الأوراق والخطط لوقف إطلاق النار، الأمر الذى أدى إلى التوصل للاتفاق فى الخامس عشر من يناير 2025، والذى دخل حيز التنفيذ فى التاسع عشر من الشهر ذاته، وهو اتفاق من ثلاث مراحل، وذلك بالتعاون مع الشريكين القطرى والأمريكى.

مثلت عملية "طوفان الأقصى" فرصة سعى اليمين المتطرف فى الكيان المحتل لانتهازها من أجل التخلص من ذلك التحدّى "مرة واحدة وإلى الأبد"، وفق أحد واضعى مشاريع تهجير الفلسطينيين إلى دول الجوار. وهو المشروع الذى يخرج من أدراج حكومة نتنياهو المصغرة، كمحاولة لإحراز نصر يبقيه فى ذاكرة التاريخ الإسرائيلى، قبل أن يتوارى طويلا وراء أسوار السجن والنسيان جراء المحاكمات التى تنتظره، تلك التى تجعل من إطالة زمن الحرب هدفًا رئيسيًا له.

اللافت هنا، أن مشاريع تهجير فلسطينيى غزة إلى سيناء لم تملّ دوائر فى الكيان المحتل من طرحها بصيغ مختلفة، وتقابل فى كل مرة برفض مصرى لا يكلّ. غير أنه فى الحقيقة، تبدو المحاولة الحالية هى "الأخطر"، ربما لأنها ترتبط بأجواء دولية تراها إسرائيل "مواتية" خاصة فى ظل الدعم الأمريكى غير المحدود على الرغم من الدور المحايد الذى ينبغى أن تلعبه الولايات المتحدة باعتبارها راعى عملية السلام والشريكة مع مصر وقطر فى محاولات وقف الحرب فى تناقض غير مفهوم وغير مبرر من جهة، ومن جهة أخرى هناك ظروف إقليمية ملبّدة بالغيوم وغير محددة ولا واضحة فى اتجاهات تفعالها مع التطورات الأخيرة فى الأزمة كنتيجة طبيعية لما أصاب دول الوطن العربى من ضعف جراء انهيار دول المواجهة ودول الدعم منذ 2003 وحتى اليوم، كل ذلك استوجب التصدى لذلك الخطر، عبر تعامل مصرى مغاير من حيث الوسائل والسياسات، وإن لم يختلفْ من حيث الغايات.

لعل جميع ما سبق قد لخصته كلمة الرئيس السيسى فى القمة العربية الرابعة والثلاثين المنعقدة فى بغداد فى مايو الماضى، والتى استهلها نصًا بالآتى: "تنعقد قمتنا اليوم، فى ظرف تاريخى، حيث تواجه منطقتنا تحديات معقدة، وظروف غير مسبوقة، تتطلب منا جميعا -قادة وشعوبا- وقفة موحدة، وإرادة لا تلين، وأن نكون على قلب رجل واحد، قولا وفعلا.. حفاظا على أمن أوطاننا، وصونا لحقوق ومقدرات شعوبنا الأبية.

ولا يخفى على أحد، أن القضية الفلسطينية تمر بمرحلة من أشد مراحلها خطورة، وأكثرها دقة. إذ يتعرض الشعب الفلسطينى، لجرائم ممنهجة وممارسات وحشية، على مدار أكثر من عام ونصف، تهدف إلى طمسه وإبادته، وإنهاء وجوده فى قطاع غزة.. حيث تعرض القطاع لعملية تدمير واسعة، لجعله غير قابل للحياة، فى محاولة لدفع أهله إلى التهجير، ومغادرته قسرا تحت أهوال الحرب. فلم تبق آلة الحرب الإسرائيلية، حجرا على حجر، ولم ترحم طفلا أو شيخا. واتخذت من التجويع والحرمان من الخدمات الصحية سلاحا، ومن التدمير نهجا، مما أدى إلى نزوح قرابة مليونى فلسطينى داخل القطاع، فى تحد صارخ لكل القوانين والأعراف الدولية.

وفى الضفة الغربية، لا تزال آلة الاحتلال، تمارس ذات السياسة القمعية من قتل وتدمير، ورغم ذلك يبقى الشعب الفلسطينى صامدًا، عصيًا على الانكسار، متمسكا بحقه المشروع فى أرضه ووطنه.

ومنذ أكتوبر ٢٠٢٣، كثفت مصر جهودها السياسية، لوقف نزيف الدم الفلسطينى، وبذلت مساعى مضنية، للوصول إلى وقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية، مطالبة المجتمع الدولى، وعلى رأسه الولايات المتحدة، باتخاذ خطوات حاسمة، لإنهاء هذه الكارثة الإنسانية.

ولا يفوتنى هنا، أن أثمن جهود الرئيس "دونالد ترامب"، الذى نجح فى يناير ٢٠٢٥، فى التوصل إلى اتفاق، لوقف إطلاق النار فى القطاع.. إلا أن هذا الاتفاق، لم يصمد أمام العدوان الإسرائيلى المتجدد، فى محاولة لإجهاض أى مساع نحو الاستقرار.

وعلى الرغم من ذلك، تواصل مصر بالتنسيق مع قطر والولايات المتحدة، شريكيها فى الوساطة، بذل الجهود المكثفة لوقف إطلاق النار، مما أسفر مؤخرا عن إطلاق سراح الرهينة الأمريكى-الإسرائيلى "عيدان ألكسندر".

وفى إطار مساعيها، بادرت مصر، بالدعوة لعقد قمة القاهرة العربية غير العادية، فى ٤ مارس ٢٠٢٥، التى أكدت الموقف العربى الثابت، برفض تهجير الشعب الفلسطينى، وتبنت خطة إعادة إعمار قطاع غزة، دون تهجير أهله، وهى الخطة التى لقيت تأييدا واسعا، عربيا، وإسلاميا، ودوليا. وفى هذا الصدد، أذكركم بأننا نعتزم تنظيم، مؤتمر دولى للتعافى المبكر وإعادة إعمار قطاع غزة، فور توقف العدوان.

وقد وجه العرب من خلال قمة القاهرة، رسالة حاسمة للعالم، تؤكد أن إنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، على خطوط الرابع من يونيو ١٩٦٧، وعاصمتها "القدس الشرقية"، هو السبيل الأوحد، للخروج من دوامة العنف، التى لا تزال تعصف بالمنطقة، مهددة استقرار شعوبها كافة، بلا استثناء.

وأكرر هنا، أنه حتى لو نجحت إسرائيل، فى إبرام اتفاقيات تطبيع مع جميع الدول العربية، فإن السلام الدائم والعادل والشامل فى الشرق الأوسط، سيظل بعيد المنال، ما لم تقم الدولة الفلسطينية، وفق قرارات الشرعية الدولية.

ومن هذا المنطلق، فإننى أطالب الرئيس "ترامب"، بصفته قائدا يهدف إلى ترسيخ السلام، ببذل كل ما يلزم من جهود وضغوط، لوقف إطلاق النار فى قطاع غزة، تمهيدا لإطلاق عملية سياسية جادة -يكون فيها وسيطا وراعيا- تفضى إلى تسوية نهائية تحقق سلاما دائما، على غرار الدور التاريخى الذى اضطلعت به الولايات المتحدة، فى تحقيق السلام بين مصر وإسرائيل فى السبعينيات".

وهى كلمة عبَّرت عن الصوت المصرى الأصيل فى التعامل مع تطورات ملف القضية الفلسطينية، والتى ترتكز على:

1- دور الولايات المتحدة باعتبارها الشريك والراعى الرئيسى لعملية السلام فى الشرق الأوسط، والتعويل على دور الرئيس دونالد ترامب فى تحقيق السلام الذى طالما نادى به.

2- حتمية التماسك العربى -قولًا وفعلًا- بالنظر لخطورة هذا التحدى الوجودى على قضية العرب المركزية، وهو الأمر الذى يتطلب مزيدًا من التنسيق والتمسك بقواعد تفاوض ترتكز على الحق، ملتزمة بقرارات الشرعية الدولية ولكن مع التمتع بالمرونة اللازمة للتعاطى مع المدخلات المستجدة وغير التقليدية، سواء فى العلاقات البينية العربية، أو فى الاستجابات المطلوبة للرد على المخططات الإسرائيلية.

3- إن على إسرائيل التخلى عن أوهامها فى تحقيق التطبيع الاقتصادى، الذى حتى لو تحقق فلن يضمن الأمن والاستقرار والتعاون فى الإقليم، ما لم يتم حل القضية الفلسطينية على نحو عادل ودائم وشامل، بما يضمن تحقيق حل الدولتين ويحفظ حقوق الشعب الفلسطينى.

فى المحصلة، أثبتت السياسة الخارجية المصرية بعد 30 يونيو أنها ظلت وفية لالتزاماتها التاريخية تجاه القضية الفلسطينية، وأنها تعاملت مع هذا الملف بمسئولية وحكمة، مستندة إلى مبادئ ثابتة ورؤية استراتيجية واضحة. ورغم تعقيدات المشهد الإقليمى والدولى، واصلت مصر دورها المحورى كطرف لا غنى عنه فى أى جهود جادة لتحقيق السلام العادل والشامل، وكداعم أساسى للشعب الفلسطينى فى نضاله المشروع من أجل نيل حقوقه وإقامة دولته المستقلة.

القسم الرابع- الدبلوماسية المتعددة المسارات.. تكامل الأدوار فى خدمة الرؤية الوطنية

لم تقتصر استجابة السياسة الخارجية المصرية لتحديات ما بعد 30 يونيو على تحديد المبادئ وتوضيح المواقف تجاه الأزمات، بل امتدت لتشمل تطويرا وتفعيلا لأدوات التحرك الدبلوماسى، بحيث تتجاوز الأطر التقليدية وتستفيد من كافة الإمكانيات المتاحة للدولة والمجتمع. فإدراكا لتعقد وتشابك المصالح والقضايا فى البيئة الدولية المعاصرة، وحجم التحديات الداخلية والخارجية، تبنت مصر مقاربة دبلوماسية شاملة ومتعددة المسارات، قامت على التنسيق والتكامل بين الدبلوماسية الرئاسية، والدبلوماسية الرسمية التى تقودها وزارة الخارجية، والدبلوماسية البرلمانية، والدبلوماسية الشعبية. وقد شكلت هذه المقاربة المتكاملة، التى وجهتها رؤية استراتيجية واضحة بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى، أداة فعالة فى استعادة مصر لمكانتها، والدفاع عن مصالحها، وشرح مواقفها، وبناء شراكات قوية ومتوازنة على الساحتين الإقليمية والدولية.

أولًا- الدبلوماسية الرئاسية.. قيادة وتوجيه وتفعيل

شهدت فترة ما بعد 30 يونيو بروز ا لافتا وغير مسبوق للدبلوماسية الرئاسية كأداة محورية فى تنفيذ السياسة الخارجية المصرية. فقد قاد الرئيس عبدالفتاح السيسى بنفسه جهودا دبلوماسية مكثفة، تمثلت فى عدد كبير من الزيارات الخارجية التى شملت مختلف قارات العالم، والمشاركة الفعالة فى القمم والمحافل الدولية والإقليمية، واستقبال قادة وزعماء العالم فى مصر. لم تكن هذه التحركات مجرد نشاط بروتوكولى، بل عكست رؤية استراتيجية هدفت إلى تحقيق عدة أهداف متكاملة.

1- استعادة الثقة وتأكيد الحضور: كان الهدف المباشر هو كسر أى محاولات لعزل مصر بعد التغيير السياسى فى 2013، وتأكيد عودة مصر كفعال رئيسى ومؤثر فى محيطها الإقليمى والدولى. وقد نجحت الزيارات واللقاءات الرئاسية فى نقل رسالة واضحة للعالم بأن مصر دولة مستقرة، وذات سيادة، وتمضى قدما فى مسارها الوطنى، وأنها شريك لا غنى عنه لتحقيق الأمن والاستقرار فى المنطقة.

2- بناء وتوطيد الشراكات: سعت الدبلوماسية الرئاسية إلى بناء شبكة واسعة ومتوازنة من العلاقات والشراكات الدولية، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا. فلم تقتصر التحركات على الشركاء التقليديين، بل امتدت لتشمل تعزيز العلاقات مع قوى كبرى صاعدة، مثل روسيا والصين، وتعميق الشراكة الاستراتيجية مع الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبى، وإعادة الزخم للعلاقات مع القارة الإفريقية، والحفاظ على علاقات قوية مع الولايات المتحدة، مع التأكيد الدائم على استقلالية القرار المصرى والندية فى التعامل. (المصدر: الهيئة العامة للاستعلامات، إنجازات الدبلوماسية مع 30 يونيو).

3- خدمة أهداف التنمية الاقتصادية المستدامة: شكل البعد الاقتصادى محورا رئيسيا فى تحركات الدبلوماسية الرئاسية. فقد هدفت الزيارات والجولات الخارجية إلى الترويج للإصلاحات الاقتصادية التى تنفذها مصر، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وفتح أسواق جديدة للصادرات المصرية، وتعزيز التعاون فى مجالات حيوية، مثل الطاقة، والنقل، والبنية التحتية. وقد أسفرت هذه الجهود عن توقيع العديد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التى دعمت الاقتصاد المصرى وساهمت فى تحقيق أهداف التنمية المستدامة.

4- تنسيق المواقف ومعالجة الأزمات: لعبت لقاءات القمة التى عقدها الرئيس السيسى دورا حاسما فى تنسيق المواقف مع القادة الآخرين بشأن القضايا الإقليمية والدولية الملحة، مثل مكافحة الإرهاب، والأزمات فى ليبيا، وسوريا، واليمن، والقضية الفلسطينية، وقضية سد النهضة. وقد أتاحت هذه اللقاءات المباشرة فرصة لشرح وجهة النظر المصرية بشكل معمق، وبناء تفاهمات مشتركة، والبحث عن حلول توافقية للأزمات.

لقد أعطت الدبلوماسية الرئاسية النشطة زخما وقوة دفع كبيرة للسياسة الخارجية المصرية، وعكست الإرادة السياسية العليا للدولة فى استعادة دورها المحورى، والتفعال بإيجابية وفعالية مع محيطها الإقليمى والدولى، استنادا إلى رؤية واضحة للمصالح الوطنية والمبادئ الراسخة.

ثانيًا- الدبلوماسية البرلمانية.. رافد داعم وصوت للشعب

إلى جانب الدبلوماسية الرئاسية والرسمية، لعبت الدبلوماسية البرلمانية دورا مكملا وداعما مهما للسياسة الخارجية المصرية بعد 30 يونيو. فبفضل عراقة التجربة البرلمانية المصرية التى تمتد لأكثر من 150 عاما، امتلك البرلمان المصرى بخبراته وتقاليده وشبكة علاقاته الواسعة، القدرة على التحرك كرافد إضافى للدبلوماسية الرسمية، يعبر عن صوت الشعب ويدعم المواقف الوطنية فى المحافل البرلمانية الدولية والإقليمية.

تعددت أشكال وأدوات الدبلوماسية البرلمانية المصرية، فشملت الدبلوماسية الثنائية من خلال تبادل الزيارات بين الوفود البرلمانية وتفعيل جمعيات الصداقة البرلمانية مع برلمانات الدول الأخرى، بهدف تعزيز العلاقات الثنائية وتبادل الخبرات التشريعية وتعميق التواصل بين الشعوب. كما شملت الدبلوماسية المتعددة الأطراف من خلال المشاركة النشطة والفعالة فى أعمال المنظمات والاتحادات البرلمانية الدولية والإقليمية، مثل الاتحاد البرلمانى الدولى، والبرلمان العربى، والاتحاد البرلمانى الإفريقى وبرلمان عموم إفريقيا، والجمعية البرلمانية للاتحاد من أجل المتوسط، وغيرها. (المصدر: المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية، الدبلوماسية البرلمانية ودعم قضايا السياسة الخارجية المصرية).

وقد ركزت الدبلوماسية البرلمانية المصرية فى تحركاتها على عدة محاور رئيسية. أولا، شرح حقيقة الأوضاع فى مصر بعد ثورة 30 يونيو، وتوضيح طبيعة التغيير السياسى الذى حدث، ودحض الادعاءات والمغالطات التى روجت لها بعض الجهات المعادية. ثانيا، حشد الدعم والتأييد للمواقف المصرية تجاه القضايا الإقليمية والدولية، وخاصة القضية الفلسطينية، وقضايا مكافحة الإرهاب، والأمن المائى المصرى. ثالثا، تعزيز التعاون البرلمانى فى المجالات ذات الاهتمام المشترك، مثل التشريعات المتعلقة بالتنمية الاقتصادية، وحقوق الإنسان، وتمكين المرأة والشباب، وحماية البيئة. رابعا، المساهمة فى تعزيز العلاقات الشعبية بين مصر ودول العالم المختلفة، باعتبار البرلمانيين ممثلين مباشرين للشعب.

لقد أثبتت الدبلوماسية البرلمانية أنها أداة قيمة يمكنها أن تتحرك بمرونة أكبر فى بعض الأحيان، وأن تصل إلى دوائر قد لا تكون متاحة بسهولة للدبلوماسية الرسمية، مما يساهم فى بناء جسور التفاهم وتعزيز المصالح الوطنية المصرية.

ثالثًا- الدبلوماسية الشعبية.. التنسيق والتأثير

برزت أهمية الدبلوماسية الشعبية بشكل خاص فى أعقاب ثورة 30 يونيو، كوسيلة لتصحيح الصورة الذهنية عن مصر فى الخارج، والتواصل المباشر مع الرأى العام والمجتمعات المدنية فى الدول الأخرى. وقد أظهرت تجربة ما بعد 2013 أن نجاح الدبلوماسية الشعبية وفعاليتها يرتبطان بشكل وثيق بمدى التنسيق والتكامل مع الدبلوماسية الرسمية. فبينما كانت المبادرات الشعبية التى انطلقت بعد ثورة 25 يناير تفتقر فى كثير من الأحيان للتنسيق والدعم الحكومى، مما قلل من تأثيرها وجعلها تبدو أحيانا كتحركات غير منظمة، فإن الدبلوماسية الشعبية بعد 30 يونيو حظيت باهتمام ودعم أكبر من الدولة، وتم توجيهها لخدمة أهداف محددة.

تمثلت أبرز نجاحات الدبلوماسية الشعبية المنسقة فى قدرتها على مواجهة الحملات الإعلامية السلبية وتصحيح المفاهيم الخاطئة حول الأحداث فى مصر، خاصة فى الدوائر الغربية. وقد لعبت شخصيات عامة مصرية، من المثقفين والأكاديميين والإعلاميين والفنانين، دورا مهما فى هذا الصدد من خلال زيارات خارجية، والمشاركة فى ندوات ومؤتمرات دولية، والتواصل مع مراكز الفكر ووسائل الإعلام الأجنبية. كما ساهمت الجاليات المصرية فى الخارج بدور حيوى فى الدفاع عن صورة بلدهم وشرح وجهة النظر المصرية لمجتمعاتهم. (المصدر: اليوم السابع، لماذا نجحت الدبلوماسية الشعبية بعد 30 يونيو وفشلت قبلها؟).

أكدت تجربة ما بعد 30 يونيو أن الدبلوماسية الشعبية، عندما تعمل بتنسيق وتكامل مع المسارات الدبلوماسية الأخرى (الرئاسية، والرسمية، والبرلمانية)، يمكن أن تشكل قوة ناعمة مؤثرة، تساهم فى بناء جسور التفاهم، وتعزيز العلاقات بين الشعوب، وحشد الدعم للمواقف والقضايا الوطنية.

القسم الخامس- تكامل الأدوار.. نحو سياسة خارجية شاملة

إن السمة الأبرز للتحرك الدبلوماسى المصرى بعد 30 يونيو هى هذا التكامل والتناغم بين المسارات المختلفة. فلم تعمل الدبلوماسية الرئاسية بمعزل عن الدبلوماسية الرسمية، ولم تكن الدبلوماسية البرلمانية أو الشعبية مجرد تحركات هامشية. بل كان هناك حرص واضح على توحيد الرسالة، وتنسيق الجهود، وتوزيع الأدوار بما يحقق أقصى درجات الفعالية والتأثير. وقد شكلت الرؤية الاستراتيجية للقيادة السياسية، والمبادئ الراسخة للسياسة الخارجية المصرية، الإطار المرجعى الذى وجه كافة هذه التحركات، مما أضفى عليها طابعا من العقلانية والثبات والاتساق، ومكن مصر من التعامل بنجاح مع بيئة إقليمية ودولية بالغة التعقيد، واستعادة مكانتها كدولة محورية لا غنى عنها لتحقيق الأمن والاستقرار فى المنطقة.

يمكن القول إن السياسة الخارجية المصرية فى مرحلة ما بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013 قد خاضت غمار بحر متلاطم من التحديات الإقليمية والدولية، واستطاعت بفضل رؤية استراتيجية واضحة، وقيادة حكيمة، ودبلوماسية نشطة ومتعددة المسارات، أن تتجاوز الصعاب، وأن تحافظ على ثوابتها، وأن تستعيد مكانتها كدولة محورية لا غنى عنها فى محيطها العربى والإفريقى والدولى. لقد كانت السنوات التى تلت الثورة بمثابة اختبار حقيقى لصلابة الدولة المصرية وقدرتها على التكيف والصمود فى وجه العواصف، وقد أثبتت الدبلوماسية المصرية، بمختلف أذرعها، أنها كانت على قدر المسئولية الملقاة على عاتقها.

ارتكزت السياسة الخارجية المصرية خلال هذه الفترة على مبادئ راسخة وقيم ثابتة، شكلت البوصلة التى وجهت تحركاتها فى مختلف الملفات. فمبدأ استقلالية القرار الوطنى، والسعى نحو سياسة خارجية متوازنة ومنفتحة على الجميع، واحترام القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول، والحفاظ على الدولة الوطنية ومؤسساتها، ودعم الحلول السياسية السلمية للنزاعات، شكلت جميعها الإطار العام الذى حكم المقاربة المصرية. ولم تكن هذه المبادئ مجرد شعارات نظرية، بل تم ترجمتها إلى مواقف وسياسات عملية فى التعامل مع الأزمات المعقدة فى ليبيا، وسوريا، واليمن، والسودان، حيث سعت مصر دائما إلى أن تكون عامل استقرار وبناء، لا طرفا فى الصراعات.

تبلورت السياسة الخارجية المصرية بعد 30 يونيو 2013 ضمن رؤية شاملة أعادت الاعتبار لمفاهيم السيادة والمصلحة الوطنية والاستقرار الإقليمى، كمرتكزات أساسية فى التعامل مع العالم الخارجى. هذه الرؤية لم تكن مجرد استجابة ظرفية لتحولات إقليمية ودولية، بل تمثل انتقالًا حاسمًا من نهج التفعال الدفاعى إلى نهج المبادرة والفعالية الاستراتيجية، بما يحقق مصالح الدولة المصرية ويدعم القضايا العربية والإفريقية الكبرى، على رأسها القضية الفلسطينية.

هذه الثوابت لم تكن مجرد شعارات دبلوماسية، بل كانت مدعومة بتطبيقات عملية، ومواقف حاسمة، وأدوار دبلوماسية متقدمة سواء على مستوى القيادة السياسية (الدبلوماسية الرئاسية) أو من خلال أدوات الدبلوماسية متعددة المسارات: الرسمية، والبرلمانية، والشعبية. تجلى هذا التوجه بوضوح فى المواقف المصرية من النزاعات الإقليمية، مثل ليبيا، والسودان، وسوريا، وقطاع غزة، فضلًا عن ملف سد النهضة الذى كشف عن التزام مصر العميق بالقانون الدولى والشرعية متعددة الأطراف.

وتكمن أهمية استعراض هذه الثوابت عند مقارنتها مع سياسات خارجية أخرى انتهجتها قوى إقليمية ودولية، التى اتسمت غالبًا بالتدخل فى شئون الدول أو بتجاوز المؤسسات الشرعية أو بتسييس القانون الدولى لتحقيق مكاسب استراتيجية ضيقة، ما أسهم فى إطالة أمد الأزمات وتعقيد مسارات التسوية.

فى هذا السياق، يمكن القول إن السياسة الخارجية المصرية بعد 30 يونيو لا تُختزل فى ردود أفعال على أزمات متلاحقة، بل تمثل نموذجًا متكاملًا لسياسة قائمة على المبادئ، تعززها الواقعية، وتحكمها الأخلاق، وتديرها المؤسسات، مما يجعلها جديرة بالتحليل والمقارنة وربما التبنى كنموذج فى بيئة إقليمية مضطربة.

منذ 30 يونيو 2013، أعادت مصر صياغة سياستها الخارجية على أساس مجموعة من الثوابت والمبادئ التى مثلت مرجعية أخلاقية واستراتيجية لتحركاتها الإقليمية والدولية. وقد تميز هذا النموذج المصرى باستقلال قراره، واتزانه، وارتكازه على الشرعية الدولية، مقارنة بسياسات إقليمية ودولية اتسمت بالتدخل أو الانحياز أو تسييس القانون الدولى.

وفى القلب من هذه السياسة، ظلت القضية الفلسطينية تحتل مكانتها المركزية كقضية أمن قومى مصرى وعربى. ورغم كل التحديات والمتغيرات، لم تتخل مصر عن دورها التاريخى فى الدفاع عن الحقوق الفلسطينية المشروعة، والسعى نحو تحقيق السلام العادل والشامل على أساس حل الدولتين، وتقديم الدعم للشعب الفلسطينى فى مواجهة الاحتلال والحصار، ورعاية جهود المصالحة الوطنية. لقد أكدت مصر، قولا وفعلا، أن أمن فلسطين واستقرارها هما جزء لا يتجزأ من أمن مصر واستقرارها.

ولعل السمة الأبرز التى ميزت التحرك الدبلوماسى المصرى فى هذه المرحلة هى تبنى مقاربة شاملة ومتكاملة، اعتمدت على تفعيل كافة أدوات الدبلوماسية المتاحة. فقد لعبت الدبلوماسية الرئاسية، بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى، دورا محوريا فى توجيه السياسة الخارجية، وبناء جسور الثقة، وتوطيد الشراكات الدولية، وجذب الاستثمارات، ومعالجة الأزمات على أعلى المستويات. وبالتوازى، قامت الدبلوماسية الرسمية، عبر وزارة الخارجية وسفاراتها وبعثاتها فى الخارج، بجهود دءوبة لتنفيذ هذه السياسة والدفاع عن المصالح المصرية. كما شكلت الدبلوماسية البرلمانية رافدا مهما للتواصل مع برلمانات العالم ودعم القضايا الوطنية، فيما ساهمت الدبلوماسية الشعبية، بتنسيق ودعم من الدولة، فى تصحيح الصورة الذهنية عن مصر وتعزيز التواصل بين الشعوب.

إن هذا التكامل بين المسارات الدبلوماسية المختلفة، والذى استند إلى رؤية وطنية واضحة وتوجيه سياسى حكيم، هو ما مكن مصر من التعامل بفعالية مع التحديات الجسيمة التى واجهتها. لقد نجحت مصر فى استعادة دورها الإقليمى كقوة توازن واستقرار، وعززت من حضورها على الساحة الدولية كشريك فعال وموثوق به، وحافظت على مصالحها الوطنية الحيوية، وفى مقدمتها أمنها القومى والمائى. كل ذلك تم فى إطار من العقلانية والواقعية السياسية، والتمسك بالمبادئ الثابتة، ووضع المصلحة الوطنية العليا فوق كل اعتبار.

وتفعالت مصر مع التحولات الإقليمية والدولية بحذر وذكاء، فتبنت مقاربة مرنة تراعى مصالحها الأمنية والاقتصادية، مع توسيع دائرة تحالفاتها الاستراتيجية لتشمل الولايات المتحدة، وروسيا، والدول الأوروبية، فضلًا عن تعزيز شراكاتها مع الدول الإفريقية والآسيوية، وتفعيل دورها فى المنظمات الإقليمية والدولية. وقد اتسمت هذه السياسة بالقدرة على التكيف مع المتغيرات العالمية، دون الإخلال بالثوابت الوطنية، ما أتاح لمصر الحفاظ على مكانتها كقوة إقليمية ذات تأثير.

إن السياسة الخارجية المصرية لم تكن مجرد استجابة ظرفية للتحديات، بل جاءت كجزء من إعادة هيكلة شاملة تهدف إلى صياغة دور مصرى جديد فى النظام الدولى، يستند إلى الشراكات المتوازنة، واحترام السيادة الوطنية، وتعزيز الأمن والاستقرار فى المنطقة. وفى الوقت نفسه، فإن الطموح المصرى المستقبلى يتجه نحو استثمار أدوات جديدة مثل الذكاء الصناعى والتكنولوجيا الرقمية والتأثير عبر الفضاء الإلكترونى، لزيادة فعالية السياسة الخارجية وتوسيع مجالات التأثير المصرى دوليًا.

وفى المحصلة، فإن مصر تمضى قدمًا فى تعزيز موقعها على الخريطة الدولية، مرتكزة على رؤية سياسية استراتيجية تُراكم على المكتسبات وتستشرف آفاق المستقبل، ملتزمة بدورها التاريخى فى دعم السلام الإقليمى، ومستمرة فى الدعوة إلى العمل الجماعى واحترام القيم الإنسانية والمبادئ الدولية، من أجل بناء نظام عالمى أكثر توازنًا وعدالة.

وبالنظر إلى المستقبل، فإن السياسة الخارجية المصرية، وهى تستند إلى هذا الإرث من النجاحات والتحديات، مدعوة لمواصلة السير على النهج نفسه، نهج المبادئ الراسخة، والرؤية الاستراتيجية الواضحة، والدبلوماسية النشطة والمتعددة المسارات، واستمرار تفعيل سياسة "الاتزان الاستراتيجى". فالتحديات الإقليمية والدولية لا تزال قائمة، بل وربما تتخذ أشكالا جديدة، مما يتطلب يقظة مستمرة، وقدرة على التكيف، وحكمة فى اتخاذ القرار. وستبقى مصر، بتاريخها العريق، وموقعها الاستراتيجى، وثقلها الحضارى والبشرى، لاعبا رئيسيا فى معادلات الأمن والاستقرار والتنمية فى منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا والعالم، وستظل سياستها الخارجية، المستندة إلى مبادئ العقلانية والثبات، هى الضمانة الأساسية لصون مصالحها وتحقيق تطلعات شعبها نحو مستقبل أفضل.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    أحمد ناجي قمحة

    أحمد ناجي قمحة

    رئيس تحرير مجلتى السياسة الدولية والديمقراطية