من بين الجامعات العريقة فى العالم، تظل جامعة القاهرة ذات رمزية خاصة، ليس فقط لكونها من أقدم وأكبر المؤسسات الأكاديمية فى الوطن العربى، بل لأنها لطالما كانت منبرًا للخطاب السياسى، والثقافى، والفكرى، وجسرًا للتفاعل بين مصر والعالم. لهذا، فإن اختيارها كمكان لإلقاء خطابين على هذا القدر من الأهمية -أحدهما من رئيس أمريكى سعى لتغيير العلاقة مع العالم الإسلامى بما عصف فى النهاية بأركان العديد من الدول الوطنية العربية، والآخر من رئيس فرنسى على وقع محاولات حثيثة لإعادة صياغة التحالفات فى المنطقة- لم يكن صدفة، بل كان تعبيرًا مقصودًا عن عمق الدور المصرى وتاريخيته ميزيته الجغرافية والثقافية، وجامعة القاهرة هى الرمز فى كل ذلك.
تتبدى بين الخطابين التحولات العميقة التى شهدتها مصر، دولةً ونظامًا ومجتمعًا، كما تتجلى كذلك التغيرات الكبرى فى بنية النظام الدولى، وفى موازين القوة والسياسة الخارجية للدول الغربية. فالمكان واحد، لكن الزمان مختلف، والمضمون يعكس أزمنة متغيرة، واستراتيجيات متبدلة، وسياقات لا تشبه ما سبقها. زيارة أوباما فى يونيو 2009، جاءت فى لحظة شكٍّ غربى فى جدوى المقاربات الأمنية والعسكرية فى الشرق الأوسط بعد حربى أفغانستان والعراق، وزيارة ماكرون فى أبريل 2025، تأتى فى لحظة تأمل أوروبى فى عالم مضطرب تعاد فيه صياغة أولويات الأمن، والهجرة، والاقتصاد، والطاقة، والبيئة، وسط تراجع أمريكى نسبى وتقدم روسى وصينى ملحوظ.
لذا، من المهم إجراء تحليل معمق ومتعدد الأبعاد للمغزى الرمزى والسياسى لزيارتى أوباما وماكرون إلى جامعة القاهرة، من خلال ربط الحدثين بالتحولات السياسية والاجتماعية التى شهدتها مصر خلال هذه الفترة، وكذلك برصد التغيرات الجوهرية التى طرأت على هيكل النظام الدولى ومواقف القوى الكبرى من المنطقة. حيث نهدف إلى بيان التحول الداخلى فى مصر بين عامى 2009 و2025، وتطور القيادة السياسية، والتحولات فى العلاقات المصرية-الأمريكية والفرنسية، والفوارق الملحوظة بين خطابى أوباما وماكرون، واستعادة مصر لدورها الإقليمى والدولى، وأخيرًا الدروس المستفادة من المقارنة بين الزيارتين.
الجامعة كمنبر رمزى والرسائل السياسية
منذ تأسيسها فى مطلع القرن العشرين، كانت جامعة القاهرة أكثر من مجرد مؤسسة تعليمية. كانت بوتقة للحركات الوطنية، ومنصة للنقاش العام، ومرآة لتحولات الدولة والمجتمع. من داخلها خرج زعماء الفكر والسياسة، وبرزت رموز التحرر والاستقلال. وفى سياق التحولات الدولية، كانت الجامعة مكانًا مثاليًا لخطب تسعى إلى بناء الجسور مع مصر والعالم العربى.
حيث كانت وستظل قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة، بكل ما تحمله من زخرف تاريخى وعمارة كلاسيكية، شاهدة على لحظات كبرى من تاريخ مصر السياسى الحديث. ومن ثمّ، فإن خطابى أوباما وماكرون لا يمكن فصلهما عن ذاكرة المكان ذاته. هما جزء من سردية ممتدة حول مصر ودورها، وحول كيف ترى القوى الدولية هذا الدور، وكيف تختار أن تتواصل معه. وإذا كانت الخطابات تمر، فإن الذاكرة المؤسسية تبقى. وجامعة القاهرة -بما تمتلكه من تاريخ وأرشيف ورمزية- تظل منبرًا يعكس فى كل مرة متغيرات الزمن، ويُعيد إنتاج المعانى بين النص والمكان.
فخطاب أوباما فى 2009 لم يُخاطب فقط طلاب الجامعة، بل توجه إلى الأمة الإسلامية بأسرها، عبر منصة ترتبط فى الوعى الجمعى العربى بالنهضة، والهوية، والاستقلال. وكذلك فعل ماكرون، إذ اختار أن يخاطب من القاعة نفسها ذات الرمزية، جيلًا جديدًا من المصريين، فى لحظة تعاد فيها صياغة خريطة التحالفات الدولية، وتخط مصر لنفسها أدوارًا جديدة فى المنطقة والعالم.
كان خطاب أوباما مثقلًا بالقيم والمبادئ -الديمقراطية، والتسامح، وحقوق الإنسان، والحوار- قيم نبيلة أطلقت لكى تلتف حولها القلوب والعقول، فى الواقع كان مرادها بها تحقيق الفوضى الخلاقة كما خططت لها السياسات الأمريكية.
على العكس، فإن خطاب ماكرون جاء محكومًا بمنطق الواقعية السياسية والمصالح الاستراتيجية. حيث غابت لغة «بناء الأحلام» التى تميز بها خطاب أوباما، وحضرت مفردات الشراكة الاقتصادية، والتعاون الأمنى، والتنمية المستدامة، والتحول الأخضر، ودعم التبادل الثقافى وفى القلب منه التعليم، وهى كلها مؤشرات على اختلاف الهدف السياسى من الخطابين، وفى رؤيتهما للدور المصرى.
هذا التحول يعكس أيضًا واقعًا دوليًا جديدًا: من نظام أحادى القطبية إلى عالم متعدد الأقطاب، من عولمة متفائلة إلى براجماتية حذرة، من انبهار بالديمقراطية إلى تركيز على الاستقرار. وفى كل هذه التحولات، تموضع خطابا أوباما وماكرون كعلامتين على مرحلتين متباينتين من العلاقة بين الغرب ومصر، ومن تموقع مصر ذاتها فى النظامين الإقليمى والعالمى.
رمزية الجغرافيا السياسية والزمان
زيارة رئيسى دولتين كبريين إلى المكان نفسه، خلال فترتين تفصل بينهما أكثر من عقد ونصف، ليست مجرد مصادفة دبلوماسية، بل هى تعبير عن اعتراف دولى متجدد بأهمية مصر ومكانتها. ففى حين جاء أوباما إلى القاهرة فى لحظة توتر إقليمى وسعى أمريكى لإعادة بناء الجسور -ظاهريًا-، أتى ماكرون فى لحظة استقرار مصرى، ونهوض اقتصادى ملموس، ولكن وسط بيئة إقليمية ودولية لا تزالان مشتعلتان.
فبين الزيارتين، كان هناك طريق طويل من التحولات: من يناير 2011إلى خطف تنظيم الإخوان للحكم، ومن 30 يونيو 2013 إلى إعادة بناء الدولة، ومن الارتباك الدبلوماسى إلى التوازن فى الشراكات. لقد أصبحت القاهرة طرفًا لا يمكن تجاهله فى المعادلات الإقليمية والدولية، وهو ما دفع باريس، مثلما واشنطن سابقًا، إلى توجيه خطاب استراتيجى من قلب القاهرة، ومن على منصة جامعة القاهرة تحديدًا.
أولًا- ملامح التحول البنيوى فى مصر بين 2009 و2025:
شهدت مصر خلال الفترة الممتدة بين عامى 2009 و2025 تحولات بنيوية عميقة طالت مختلف مناحى الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، بحيث يمكن اعتبار هذه المرحلة إحدى أكثر الفترات زخمًا فى تاريخ الدولة المصرية الحديث. ففى عام 2009، كانت مصر ترزح تحت وطأة أزمات اقتصادية خانقة، وتفاوت اجتماعى ملحوظ، وبنية تحتية تعانى من الترهل، وذلك فى ظل نظام سياسى امتد لأكثر من ثلاثة عقود، فقد خلالها كثيرًا من قدرته على التجدد حتى مع التخلص من القيادات القديمة وتولية نخبة جديدة لا تملك الخبرة ولا الرؤية. أما فى عام 2025، فقد أصبحت مصر مثالًا بارزًا فى المنطقة على التحول التنموى، المدفوع بإرادة سياسية قوية ومشروع وطنى واضح المعالم.
فمصر فى عام 2009 كانت تعيش على وقع إرهاصات تحول لم يكتمل. فعلى الرغم من تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى انطلق فى عام 2004 بالتعاون مع مؤسسات دولية كالبنك الدولى وصندوق النقد الدولى، فإن آثاره بقيت محدودة فى ظل هيمنة شبكات المصالح وغياب العدالة التوزيعية. وقد أظهرت مؤشرات الفقر والبطالة خاصة بين الشباب، أن النمو المحقق لم يكن شاملًا ولا مستدامًا، حيث تجاوزت معدلات البطالة الرسمية 9%، وبلغت نسبة الفقر نحو 22%، بينما ارتفعت معدلات التضخم إلى مستويات أثرت مباشرة على معيشة المواطنين.
فى الوقت نفسه، عانت البنية التحتية فى مصر من تآكل مزمن. فقد كانت شبكة الطرق تعانى من ضعف الكفاءة وسوء الصيانة، وكان قطاع النقل العام هشًا، والمرافق الأساسية فى مجالات الصحة والتعليم تواجه أزمات متكررة. كما اتسم الأداء المؤسسى بالبيروقراطية، والتداخل فى الصلاحيات، وضعف الحوكمة، ما أثر سلبًا على قدرة الدولة على تقديم الخدمات بكفاءة.
على النقيض من ذلك، شهدت مصر منذ عام 2014، وتحديدًا مع وصول الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى سدة الحكم، انطلاقة واسعة فى مسار التنمية المستدامة، تجلت فى إطلاق حزمة من المشروعات القومية العملاقة التى غيرت الخريطة العمرانية والاقتصادية للدولة. فقد تضاعفت مساحة المعمور من 7% إلى ما يقارب 14% من إجمالى مساحة البلاد، من خلال إنشاء 27 مجتمعًا عمرانيًا جديدًا، إلى جانب تنفيذ شبكة طرق قومية تجاوزت سبعة آلاف كيلومتر، والبدء فى إنشاء مشروعات عملاقة فى مجالات النقل، مثل القطار الكهربائى السريع، والمونوريل، والأوتوبيس الترددى.
كما شهد قطاع الطاقة تحولًا استراتيجيًا، حيث تحولت مصر من دولة تعانى من انقطاعات متكررة للكهرباء إلى مركز إقليمى للطاقة، بفضل التوسع فى محطات توليد الكهرباء التقليدية والمتجددة، والربط الكهربائى مع دول الجوار. وقد أدى هذا التحول إلى جذب استثمارات أجنبية كبرى، خاصة فى مجال الطاقة المتجددة، كما عزز من القدرة التنافسية للاقتصاد المصرى.
فى المجال الاجتماعى، شهدت مصر توسعًا فى برامج الحماية الاجتماعية، مثل «تكافل وكرامة»، وتطوير العشوائيات عبر مشروع «المساكن البديلة»، وتحديث منظومة التعليم والرعاية الصحية، بالإضافة إلى المشروع القومى «حياة كريمة» لتطوير الريف المصرى الذى يربط التدخلات التنموية بالعائد المستهدف التكاملى بين قرى الريف المصرى، ما ساهم فى تحسين مؤشرات التنمية البشرية بشكل ملحوظ. وتشير البيانات الصادرة عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء من بحث الدخل والإنفاق إلى انخفاض معدلات الفقر من 32.5% فى عام 2018 إلى 29.7% فى 2020، والتقرير يجرى كل عامين إلا أن ظروف الأزمة الاقتصادية الدولية والتى أثرت على الأسعار ومستويات التضخم قد أجلت تنفيذه لعدم الخروج بنتائج مضللة، إلا أنه فى كل الأحوال، ومع عودة الاستقرار للاقتصاد الدولى فإن التوقعات بمزيد من التحسن فى هذا المعدل قائمة خاصة بعد استكمال المشروعات التنموية.
لم تقتصر التحولات على المستوى المادى، بل شملت أيضًا تطورًا فى رؤية الدولة لوظيفتها. ففى حين كانت الدولة فى 2009 تؤدى دورًا تقليديًا يغلب عليه الطابع الإدارى، أصبحت فى 2025 دولة تنموية تتدخل استراتيجيًا لتوجيه الموارد والاستثمار وتشكيل سوق العمل. وقد اتضح ذلك فى تأسيس كيانات اقتصادية ضخمة، مثل «صندوق مصر السيادى»، واستخدام الأذرع الاستثمارية للدولة كشركات جهاز مشروعات الخدمة الوطنية لتعويض عدم إقبال القطاع الخاص على الاستثمار فى بعض المجالات.
وبذلك، فإن التحول بين عامى 2009 و2025 ليس فقط تحولًا فى السياسات، بل هو تحول فى فلسفة الحكم، وإعادة تعريف لدور الدولة، من كيان إدارى موروث إلى محرك تنموى يملك رؤية ومشروعات ووسائل تنفيذ فاعلة.
ثانيًا- تطور نظام الحكم فى مصر:
يمثل تطور القيادة السياسية مدخلًا أساسيًا لفهم طبيعة التحول فى نموذج الحكم فى مصر خلال العقدين الأخيرين، حيث جاءت قيادة الرئيس السيسى فى سياق استثنائى بعد ثورة 30 يونيو التى تحل ذكراها المجيدة الثانية عشرة هذه الأيام، مقدمة نموذجًا جديدًا للحكم يقوم على الحسم التنفيذى والمركزية التنموية وإعادة بناء الدولة من الداخل.
لعل أبرز ما ميز نظام مبارك أنه بدأ بشرعية الإنجاز وانتهى إلى أزمة التوريث، فحكم الرئيس حسنى مبارك لمصر الذى استمر منذ عام 1981 وحتى تنحيه فى فبراير 2011، فى فترة تجاوزت الثلاثة عقود، استهلها باستعادة الاستقرار بعد اغتيال الرئيس السادات فى 6 أكتوبر 1981، لكنها سرعان ما انزلقت فى مسار من الجمود السياسى وضعف الاستجابة للتحديات المتصاعدة. اعتمد نظام مبارك على شرعية الإنجاز الاقتصادى المحدود، وتثبيت أوضاع الداخل بالتجاهل لأدوار مشبوهة لمنظمات مجتمع مدنى غير قانونية وبالتحالف مع تنظيم الإخوان المحظور قانونيًا، ولكن تم توفير الغطاء السياسى والأمنى لهما بهدف تمرير مشروع التوريث الذى كان متضح الملامح.
الأمر الذى أدخل النظام فى أزمات متراكمة مع بداية الألفية الثالثة، نتيجة ارتفاع معدلات الفساد، وتضاؤل الأمل فى التغيير السياسى، مع تعثر الإصلاحات الاقتصادية فى تحقيق العدالة الاجتماعية. وقد ساهمت سياسات تبنى فكرة «التوريث» التى ظهرت ملامحها بوضوح داخل الحزب الوطنى، فى إثارة غضب شعبى واسع، لا سيما فى ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية واحتكار السلطة.
كانت مصر تُدار حينها عبر تحالف بين نخبة بيروقراطية أمنية، ونخبة اقتصادية-إعلامية تدور فى فلك نخبة الحكم الجديدة وأمانة السياسات بالحزب الوطنى، ما خلق انقسامًا داخل الدولة وأدى إلى شلل فى صناعة القرار. هذا الجمود ساهم فى انفجار الأحداث فى يناير 2011، حيث واجه النظام هبّة شعبية عارمة أنهت حقبة امتدت لثلاثة عقود دون تجديد فى الرؤية أو النخبة أو السياسات، خطفها الإخوان وحاولوا التمكن من مفاصل الدولة.
على النقيض، جاء صعود الرئيس عبدالفتاح السيسى فى 2014 بعد ثورة الـ 30 من يونيو 2013، التى أنهت حكم تنظيم الإخوان، فى سياق استعادة الدولة المصرية لعافيتها بعد ثلاث سنوات من الاضطراب السياسى والانقسام المجتمعى، وغياب شبه كامل لمؤسسات الحكم، ومحاولات مستميتة لتغيير هوية الدولة والشعب. حيث اتسمت رؤية القيادة الجديدة بالتركيز على «إعادة بناء الدولة» على أساس الاستقرار، والتنمية، واستعادة الفاعلية لمؤسسات الدولة المصرية تمهيدًا لتحقيق استراتيجية تنموية أكثر شمولًا تتوافق والقواعد السبعة عشر للتنمية البشرية المستدامة كما أقرتها منظمة الأمم المتحدة.
اعتمد السيسى منذ البداية على خطاب يقوم على استدعاء مفاهيم الأمن القومى، والاستقرار السياسى، والكرامة الوطنية، باعتبارها أساسًا لأى نهضة اقتصادية أو اجتماعية. وقد تميز أسلوب الحكم بالحسم التنفيذى والقدرة على الحشد السريع للموارد نحو أهداف محددة، وهو ما ظهر فى المشروعات القومية الكبرى التى انطلقت فى السنوات الأولى من حكمه، مثل توسعة قناة السويس، والبدء فى إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، وتطوير شبكة الطرق القومية.
كما شهدت مصر فى عهد السيسى توسعًا فى الدور الوظيفى للقوات المسلحة كمحرك رئيسى لقاطرة التنمية الاقتصادية، عبر إشرافها على تنفيذ آلاف المشروعات فى البنية التحتية، والإسكان، والصحة، والتعليم، بما أعاد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
لقد أعادت الدولة فى عهد الرئيس السيسى صياغة العقد الاجتماعى بين الدولة والمواطن بتقديم نفسها باعتبارها الحامى والحارس والمنفذ لمشروع وطنى جامع، مقابل التفاف شعبى قائم على المشاركة فى الإنجاز والسياسات العامة. وقد طبق الرئيس السيسى نموذج «الدولة القائد» التى تُحدّد أولويات المجتمع وتنفذها بإرادة مركزية، وهو نموذج يختلف عن الليبرالية السياسية الغربية، لكنه يتسق مع نماذج «الدولة التنموية» فى آسيا وشرق أوروبا. وبذلك، فإن قيادة السيسى تمثل قطيعة مع نموذج «الدولة المديرة» الذى ساد فيما سبقها، وتأسيسًا لمفهوم «الدولة المبادرة» التى لا تنتظر بل تصنع التغيير.
ثالثًا- تحولات فى العلاقات المصرية-الأمريكية والمصرية-الفرنسية:
فى عام 2009، كانت العلاقات المصرية-الأمريكية تمر بمرحلة من الفتور النسبى بعد عدة سنوات من التوترات فى عهد إدارة الرئيس الأمريكى جورج بوش الابن، لا سيما على خلفية قضايا حقوق الإنسان وديمقراطية الحكم فى مصر. فى هذا السياق، كان خطاب أوباما فى القاهرة فى ظاهره بمثابة محاولة لتجاوز العقبات التى اعترت العلاقات الثنائية، والتأسيس لمرحلة جديدة من التعاون بين الولايات المتحدة ومصر، تتمحور حول مصالح مشتركة فى قضايا، مثل مكافحة الإرهاب، والتنمية الاقتصادية، والحفاظ على الاستقرار فى الشرق الأوسط. بينما هو فى باطنه كان يمثل إشارة البدء فى تنفيذ مخطط «الفوضى الخلاقة».
وعلى الرغم من الترحيب الذى حظى به الخطاب فى الأوساط الرسمية والمئات من المثقفين والباحثين المصريين الذين وقعوا على خطاب استدعاء «أوباما»، إلا أن العلاقات المصرية-الأمريكية كانت محكومة بتوازنات سياسية إقليمية معقدة. فقد كانت مصر تحت قيادة مبارك تمثل حليفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة، خاصة فى ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وعملية السلام فى الشرق الأوسط، والأمن فى الخليج العربى. إلا أن استمرار الأزمات الداخلية فى مصر وانتقادات واشنطن للملف الحقوقى قد ألقت بظلالها على هذه العلاقات إبان تلك المرحلة.
ومع الإطاحة بتنظيم الإخوان وحكم المرشد عام 2013، تعرضت العلاقات المصرية-الأمريكية لانتكاسة كبيرة نتيجة لانتقادات الإدارة الأمريكية ــ نتيجة لنظرتها غير المنصفة والمعادية ــ لثورة الشعب المصرى، وهو ما أثر سلبًا على الدعم الأمريكى لمصر فى تلك الفترة. ومع ذلك، بدأت العلاقات فى التحسن تدريجيًا بعد 2014، خصوصًا مع عودة التعاون فى مجالات مكافحة الإرهاب، وأمن الخليج، والاستقرار الإقليمى. ورغم التحولات التى شهدتها هذه العلاقات، إلا أن مصر نجحت فى تعزيز مكانتها كداعم رئيسى للأمن الإقليمى، ما سمح بتجديد التعاون فى المجالات العسكرية والاقتصادية.
أما العلاقات المصرية-الفرنسية، فقد شهدت تحولًا مهمًا منذ تولى الرئيس السيسى الحكم فى 2014. فقد شهدت السنوات اللاحقة تقاربًا كبيرًا بين مصر وفرنسا، تجلى فى سلسلة من الزيارات الرسمية المتبادلة وتوقيع اتفاقيات استراتيجية فى مجالات عدة، أبرزها الأمن، والطاقة، والنقل، والتعليم. وقد زار الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون مصر فى عدة مناسبات، ليؤكد على متانة العلاقات بين البلدين، لاسيما فى ظل توجهات فرنسا لتوسيع نفوذها فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فى وقت بدأ فيه الدور الأمريكى يتراجع فى بعض القضايا الإقليمية.
وقد تجسد هذا التعاون بشكل كبير فى مبيعات الأسلحة الفرنسية لمصر، بما فى ذلك صفقة طائرات «رافال» والفرقاطات البحرية وحاملتى الطائرات «الميسترال»، ما ساهم فى تعزيز العلاقات الدفاعية بين البلدين. إلى جانب ذلك، تلعب الشركات الفرنسية دورًا كبيرًا فى مشروعات البنية التحتية فى مصر، بما فى ذلك تطوير النقل والقطارات، وكذلك فى مشاريع الطاقة المتجددة، خاصة فى منطقة البحر الأحمر.
وبذلك، أصبحت العلاقات المصرية-الفرنسية أكثر تنوعًا واستقرارًا مقارنة بالعلاقات المصرية-الأمريكية، التى بقيت مشوبة بالعديد من التحديات السياسية والاقتصادية. وعكست الزيارة الأخيرة لماكرون إلى القاهرة فى 2025 تحولًا استراتيجيًا فى العلاقات بين البلدين خاصة مع الترحيب الشعبى الكبير بضيف مصر عند زيارته لحى الجمالية فى سابقة لم تحدث أن يوجد رئيس دولة كبرى وسط المواطنين المصريين، وهو أمر يعكس فهم القائمين على إعداد الزيارة للعقلية الفرنسية المولعة بالثقافة والتراث والتعليم. حيث تم فى خلال هذه الزيارة التوقيع على اتفاقيات جديدة فى مجالات التعليم العالى والبحث العلمى، مما يعكس حرص الطرفين على تعزيز التعاون فى المجالات غير التقليدية أيضًا.
رابعًا- خطابا أوباما وماكرون.. رؤيتان مختلفتان:
كما اتضح لنا سابقًا، اختلف خطابا أوباما وماكرون فى جامعة القاهرة ليس فقط فى السياق السياسى الذى ألقيا فيه، ولكن أيضًا فى المضامين التى حملها كل منهما والرسائل التى حاول كل رئيس إيصالها إلى مصر والعالم الإسلامى. ففى 4 يونيو 2009، كان خطاب الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى جامعة القاهرة محاولة لإعادة تعريف العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامى، وكذلك محاولة لترميم ما تصدّع من هذه العلاقات خلال فترة الرئيس جورج بوش الابن (2000 ــ 2008)، لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، التى أدت إلى تداعيات سلبية على صورة أمريكا فى العالم العربى والإسلامى.
كان خطاب أوباما فى ظاهره دعوة إلى «بداية جديدة» بين الغرب والعالم الإسلامى، على أن يكون أساس هذه البداية الاحترام المتبادل، والتعاون فى مواجهة التحديات المشتركة، مثل الإرهاب، والحروب، والبطالة، وكذلك التعاون فى مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا. وركز أوباما فى خطابه على مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان -إشارة التغيير وجوهر المضمون ــ ، إذ دعا إلى تحقيق التقدم الاجتماعى والسياسى فى المنطقة، مع التركيز على حقوق الشعوب فى تقرير مصيرها، ودعم الحرية والديمقراطية فى الدول الإسلامية. ورغم أنه لقى ترحيبًا واسعًا فى تلك اللحظة، إلا أن الخطاب حمل فى طياته تناقضات لم تستطع السياسة الأمريكية تجاوزها، إذ تزامن مع استمرار التوترات فى العديد من البلدان الإسلامية، مثل العراق وأفغانستان، بالإضافة لما أنتجه ذلك من فوضى عصفت بأمن العديد من الدول الوطنية وشردت مواطنيها، وهو ما أسهم فى تراجع مصداقية الولايات المتحدة لدى الشعوب العربية.
بعد مرور 16 عامًا، جاء خطاب الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون فى المكان نفسه، جامعة القاهرة، فى ربيع 2025، ولكن فى سياق مختلف تمامًا. خطاب ماكرون، رغم أنه جاء فى إطار تعزيز العلاقات الثنائية بين مصر وفرنسا، فإن رسالته كانت مركزة على التعاون الاستراتيجى مع مصر فى مواجهة التحديات الإقليمية والدولية التى تواجهها المنطقة. فقد ركز ماكرون فى خطابه على أهمية استقرار مصر فى المنطقة، مشيرًا إلى دورها المحورى فى مكافحة الإرهاب، ومواجهة الهجرة غير الشرعية، وتعزيز الاستقرار فى البحر المتوسط ومنطقة الشرق الأوسط.
ماكرون، كذلك أشاد بالتطورات التى شهدتها مصر فى عهد الرئيس السيسى، سواء فى مشروعات البنية التحتية أو فى مجالات الطاقة. وكان خطاب ماكرون أكثر براجماتية وأقل مثالية مقارنة بخطاب أوباما، إذ لم يتطرق بشكل حاد إلى قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان بالطريقة نفسها التى فعلها أوباما، بل ركز على التعاون الأمنى والاقتصادى. وقد يعكس هذا التحول فى الخطاب تفاهمًا جديدًا بين أوروبا وبلدان المنطقة حول ضرورة الاستقرار السياسى والأمنى كشرط أساسى لتحقيق التنمية، بدلًا من التشبث بذرائع القضايا الداخلية للدول كمدخل للتغيير.
اختلاف النهج بين الخطابين يمكن أن يُنسب إلى التغيرات العميقة التى شهدها العالم، بما فى ذلك التحديات الاقتصادية، والحروب الإقليمية المستمرة، وصعود قوى دولية جديدة، مثل الصين وروسيا، والخلافات الأوروبية-الأمريكية. ومن جهة أخرى، يشير هذا التغيير فى اللغة السياسية إلى التحولات التى طرأت على سياسة الغرب تجاه المنطقة فى ظل تراجع النفوذ الأمريكى، وصعود قوى أخرى تسعى لتعزيز دورها فى منطقة الشرق الأوسط.
إذا كان خطاب أوباما قد سعى إلى صياغة دغدغت أحلام الأبرياء تتعلق بالقيم النبيلة للعدالة والمساواة وحقوق الإنسان كمدخل للتغيير الفوضوى، فإن خطاب ماكرون يأتى فى سياق أكثر واقعية، يركز على الاستقرار والتنمية، دون تجاهل أهمية العلاقات الاقتصادية والسياسية الاستراتيجية بين مصر وفرنسا. وبذلك، فإن خطاب ماكرون يعكس تحولًا فى النظرة الغربية إلى مصر، والتى كانت فى السابق تُعتبر مسرحًا للصراعات الداخلية والنزاعات السياسية، إلى كونها اليوم شريكًا مهمًا فى استقرار المنطقة والاقتصاد العالمى.
خامسًا- مصر ودورها الخارجى.. من التراجع إلى العودة:
فى عام 2009، كانت مصر تواجه تحديات اقتصادية وسياسية داخلية عديدة -كما أشرنا-، وقد انعكست هذه التحديات على دورها الإقليمى والدولى. على الرغم من مكانتها التاريخية كلاعب رئيسى فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كان تأثيرها فى الساحة الدولية قد تراجع بشكل ملحوظ نتيجة لتداعيات أحداث عام 2011. كذلك، كان الدور المصرى فى القضايا الإقليمية مثل القضية الفلسطينية، أو باقى الأزمات الإقليمية التى كانت تتفجر حينذاك يواجه صعوبات فى التأثير المباشر، فى ظل تزايد النفوذ الإيرانى والتركى فى المنطقة، وكذلك تصاعد أدوار لقوى إقليمية أخرى.
لكن، مع التحولات الكبيرة التى شهدتها مصر منذ 2013، وتحديدًا بعد تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى السلطة فى 2014، بدأت البلاد فى إعادة بناء دورها الإقليمى والعودة بقوة إلى الساحة الدولية. ففى مجالات متعددة ووفقًا لثوابت راسخة، مثل مكافحة الإرهاب، وتحقيق الأمن الإقليمى، والحفاظ على الدولة الوطنية ومؤسساتها، والدفاع عن حقوق مصر فى الموارد الطبيعية مثل مياه النيل، أصبحت مصر لاعبا مؤثرًا فى العديد من القضايا الكبرى فى المنطقة.
من أجل استعادة دورها الإقليمى، كان على مصر أن تتعامل مع تحدياتها الداخلية أولًا. فبعد سنوات من الاضطراب السياسى الذى نتج عن أحداث 2011، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، كان من الضرورى أن تعيد الدولة المصرية بناء مؤسساتها الأمنية، والسياسية، والاقتصادية. ونجح الرئيس السيسى فى استعادة الاستقرار الداخلى عبر تحقيق الانتصار على الجماعات الإرهابية التى كانت تهدد الأمن الداخلى.
من جهة أخرى، ساعدت مشروعات التنمية الكبرى التى أطلقتها الحكومة المصرية، مثل مشروع قناة السويس الجديدة، والعاصمة الإدارية الجديدة، والمشروعات فى قطاع الطاقة والبنية التحتية، ومشروعات الطرق والكبارى، والتوسع العمرانى الكبير، فى تعزيز الصورة الاقتصادية للبلاد، وجعلتها محط اهتمام كبير من قبل القوى الدولية، مما مهد الطريق لإعادة بناء علاقاتها الإقليمية.
لقد برز دور مصر بشكل واضح فى العديد من القضايا الإقليمية. على سبيل المثال، فى القضية الفلسطينية، استمرت مصر فى لعب دور الوساطة فى جهود المصالحة بين حركتى فتح وحماس، وفى تسوية الصراعات الممتدة فى قطاع غزة. كما كانت مصر جزءًا من التحالفات التى تشكلت لمحاربة الإرهاب فى شمال إفريقيا ومنطقة الساحل. كانت مصر قد تبنت سياسة مكافحة الإرهاب بشكل صارم على المستويين المحلى والدولى، وقدمت الدعم للأطراف الإقليمية فى هذا المجال، مما عزز من مكانتها فى التحالفات الدولية.
وفيما يتعلق بالعلاقات مع دول حوض النيل، واصلت مصر التفاوض بجدية بشأن قضية مياه النيل، خاصةً فى سياق أزمة سد النهضة الإثيوبى. وقد اتخذت مصر سياسة حازمة فى الدفاع عن مصالحها المائية، وقامت بتكثيف المفاوضات مع إثيوبيا والسودان، وحققت نتائج مهمة فى الحفاظ على حقوقها التاريخية فى مياه النيل.
وفيما يخص العلاقات مع الدول الكبرى، فقد لعبت سياسة الاتزان الاستراتيجى لمصر دورًا محوريًا فى تحقيق علاقات فاعلة مع القوى الغربية، مثل الولايات المتحدة وفرنسا، ومع قوى الشرق، مثل روسيا والصين. فقد استطاع السيسى أن يُعزز من العلاقات مع روسيا والصين، خاصة فى المجالات العسكرية والاقتصادية، بينما حافظ على علاقات استراتيجية مع الدول الغربية، بما فى ذلك الولايات المتحدة، وألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، التى كانت حليفًا رئيسيًا فى تعزيز الاستقرار فى المنطقة. حيث لم تتخل مصر عن علاقاتها التاريخية مع الولايات المتحدة، وظلت تلك العلاقة محورية فى العديد من المجالات مثل مكافحة الإرهاب، والتعاون العسكرى، والمساعدات الاقتصادية. فمن خلال هذه الاستراتيجية المتوازنة، تمكنت مصر من تعزيز نفوذها فى المنطقة والعالم.
من أبرز التحولات فى السياسة الخارجية المصرية بعد 2013، كان عودة مصر إلى الساحة الإفريقية. فقد كانت مصر قد ابتعدت عن الاتحاد الإفريقى لفترة طويلة بعد تعليق عضويتها فى الاتحاد فى أعقاب الإطاحة بحكم المرشد عام 2013. ولكن مع وصول السيسى إلى الحكم، بدأت مصر فى استعادة علاقاتها مع الدول الإفريقية من خلال المشاركة الفعالة فى الاجتماعات والمؤتمرات، كما أن السيسى ترأس الاتحاد الإفريقى فى 2019، مما ساعد فى تعزيز دور مصر فى القارة.
فمن خلال دعم مصر لبرامج التنمية فى القارة، وزيادة التعاون مع الدول الإفريقية فى مجالات الطاقة، والصحة، والبنية التحتية، والاقتصاد، استطاعت مصر أن تُعيد بناء علاقاتها مع الدول الإفريقية بشكل قوى. وقد ساعدت هذه العودة فى زيادة حضور مصر فى القضايا الإفريقية الكبرى، مثل النزاعات فى جنوب السودان وليبيا، والمفاوضات حول موارد المياه، خاصة فى دول حوض النيل.
يمكن القول إن مصر، بعد عام 2013، قد نجحت فى إعادة بناء مكانتها كقوة إقليمية ودولية. حيث تمكنت من استعادة استقرارها الداخلى، وتعزيز دورها فى القضايا الإقليمية، والعودة إلى الساحة الإفريقية. علاوة على ذلك، فقد استطاعت مصر أن تبنى تحالفات استراتيجية مع القوى الكبرى، وتحقق توازنًا دبلوماسيًا بين الشرق والغرب. وبذلك، فإن مصر أصبحت لاعبًا محوريًا فى المنطقة وشريكًا دوليًا فاعلًا، وتحولت من دولة تواجه تحديات داخلية وإقليمية إلى قوة إقليمية تسهم فى تعزيز الأمن والاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا.
لقد كانت زيارة الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى 2009، وزيارة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون فى 2025، حدثين بارزين فى العلاقات الدولية لمصر، وأسلوبها فى إعادة بناء مكانتها على الساحة الإقليمية والدولية. ومن خلال مقارنة الزيارتين، يتبين لنا تطور النظرة الدولية تجاه مصر وكيف يمكن للدبلوماسية والسياسة الخارجية أن تلعب دورًا محوريًا فى تشكيل المسار المستقبلى للبلاد.
التحولات فى السياسة الخارجية المصرية
كانت زيارة أوباما فى 2009 نقطة تحول فى السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العالم العربى، وكان من المتوقع أن تفتح آفاقًا جديدة للعلاقات مع المنطقة العربية. إلا أن التحديات التى واجهت مصر خلال فترة ما بعد هذه الزيارة كانت كبيرة، حيث شهدت البلاد فى الأعوام التالية تقلبات سياسية واقتصادية. على النقيض، جاءت زيارة ماكرون فى 2025 لتؤكد على فاعلية الدور المصرى إقليميًا ودوليًا. وقد أظهرت هذه الزيارة أن مصر كانت قد استعادت استقرارها الداخلى، وأصبحت لاعبًا محوريًا فى الأمن الإقليمى. كما أنها أظهرت قدرة مصر على التكيف مع التحولات الدولية، والسعى لاستعادة مكانتها الإقليمية والدولية.
تعزيز العلاقات مع القوى الكبرى
من خلال الزيارتين، يمكننا ملاحظة كيف كانت مصر تدير علاقاتها مع القوى الكبرى، سواء مع الولايات المتحدة خلال زيارة أوباما أو مع الاتحاد الأوروبى وفرنسا من خلال زيارة ماكرون. العلاقة مع أوباما كانت هشة لتزايد ضغوط دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان من جهة، والموقف المصرى الصلب بشأن القضية الفلسطينية من جهة أخرى. بينما جاءت زيارة ماكرون فى 2025 لترفيع التعاون فى المجالات العسكرية والاقتصادية، خاصة فى إطار التعاون المشترك فى محاربة الإرهاب، وتوسيع التعاون فى مجالات الطاقة والاستثمارات.
هاتان الزيارتان تسلطان الضوء على القدرة المصرية على إدامة علاقاتها الاستراتيجية مع القوى الكبرى، وكيف استطاعت مصر أن تبنى شبكة من التحالفات المتوازنة مع الغرب تحافظ من خلالها على مصالحها.
السياسة الواقعية والمصالح القومية
إذا كانت زيارة أوباما قد دعت إلى تبنى سياسة مبنية على القيم الديمقراطية وفقا للمنطور الغربى، فإن زيارة ماكرون أكدت أن لمصر رؤيتها الخاصة لتطبيق الديمقراطية تستند إلى سياسة واقعية تهتم أولًا وأخيرًا بالمصالح القومية. السياسة المصرية تحت قيادة الرئيس السيسى تركز بشكل كبير على تحقيق الاستقرار الداخلى، ومكافحة الإرهاب، وحماية المصالح الاستراتيجية، مثل حقوقها فى مياه النيل، وتعزيز علاقاتها الاقتصادية. من خلال الزيارتين، يتضح أن مصر قد رسخت لنفسها نهجًا يتوازن بين القيم السياسية والمصالح القومية فى إطار استراتيجية دبلوماسية مرنة.
إعادة مكانة مصر فى العالم العربى والإفريقى
زيارة أوباما جاءت فى وقت كانت فيه مصر فى حالة من التراجع السياسى على مستوى العالم العربى، بينما كانت زيارة ماكرون تمثل مرحلة عودة مصر إلى دورها البارز فى الساحة العربية والإفريقية. فبعد أن عانت مصر من تبعات أحداث ما أطلق عليه الغرب «الربيع العربى»، عادت إلى قلب القضايا العربية، مثل القضية الفلسطينية، والنزاع فى ليبيا، والتعامل مع الأزمات الإقليمية المختلفة فى المنطقة.
كما نجحت مصر فى تعزيز دورها فى الاتحاد الإفريقى، من خلال المشاركة الفعالة فى القضايا الإفريقية، مثل أزمة جنوب السودان، وسد النهضة. هذه العودة إلى الساحة الإفريقية كانت ثمرة لعلاقة متجددة مع القارة الإفريقية فى السنوات الأخيرة، بما فى ذلك تعزيز التعاون فى مجالات التنمية، والطاقة، والنقل، والأمن.
التحديات والفرص المستقبلية
على الرغم من النجاحات التى حققتها مصر فى استعادة مكانتها الإقليمية والدولية، فإن هناك تحديات لا تزال قائمة، منها التحديات الاقتصادية والتهديدات الأمنية، مثل الإرهاب، وأزمة سد النهضة، بالإضافة إلى التوترات فى ليبيا وسوريا. ومع ذلك، فإن مصر تمتلك فرصًا كبيرة للاستفادة من دورها المحورى فى منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا.
إحدى الفرص المستقبلية هى تعزيز التعاون المتزن الذى يراعى الأهداف الوطنية والمصلحة القومية مع الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة وروسيا، وكذلك تعزيز الروابط مع الشركاء الأوروبيين. بالإضافة إلى ذلك، تمثل مصر نقطة تقاطع حيوية للطاقة، ومن الممكن أن تلعب دورًا متزايدًا فى تأمين إمدادات الطاقة العالمية، مما يعزز من مكانتها الاقتصادية.
من خلال هاتين الزيارتين، نرى أن السياسة الخارجية المصرية قد شهدت تحولًا كبيرًا من فترة تراجع إلى فترة عودة قوية. وفى الوقت الذى كانت فيه مصر تبحث عن التوازن بين قوى الشرق والغرب، فإنها تمكنت من تعزيز علاقاتها مع القوى الكبرى، وإعادة دورها القيادى فى منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا. إن التحديات التى تواجهها مصر فى المستقبل لن تكون سهلة، لكنها تمتلك الأدوات والإمكانات التى تجعلها قادرة على الاستمرار فى لعب دور محورى على الساحة الدولية.
بين خطاب باراك أوباما فى ربيع 2009 وخطاب إيمانويل ماكرون فى ربيع 2025، ترسم مصر مسارًا متفردًا يعكس قدرة الدولة على إعادة بناء ذاتها وسط عواصف الداخل وتحولات الخارج. فمن دولة تواجه تحديات الشرعية والتراجع الاقتصادى والإقليمى، إلى دولة تستعيد حضورها بثقة عبر مشروعات تنموية كبرى، وتحالفات دولية متوازنة، ودور إقليمى فاعل.
الخطابان، وإن اختلفت رؤيتهما وظروفهما، يشكلان معًا مرآة لمرحلتين عالميتين مختلفتين: من وعود «البدايات الجديدة» الأمريكية لإخضاع الإرادة الوطنية إلى واقعية «الشراكة المتعددة الأبعاد» الفرنسية. وفى كلا الخطابين، تتجلى مصر كعنصر ثابت فى معادلات السياسة الدولية، ومفتاحًا لفهم التوازنات فى الشرق الأوسط وإفريقيا.
لقد كشفت الزيارتان -بما لهما من رمزية عميقة- أن القاهرة لا تزال حاضرة فى عواصم صناعة القرار الدولى، وأن جامعة القاهرة، كمؤسسة وطنية عريقة، تحتفظ بدورها التاريخى كمنبر للتواصل بين الشرق والغرب. وإذا كانت مصر قد مرت بمراحل قاسية من التحول، فإنها أثبتت - مرة بعد أخرى - قدرتها على الصمود، والمبادرة، وإعادة تموضعها فى عالم لا يعترف إلا بالقوة، والاستقرار، والرؤية الواضحة.
فى النهاية، لا تكتمل قراءة الخطابين دون التوقف أمام الشعب المصرى ذاته، الذى كان ولا يزال جوهر هذه التحولات. فبين الأمل والاحتجاج، وبين التضحية والبناء، كانت إرادة المصريين هى البوصلة التى أعادت صياغة وتصحيح المسار. وفى ظل هذه الإرادة، تبدو مصر اليوم، بكل ما مرت به، أكثر استعدادًا لصناعة مستقبلها، وأكثر وعيًا بدورها، وأكثر انفتاحًا على العالم، وفق شروطها الوطنية الخالصة.