مقالات رأى

قراءة فى تعقيدات المشهد السوري بين الطائفية ومخاطر التفكك

طباعة

منذ اندلاع أحداث محاولة إسقاط نظام حكم بشار الأسد فى سوريا عام 2011، تحولت سوريا لمنطقة صراعات متعددة، تتداخل فيها الانتماءات الطائفية مع الحسابات السياسية والمصالح الإقليمية والدولية. وشهد شهر يوليو الجارى 2025، اشتباكات أخيرة فى محافظة السويداء بالجنوب السوري، نتيجة توترات متراكمة بين الطائفة الدرزية والعشائر البدوية، وأرجعت وزارة الداخلية السورية سبب المواجهات لعدد من الحوادث الجنائية، وبدأ التصعيد فى السويداء إثر اعتداء على سائق درزي على طريق دمشق–السويداء، وهو ما أثار موجة غضب فى أوساط الفصائل الدرزية المسلحة، وردًا على الحادثة، شنت مجموعات درزية هجومًا على حي "المقوس" ذي الأغلبية البدوية، لتحرير رهائن محتجزين، وسط تصاعد متبادل في عمليات الاحتجاز وهو ما فجر الوضع الأمني بأكمله.

لقد كانت سوريا خلال الـسنوات العشر الماضية مسرحًا لواحدة من أعنف الحروب الأهلية فى التاريخ الحديث، وعلى الرغم من التراجع النسبي في وتيرة المعارك المفتوحة، إلا أن التوترات الطائفية لا تزال قنبلة موقوتة تهدد بإعادة إشعال الصراع، لا سيما مع تصاعد الانتهاكات الطائفية ضد بعض الطوائف، أبرزها الطائفة العلوية، وتزايد التوتر بين الدروز والمسيحيين من جهة، والفصائل المسلحة أو بعض مكونات السلطة من جهة أخرى. وفي ظل غياب مسار واضح للعدالة الانتقالية، وتفاقم خطاب التحريض الطائفي في الداخل والخارج، تزداد المخاوف من أن تدخل سوريا في دوامة جديدة من الصراع، قد تكون هذه المرة أكثر تعقيدًا وانقسامًا، خاصة مع تداخل البعد الطائفي مع التجاذبات الجيوسياسية الإقليمية والدولية.

ومنذ بدء محاولات إسقاط نظام بشار الأسد عام 2011، استخدمت الهويات الطائفية كأداة تعبئة وتحشيد من قبل مختلف الأطراف، ورغم أن النظام السوري بقيادة بشار الأسد ينتمي للطائفة العلوية، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت انتهاكات بحق العلويين أنفسهم، خاصة أولئك الذين أبدوا تململًا من سياسات النظام أو حاولوا النأي بأنفسهم عن آلة القمع، كما شهدت بعض مناطق الساحل السوري، ذات الغالبية العلوية، تهميشًا اقتصاديًا وتضييقا أمنيًا، ما فتح باب النقاش حول ما إذا كانت السلطة تحاول إخماد أي صوت علوي مستقل، في محاولة لضمان احتكار التمثيل السياسي للطائفة.

أما الطائفة الدرزية، التي حافظت نسبيًا على حالة من الحياد خلال سنوات الحرب، فقد أصبحت هدفًا لضغوط متعددة، سواء من النظام أو من الميليشيات المرتبطة ذات الارتباطات الإقليمية، وفي محافظة السويداء، تصاعدت الاحتجاجات التي سرعان ما تحولت إلى حراك سياسي واسع يطالب بالكرامة والإصلاح، ما دفع الأجهزة الأمنية إلى التعامل معه بمنطق القمع بدل الحوار، وسط تعالي الأصوات داخل الدروز للتحالف مع قوى إقليمية تضمن لهم الحماية أو الحكم الذاتي، وهو تطور بالغ الخطورة.

أما المسيحيون، ورغم استغلال النظام لخطاب حماية الأقليات، إلا أنهم كانوا ضحايا لانعدام الأمن والتخبط في السياسات، وشهدت مناطق كثيرة نزيفًا ديمغرافيًا هائلًا، بسبب الهجرة وانعدام الأمل، وعلى مدار السنوات، أظهرت السلطة عجزًا عن توفير أي ضمانات حقيقية لاستمرار الوجود المسيحي في سوريا، مكتفية باستخدامهم كورقة في الدعاية الدولية.

ويعد أحد أبرز عوامل هشاشة الاستقرار الحالي هو غياب أي مسار جدي للعدالة الانتقالية، فالمجتمع السوري، الذي أنهكته الحرب والانقسام، لا يزال عاجزًا عن محاسبة المتورطين في الانتهاكات، سواء من النظام أو من المعارضة المسلحة أو حتى من الميليشيات الأجنبية، وهو ما يعزز مناخ الإفلات من العقاب، ويبقي الجراح مفتوحة على احتمالات الانتقام والثأر.

ففي الوقت الذي تطالب فيه منظمات حقوق الإنسان بمحاكمات عادلة للمسئولين عن الجرائم ضد المدنيين، نجد أن القوى المتحكمة في الأرض لا تزال تحمي رموز الانتهاك، وترفض تقديم أي تنازلات تتعلق بالمحاسبة، كما أن المحاصصة الطائفية في بعض مناطق النفوذ، وخاصة في الشمال الشرقي -الذي تهيمن عليه قوى كردية مدعومة من واشنطن-، تكرس الانقسام بدل المصالحة، وتعزز منطق التمثيل الطائفي على حساب الدولة الوطنية الجامعة.

رغم تلك العناصر التى تجعل صورة تبدو قاتمة، إلا أن هناك عناصر أخرى قد تحد من خطر الانزلاق،  فالشارع السوري، يبدو أكثر ميلاً للاستقرار، مهما كان شكله، من الانخراط في صراعات جديدة، كما أن هناك ضغوطًا دولية - ولو محدودة - على الأطراف المتنازعة لعدم تفجير الوضع من جديد، خاصة في ظل انشغال القوى الكبرى بملفات أكثر أولوية مثل، الحرب في أوكرانيا، والتوتر في مضيق تايوان، والاشتعال في منطقة البحر الأحمر.

على الصعيد المحلي، تحاول بعض القوى الانتقالية أو المجتمعية تهدئة المخاوف، عبر خطاب وطني جامع أو مبادرات مصالحة محدودة، ورغم هشاشتها، إلا أن هذه الجهود تؤشر إلى وجود إدراك بأن الحرب لا يمكن أن تكون الحل، غير أن هذا الإدراك، إذا لم يترجم إلى بنية سياسية تضمن العدالة، فإنه يبقى مجرد وهم مؤقت.

الحل الهيكلي لهذه المعضلة الطائفية لا يمكن أن يكون إلا عبر إعادة صياغة النظام السياسي، بحيث يضمن مشاركة كل الطوائف، دون أن يشعر أي مكون بأنه مضطهد أو مهيمن عليه، وهنا، يطرح يقدم البعض الخيار الفيدرالي كأحد المقترحات المطروحة، إذ يمكن لنظام فيدرالي حقيقي، لا مبني على المحاصصة الطائفية بل على أساس جغرافي ومدني، أن يضمن تمثيل الأقليات وحماية خصوصياتهم، وفي الوقت ذاته، يحافظ على وحدة سوريا ككيان سياسي. لكن دون إطار عدالة انتقالية واضح، فإن الفيدرالية قد تتحول إلى مقدمة للتقسيم، لا أداة للحل، فالمخاوف من أن تستغل بعض القوى الإقليمية، أي نظام لا مركزي لتعزيز نفوذها في مناطق محددة، تبقى قائمة، كما أن الفوضى الأمنية في بعض المناطق، واستمرار وجود ميليشيات متعددة الولاءات، يشكل تهديدًا لأية ترتيبات سياسية مستقبلية.

يبدو جوهر الأزمة فى سوريا هو غياب الإدارة الجامعة، فالمشهد بات موزعًا بين مناطق نفوذ تشرف عليها قوى متباينة الأهداف والرؤى، بعضها يسيطر على مناطق واسعة في الوسط والساحل والجنوب، بينما تحتفظ القوات الأمريكية والقوات الكردية بشريط حدودي في الشمال الشرقي، فيما تظل إدلب تحت هيمنة غير معلنة تدار عبر فصائل موالية، هذا التوزيع الجغرافي الهش يعكس واقعًا سياسيًا أكثر هشاشة، إذ لا يملك أي طرف القدرة أو الرغبة الحقيقية في تقديم تنازلات تؤدي إلى حل شامل. وما يزيد من تعقيد المشهد أن بعض القوى الإقليمية باتت توظف الملف الطائفي السوري ضمن أجندات صراعاتها الكبرى.

هذا التداخل بين العوامل الطائفية والجيوسياسية، جعل من الصعب تفكيك عناصر الأزمة السورية بمعزل عن السياق الإقليمي، فكل مبادرة داخلية سرعان ما تصطدم بحسابات خارجية، وكل محاولة إصلاح تغرق في بحر من التشكيك و"الفيتوهات" المتبادلة، وهو ما يطرح تساؤلًا وجوديًا حول إمكانية استعادة سوريا كدولة موحدة ذات سيادة، في ظل هذا الكم من التوازنات الهشة والتحالفات المتغيرة.

من جهة أخرى، فإن التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي فرضتها الحرب، ساهمت في تعزيز الانقسامات، فالمناطق الغنية بالموارد، كحقول النفط والغاز شمال شرق البلاد، باتت تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، المدعومة من الولايات المتحدة، وهو ما أدى إلى نشوء نوع من الفائض المالي والإداري في تلك المناطق، مقارنة بمناطق أخرى تعاني الفقر والتهميش، خاصة في الجنوب والساحل، هذا التفاوت يعمق الشعور بالنقص لدى سكان المناطق الفقيرة، ويعزز مطالبهم بالحكم الذاتي أو بالانفصال، باعتباره مخرجًا من دوامة التهميش.

ولم تسلم المؤسسات الدينية من التسييس والاستقطاب، حيث تم استخدام دور العبادة والمنابر الإعلامية للتحريض أو التبرير، بحسب الولاء السياسي أو الطائفي، ما أفقد الخطاب الديني في سوريا الكثير من مصداقيته، بل وحوله في بعض الأحيان إلى أداة للاستقطاب والكراهية، بدلًا من أن يكون جسرًا للتقارب والتسامح، وفي غياب مؤسسات مدنية قوية ومجتمع مدني فاعل، تبقى المبادرات المجتمعية مجرد محاولات محدودة الأثر.

تتطلب استعادة سوريا - قبل أي شيء- مصالحة وطنية حقيقية، تبدأ بالاعتراف بجرائم الماضي، وتقديم ضمانات بعدم تكرارها، وخلق فضاء سياسي يسمح بمشاركة كل المكونات دون إقصاء، ولا يمكن لسوريا أن تنهض إذا ظلت أسيرة للهويات الضيقة والانتماءات غير الوطنية، كما لا يمكن لسلطة سياسية أن تدعي تمثيل الجميع وهى تمارس الإقصاء والتهميش، على أساس طائفي أو مناطقي أو سياسي.

وفى ضوء المعطيات الحالية، فإن سوريا تقف عند مفترق طرق خطير، تتنازعها ثلاثة سيناريوهات رئيسية، يحمل كل منها تداعيات مختلفة على مستقبل الدولة ووحدة نسيجها الاجتماعي، فالسيناريو الأول هو الانفجار الطائفي الشامل، فإذا استمر تجاهل الأسباب العميقة للتوترات الطائفية، واستخدمت أدوات لقمعه بدلا عن المعالجة السياسية والاجتماعية، فقد تنزلق سوريا إلى موجة جديدة من الحرب الأهلية، لكن هذه المرة ستكون أكثر خطورة، لأنها قد تأخذ طابعًا مناطقيًا–طائفيًا مميتًا، خاصة في ظل انتشار السلاح، وتضخم دور الميليشيات، وشعور الطوائف بأن بقاءها مرهون بالحماية الذاتية، هذا السيناريو قد يدفع نحو تفكك فعلي للدولة المركزية، وتحول سوريا إلى كيانات أمر واقع متنازعة.

أما السيناريو الثاني فهو الأرجح على المدى القصير، ويتمثل في استمرار الوضع على ما هو عليه من  صراعات منخفضة الشدة، واشتباكات موضعية، وبقاء خطوط النفوذ الخارجية كما هى، وتهميش مستمر للمبادرات السياسية، في هذا السيناريو، لن تشهد سوريا انفجارًا واسعًا، لكنها أيضًا لن تتعافى، وستبقى رهينة المساعدات الإنسانية والتفاهمات الإقليمية المؤقتة، دون أفق واضح لحل دائم.

والسيناريو الثالث في حال حدث توافق دولي–إقليمي على ضرورة تسوية شاملة، سواء بدافع الضرورات الجيوسياسية أو المخاوف من تمدد الفوضى، فقد تلوح إمكانية مسار سياسي جديد يدمج بين الفيدرالية المرنة وآلية عدالة انتقالية تدريجية، تتيح عودة تدريجية للثقة بين مكونات المجتمع السوري، هذا المسار، رغم صعوبته، يحتاج إلى قيادة وطنية ذات شرعية جامعة، تقطع مع خطابات الإقصاء والتعبئة الطائفية، وتعتمد على إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس تشاركية لا مركزية.

تحتاج سوريا للخروج من النفق الضيق إلى إطلاق عملية حقيقية للعدالة الانتقالية، تشمل كل الفاعلين وليس النظام وحده، وتحييد الهويات الطائفية من السياسة، واعتماد صيغة مدنية للمواطنة، وتفكيك الميليشيات الطائفية ودمج السلاح ضمن مؤسسات وطنية، ووضع دستور جديد يضمن التعددية والتمثيل المتوازن دون محاصصة.

طباعة

    تعريف الكاتب

    إسراء شوقي

    إسراء شوقي

    باحثة في الشأن الإقليمي