تحليلات - شرق أوسط

مصير المصالحة:|التحديات الداخلية والخارجية أمام الحكومة الفلسطينية الجديدة

طباعة

لم يُقيّض للحكومة الفلسطينية الجديدة أن تهنأ بثمرة تشكيلها، بعدّ مخاضّ عسير، في 2 يونيو الجاري، كإحدى أولى نواتج اتفاق المصالحة، بين وفد منظمة التحرير وحركة "حماس" في 23 إبريل الماضي، وذلك إزاء تحديات داخلية وخارجية مضادّة لن تتركها بسلام إلا بعد الإجهاز عليها.

وإذا كان حساب الزمن، عند كثيرين، يعدّ التحديّ الأكبر أمام المصالحة، قياساً بسقفه وديناميات سرعته، إلا أن عنصره، مهما طال أو قصر، لا يستقيم مع ملفات داخلية شائكة تم تأجيلها من مشاهد "توافقية" سابقة، قد تهدّد بمصير الحكومة ما لم يتم حسمها، ومع مناهضة إسرائيلية عاتية لما يعتقده الاحتلال خطراً على مشروعه في الضفة الغربية المحتلة، وليس ضدّ المفاوضات كما يزعم، مقابل تعاطيّ أوروبي "ودّيّ" معها، و"مراقبة" أمريكية حاكمة لسياساتها وأفعالها، ضمن سياق التعامل معها وتمويلها.

ويجدّ التباين بين حركتي "فتح" و"حماس" حضوره الشاخصّ في مفاصل البرنامج الوطني، والمنظور السياسي لإدارة الصراع العربي – الإسرائيلي، وكيفية حله، والرؤية الخارجية، كما تجلت نحو متغيرات المنطقة وتجسدت مؤخراً في الموقف من الانتخابات الرئاسية المصرية، مما سينعكس وترّه على عمل الحكومة ومسارها، عند غلبة الإنشغال بما يحرّف الاهتمام عن تحقيق وحدة وطنية تشكل أسّ مرحلة التحرر الوطني من الاحتلال.

حكومة الوفاق الوطني

أدت حكومة الوفاق الوطني الفلسطينية، برئاسة رامي الحمدلله، في 2/6/2014، اليمين القانونية أمام الرئيس محمود عباس بحضور أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وقادة الفصائل في مقر الرئاسة برام الله.

وجاء حلف اليمين غداة تجاوز نطاق الخلاف بين حركتي "فتح" و"حماس" حول قضية "وزارة الأسرى"، والتي كادت أن تعصف بمصير اتفاق المصالحة إثر إعلان رئاسة السلطة عن قرار إلغائها وتحويلها إلى هيئة مرتبطة بالمنظمة، وهو ألأمر الذي رفضته "حماس" واعتبرته "طعنة من الخلف للأسرى المضربين عن الطعام، حتى الآن، في سجون الاحتلال"، إلى أن تم تطويق الخلاف عند إسناد مهام الوزارة لرئيس الحكومة.

وتألفت الحكومة الفلسطينية من 17 وزيراً من التكنوقراط المستقلين، يشغلون 20 حقيبة وزارية، بمن فيهم رئيس الوزراء، بالإضافة إلى تعيين أمين عام مجلس الوزراء بدرجة وزير، فيما تغيب الوزراء الأربعة من قطاع غزة بسبب منع سلطات الاحتلال مغادرتهم إلى الضفة الغربية المحتلة.

وشغلت ثلاث سيدات مكانهن في تشكيلة الحكومة، بالإضافة إلى نائبين لرئيس الحكومة، الذي تم إناطته مهام الداخلية أيضاً، فيما جرى دمج ست وزارات مع حقائب وزارية أخرى.

وضمت الحكومة 8 وزراء من حكومة الحمدلله السابقة، التي شكلها في يونيو من العام الماضي، محتفظين بنفس حقائبهم الوزارية، مثل نائبي رئيس الوزراء ووزارات المالية والشؤون الخارجية وشؤون القدس والسياحة والآثار والصحة، فيما أوكل بعضهم بمهام إضافية، مقابل انضمام وزراء من "حكومات رام الله" السابقة إليها، مما أوجد انتقاداً لها في الساحة الفلسطينية حدّ وصفها "تعديلاً وزارياً ليس أكثر".

ولدى احتساب الوزارات التي جرى دمجها مع أخرى، فإن عدد الوزراء الإجمالي يشابه عديد تشكيلة حكومة الحمدلله الأخيرة والتي بلغت 23 وزيراً، خلا منصب أمانة عام مجلس الوزراء.

تحديات داخلية

لم تلبث الحكومة الجديدة أن تشكلت؛ حتى طفى على واجهة مشهدها "أزمة الرواتب" في قطاع غزة، التي لم تهدأ حتى اليوم، إزاء إلقاء كل من الطرفين مسؤولية دفعها على الآخر، لاسيما عقب صرف رواتب الموظفين التابعين للسلطة، مقابل ضبابية الوضع بالنسبة لموظفي الحكومة السابقة "المقالة" في غزة، والذين يقدر عددهم بين 40 – 50 ألف موظف، مما تسبب في تجاذب حادّ بين حركتي "فتح" و"حماس" أعاد للإذهان عهد ما تم احتسابه قد مضى، وأعطى مؤشراً قاتماً لما ستكون عليه الأمور عند استلال الطرفين الملفات الشائكة.

وتجددت الأجواء المعكرّة لمهام الحكومة، في الإعداد لإجراء الانتخابات وإعادة إعمار قطاع غزة وتوفير احتياجات الشعب الفلسطيني، وفق ما اتفق عليه سابقاً، وذلك بفعل حادثة المستوطنين الثلاثة المفقودين، منذ مساء الثاني عشر من يونيو الجاري، والتي أنتجت تصعيداً عدوانياً إسرائيلياً عاتياً، طال، تحت ذريعة البحث عنهم، حملة اعتقالات واسعة النطاق، بلغت حتى اليوم 390 فلسطينياً، ومداهمة المنازل والاعتداء على مواطنيها والتنكيل بهم.

ورغم عدم إعلان "حماس" مسؤوليتها عن الحادثة، إلا أن أصابع الاتهام الإسرائيلية الرسمية وجهت فوراً إليها، بزعم وجود قرائن وأدلة ثابتة لم تكشف عنها حتى اللحظة. وقد ولّد ذلك اتهامات متبادلة بين الحركتين، حيث اتهمت "فتح" حركة "حماس" بالتسبب في إيذاء الشعب الفلسطيني، بينما اعتبرت "حماس" أن ما حدث من تصعيد إسرائيلي نتاج التنسيق الأمني بين الأجهزة التابعة للسلطة والاحتلال، وهو الأمر الذي دافع عنه الرئيس عباس، في كلمته أمام مجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الاسلامي خلال اجتماعهم بجدة في 18 يونيو الجاري، حينما قال إن "التنسيق الأمني مع إسرائيل ليس عيباً، بل من مصلحة السلطة لحماية الشعب الفلسطيني"، مما أوجد تنديداً واسعاً من قبل قوى وفصائل فلسطينية.

ولا شك أن قضية التنسيق الأمني بين أجهزة السلطة والاحتلال تطلّ برأسها الثقيل على أفق الاتفاق، عدا عن مطالبة "حماس" بإبقاء سلاح المقاومة دونما مساس، مع دمج أفراد الشرطة والأمن في قطاع غزة ضمن إطار الأجهزة ألأمنية التابعة للسلطة، غير أن الأخيرة صرحت أكثر من مرّة بأن الدولة المنشودة ستكون منزوعة السلاح.

ويقف تباين البرنامج السياسي حجر عثرة عند الإيغال بعيداً في تطبيقات لجنة تفعيل وتطوير المنظمة، التي تستهدف دخول حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" تحت مظلتها، وذلك إزاء استلال "حماس" للمقاومة المسلحة، وعدم الاعتراف بالكيان الصهيوني، وتحرير كامل فلسطين التاريخية، مقابل أخذ "فتح" بمسار التفاوض خياراً استراتيجياً أوحد، وبالمقاومة الشعبية السلمية فقط ضدّ عدوان الاحتلال.

ويدخل في هذا السياق تباين منظور الحركتين حيال تفسير بنود اتفاق المصالحة، والمغزى المستفاد من مضمونه، فبينما ترى "فتح" أن حكومة الوفاق الوطني ستكون "ملتزمة بالتزامات السلطة والاتفاقيات الموقعّة وبالبرنامج السياسي الذي أقرته مؤسسات منظمة التحرير"، ما يعني الالتزامات المبرمة مع الكيان الإسرائيلي والاعتراف به، فإن ذلك الأمر "مرفوض كلياً" بالنسبة إلى "حماس"، التي تجدّ في الحكومة "مرحلة انتقالية لأداء مهام معينة وفق سقف زمني متفق عليه مسبقاً"، بستة أشهر.

هذا الخلط في الرؤى قد يقدّر له التغلغل في مفاصل عمل الحكومة ومسارها عند الاحتكام إلى سياسة خارجية متباينة، وجدت حضورها، قبل تشكيلها، في موقف الطرفين المتغاير من أحداث ومتغيرات المنطقة، لاسيما حيال مصر وسورية، وهو أمر لم يتوقف عند حدّ التباين الثنائي وإنما أصاب صفوف الحركة الواحدة، حيث الخلافات الداخلية في "فتح" التي تفاعلت حدّتها مؤخراً عندما دخلت علاقة الجذب المتبادل بين الرئيس عباس والنائب المفصول من الحركة محمد دحلان منعطفاً حاداً أنذر بنفق "انقسامي" آخر في الساحة المحتلة ما لم يتم "تطويقه داخلياً".

 بينما ترك حراك التغيير العربي ندوبه في "حماس"، بطبيعة ارتباطها فكرياً وتنظيمياً بالإخوان المسلمين، وجعلها تدفع أثمانه السياسية المعتبرة، تزامناً مع خلافات داخلية أبرزت خطاباً متمايزاً بين قيادتي "الداخل" و"الخارج" مسّ موقفها من إدارة الصراع العربي- الإسرائيلي وحراك التغيير والمصالحة، فضلاً عن انقطاع الإمداد المالي الخارجي عن قطاع غزة، المحاصر إسرائيلياً.

بيدّ أن إرهاصات المواقف السياسية ستترك ذيولها اللاحقة؛ عند احتساب العلاقة مع مصر تحديداً، نظراً لمكانتها المركزية الاستراتيجية في المنطقة ودورها المهم في مفاعيل القضية الفلسطينية وموقعها كظهير استراتيجي لغزة. إذ سارع الرئيس عباس لإرسال برقية تهنئة بفوز الرئيس عبد الفتاح السيسي في الانتخابات الرئاسية المصرية، التي جرت نهاية مايو الماضي، أرفدها بزيارة رسمية إلى مصر لحضور مراسم التنصيب، تأكيداً على الدور المصري المساند لفلسطين والأمة العربية، وتطلعاً لاستمراره في مفاصل إنجاز المصالحة، بحكم أنها الراعية الأساس لها، ودعم الحكومة الفلسطينية التي رحبت مصر بها فور تشكيلها، وممارسة الضغط تجاه وقف العدوان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، واستعادة دورها الحيويّ في ملف المفاوضات، التي كانت سلطات الاحتلال قد أوقفتها في أعقاب اتفاق المصالحة، وغداة رفضها إطلاق سراح الدفعة الأخيرة من الأسرى "القدامى"، والذي كان مقرراً في 29 مارس الماضي.

أما "حماس" فقد التزمت جانب التريث قليلاً حيال نتائج الانتخابات المصرية، قبل أن تصدر تصريحات "تتطلع فيها إلى انفتاح السيسي على "حماس". فالحركة التي لم تخرج بعد من تبعات سياسة "قلب" محاور التحالف التي اعتمدتها غداة الأزمة السورية، فإنها تسعى إلى محاولة "ترميم" العلاقة مع مصر، وجبّ ما لحق بها في الأشهر الأخيرة من "تضييق وهجوم إعلامي حاد"، بحسبها، فيما تضع في حساب تقديرات مرحلة الرئيس السيسي المسائل المتعلقة بفتح معبر رفح وإعادة إعمار غزة وتحسين ظروفه المعيشية.

تحديات خارجية

يقف الاحتلال الإسرائيلي معوقاً أساسياً أمام مضيّ الحكومة الفلسطينية في عملها وإنجاز خطوات المصالحة نحو تحقيق الوحدة الوطنية، باعتباره المستفيد الأول من حالة الانقسام الفلسطيني لصالح المضيّ في نمطّ عدوانه الثابت في الأراضي المحتلة، إزاء ما يعتقده فعلاً بعيداً عن ضغط المساءلة في ظل الانحياز الأمريكي وضعف الدعم العربي الإسلامي للقضية الفلسطينية.

ومنذ الإعلان رسمياً عن الحكومة، حتى سارعت سلطات الاحتلال لإعلان "حرب مفتوحة" ضد الشعب الفلسطيني، من خلال تصعيد عمليات الاعتقال والتنكيل والاستيطان والتهويد وهدم المنازل ومصادرة الأراضي، تزامناً مع شنّ حملة دبلوماسية مضادّة لتقويض التأييد الدولي للحكومة الفلسطينية وعرقلة انجاز اتفاق المصالحة، وإقرار تفعيل قرار سابق يقضي بعدم التفاوض مع حكومة فلسطينية تعتمد على حركة "حماس"، والعمل ضد "إشراك تنظيمات إرهابية" في الانتخابات الفلسطينية، فضلا عن تخويل رئيس الوزراء فرض عقوبات إضافية على السلطة.

بينما استغلت حادثة "اختفاء" المستوطنين الثلاثة، في منطقة الخليل بالضفة الغربية المحتلة، في تنفيذ مخطط ضربّ البنية التحتية "لحماس" والقضاء على المقاومة، والتهديد بعملية عسكرية واسعة ضد قطاع غزة.

وخلافاً لمسّوغ التخيير الإسرائيلي للقيادة الفلسطينية بين المصالحة والمفاوضات، بادّعاء انتفاء استقامة حال التفاوض مع حركة (حماس) تطالب بالقضاء على الكيان المحتل وتنفيذ عمليات إرهابية ضده، فإن ثمة ما يستترّ وراء مصدر القلق الإسرائيلي من وحدة وطنية من شأنها كسرّ الأمر الواقع الحالي الذي يحرص الاحتلال على استمراريته في الأراضي المحتلة، وعرقلة مشروعه في الضفة الغربية التي يريدها مقسمة الأوصال بين "دولة" زهاء 631 ألف مستوطن، وحكم ذاتي فلسطيني محدود ضمن منطقتي "أ" (تقع تحت السيطرة الفلسطينية الكاملة) و"ب" (سيطرة مدنية فلسطينية وأمنية إسرائيلية)، وفق تصنيف "أوسلو"، وذلك غداة قضمّ المساحة المخصصة لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود العام 1967 وإخراج القدس من مطلب التقسيم.

وإذا كانت ردود الفعل العربية والدولية المرحبة بالحكومة الفلسطينية مسألة مهمة وايجابية، إلا أن الموقف الأمريكي الإيجابي من "العمل معها ومواصلة تمويلها"، والتعاطي الأوروبي "الودّي" معها وفق الوفاء بالتزامات اللجنة الدولية الرباعية، قد لا يطول كثيراً، وذلك عند ربط مصيرها بمسار التفاوض، مما قد يشكل أي صدّ فلسطيني لجهود أمريكية قادمة لاستئناف المفاوضات، مقدمة "لاجترارّ" الضغط المالي والسياسي عليها.

إن السعيّ الفلسطيني لإنجاز المصالحة وإنجاح عمل حكومة الوفاق الوطني، يشكل عنصراً رئيسياً في المكون السياسي الفلسطيني، وأساً حيوياً في مرحلة التحرر الوطني من نيّر الاحتلال، إلا أن ذلك يتطلب إرادة سياسية فلسطينية جادة، بدعم عربي إسلامي، لتحقيق ما يفوّت على الاحتلال فرصة تعميق الخلل القائم في الأراضي المحتلة لمصلحته.

طباعة

تعريف الكاتب

د. نادية سعد الدين

د. نادية سعد الدين

صحفية وباحثة من الأردن