ظلت العلاقة بين اليهود وإيران محكومة بمجموعة من التشابكات، من بينها الرمزية الدينية، والتاريخ السياسى، والواقع الاجتماعى. وكورش الكبير، الذى استحضره رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو فى خطابه خلال حرب الـ ١٢ يوما، واستدعاه كرمز تاريخى بهدف دغدغة الذاكرة اليهودية ومخاطبة الشعب الإيرانى لقلب نظام الحكم، له سياق تاريخى مختلف عن الرواية التوراتية كما أن له بعدا سياسيا فى أذهان الإيرانيين حال استدعائه كرمز وطنى.
وفى هذا التحليل نحاول تفكيك هذه الرموز وفهم أبعادها السياسية والواقعية وعلاقة يهود إيران بالصراع الدائر والدائم بين إيران وإسرائيل.
فى التاريخ الفارسى يعد كورش الكبير ملك الحضارة الإيرانية القديمة الذى جسد العدالة والحرية والكرامة الإنسانية فى حكمه، كان ملكا على الفرس من نحو سنة 559 ق.م، ثم وحد الفرس والميديين، وأسقط الإمبراطورية الميدية، ثم استولى على مملكة ليديا، وأسقط الإمبراطورية البابلية سنة 539 ق.م، أسس بذلك أكبر إمبراطورية شهدها العالم فى ذلك الوقت، تمتد من آسيا الوسطى شرقا إلى البحر المتوسط غربا.
ويعد فتح بابل أحد أهم إنجازات كورش الكبير. وبحسب التاريخ الفارسى لم يدمر كورش بابل بعد دخولها، واحترم المعابد والأماكن الدينية، وكتب هيرودوت، واصفا دخول كورش إلى بابل: "دخل بابل وترك الناس أحرارا فى ممارسة شعائرهم الدينية. وعلى عكس غيره من الغزاة، لم يرد كورش إجبار الناس على اتباع دينه".
ويحتفظ المتحف البريطانى باسطوانة كورش (ميثاق قورش) وتعتبر أول بيان لحقوق الإنسان فى العالم، ودليل على روح التسامح والعدالة التى كانت سائدة فى تلك الحقبة، النص الأصلى على الأسطوانة الطينية، يتحدث بشكل رئيسى عن أربع نقاط: الاستيلاء على بابل دون عنف، إعادة الآلهة إلى معابدها، تحرير الشعوب المنفية، إعادة بناء المدن والمعابد.
ولم تذكر نصوص الاسطوانة المكتشفة فى بابل، اليهود ولا القدس ولا بناء الهيكل المزعوم، بل تحدثت عن حرية الشعوب والمعتقدات، لم يحرر كورش اليهود فقط بل حرر كل العبيد فى ذلك الوقت.
وفى العصر الحديث، أصبح كورش الكبير أحد أهم رموز الهوية الوطنية والثقافية لإيران، ويعرف بأنه رمز للاستقلال والوحدة والأخلاق بين الإيرانيين، ويستخدمه العديد من القوميين ومناصرى الهوية الإيرانية رمزا للاحتفال بالمآثر التاريخية والثقافية لإيران، وله ذكراه ومكانته المرموقة فى مختلف المجالات الثقافية والسياسية، وتقام بعض الاحتفالات الوطنية والدينية فى إيران باسم كورش احتفاء بإنجازاته.
ووقت الحرب بث التلفزيون الرسمى الإيرانى صورا لكورش الكبير إلى جانب جندى إيرانى معاصر، فى رسالة رمزية تؤكد استمرار فخر الإيرانيين بإرث كورش باعتباره مؤسس الإمبراطورية الأخمينية وأحد رموز تاريخهم القومى.
أما الرمزية التوراتية فتضع كورش فى مكانة مسيح الرب، كما جاء فى سفر إشعياء، ويزعم بأنه أصدر مرسوما بالسماح لليهود بالعودة إلى أورشليم وبناء الهيكل بتوصيه من الرب.
وكورش لم يكن يهوديا ربما كان يتبع المازدية، ولم يكن زرادشتيا وفق طريقة دفنه أو ربما اتبع ديانة فارسية قديمة، اللافت للنظر أيضا عدم وجود نصوص فارسية تضع كورش فى منزلة مسيح الرب، أما ما يؤكده يهود إيران بأنهم عاشوا فى بلاد فارس فى عهد كورش بعد سقوط بابل.
كما يعد يهود إيران إحدى أقدم الجاليات اليهودية فى العالم، يعود وجودها للعصر الأخمينى بعدما استقروا فى فارس بعد سقوط بابل على يد كورش الكبير، وتعايشوا مع المتغيرات السياسية التى شهدتها بلاد فارس على مدى قرون.
وتشير التقديرات الرسمية فى إيران إلى أن عدد اليهود فى عهد الشاه عام 1956 لم يصل إلى 65 ألف يهودى، وقبل ثورة 1979 وصل عددهم إلى 60 ألف يهودى.
انخفض عدد السكان اليهود فى إيران مع الهجرة الأولى بالتزامن مع قيام دولة الاحتلال الإسرائيلى 1948، والهجرة الثانية مع انتصار ثورة الخمينى عام 1979.
فى عام 2017 أجرى همایون سامه یح نجف آبادی ممثل الطائفة اليهودية فى مجلس الشورى الإسلامى الإيرانى، لقاء مع موقع انتخاب، وأكد أن عدد اليهود فى إيران يبلغ 15 ألف يهودى يعيشون فى مختلف أنحاء إيران فى العاصمة طهران، وشيراز، وأصفهان، وكرمانشاه، وبزد وبعض المدن الأخرى، مثل كرمان، وبروجرد، وأوروميه.
وعلى موقعه الرسمى أدان رئيس الجالية اليهودية فى طهران والبرلمانى الحالى الهجوم الإسرائيلى والأمريكى على إيران، لما لحق بأضرار للجالية اليهودية ومنها تضرر عدد كبير من منازل ومقرات اليهود جراء ما وصفه بالقصف الصاروخى الشامل.
وتتفق رؤية يهود إيران مع الجمهورية الإسلامية تجاه القضية الفلسطينية بأن احتلال القدس ليس من تعاليم الديانة اليهودية، وهو ما أكده الحاخام يونس حمامى لالزار، الزعيم الدينى لليهود الإيرانيين فى لقاء مطول مع الوكالة الرسمية الإيرانية "إيرنا" فى نسختها الفارسية عام 2023، وأصدر بيان إدانة ضد نتنياهو والهجمات الإسرائيلية على إيران التى كانت ملاذا لليهود على مر التاريخ بعد حرب ال 12 يوما.
ويوجد ليهود إيران مقعد فى مجلس الشورى الإسلامى (البرلمان) وجمعية طهران اليهودية تدير نحو 25 كنيسا، مستشفى الدكتور سبير من أكبر المؤسسات الخيرية فى طهران، وهناك مدارس يهودية مع قيود تعليمية، ومقبرة فى طهران، ويمارس يهود إيران شعائرهم الدينية بحرية نسبية.
نتفهم مما سبق لماذا قدم نتنياهو نفسه كصديق مخلص للإيرانيين؟ ومحقق آمالهم وطموحاتهم بإسقاط النظام الحاكم فى إيران، وخاطب الشارع الإيرانى للتأكيد على أن الإسرائيليين يتمنون لهم الحرية كما حرر كورش اليهود فى السابق. قال نتنياهو: "الملك كورش حررنا نحن اليهود، وربما نحن الآن سنحرر الفرس، أتوجه إلى الشعب الفارسى المضطهد والمقموع، بينكم 80% يعارضون النظام، وكل ما نقوم به يزعزع حكم خامنئي".
ورغم مساعى نتنياهو استحضار نبوءات توراتية لصبغ حربه على إيران بأنها حرب مقدسة، لكن هناك اختلاف بين الرواية الفارسية والرواية التوراتية عن مؤسس الإمبراطورية الأخمينية الذى يعرف بأنه أول من كتب ميثاق حقوق الإنسان على مر التاريخ.
خطاب نتنياهو كان جزءا من استراتيجية سياسية ودعائية تهدف إلى ضرب النظام الإيرانى داخليا وإظهار تعاطف مع الشعب الإيرانى، لكنه ووجه بتحدٍ مزدوج على مستويين: الأول: قلة فعالية التأثير على الشعب الإيرانى، والآخر: رفض الجالية اليهودية الإيرانية أن تستغل كأداة سياسية فى يد نتنياهو.
ختاما: فقد أتى توظيف نتنياهو لكورش الكبير أحد الرموز الفارسية فى لعبة المصالح السياسية بنتائج عكسية بعد معايشة الإيرانيين للدمار الكبير الذى لحق ببلادهم، وكذلك نجاح المؤسسات الإيرانية فى استحضار صور وتماثيل الملوك الفرس على شاشات التلفاز وفى الميادين العامة، كل ما سبق ساهم فى التفاف شعبى حول السلطة مرجعيته القومية الفارسية وليس فقط المذهبية.