كشفت وسائل إعلام إيرانية الأحد 13 يوليو الجارى، عن محاولة اغتيال فاشلة استهدفت الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان وكبار مسئولي الدولة خلال الهجوم الإسرائيلي الأخير على طهران، مؤكدة إصابة بزشكيان بجروح طفيفة في ساقه إثر القصف الذي طال موقعًا حساسًا غرب العاصمة. إن هذه العملية لم تقتصر على تهديد حياة الرئيس الجديد فحسب، بل كشفت عن اختراق أمني واستخباراتي بالغ العمق، يستدعي إعادة النظر في توازنات الداخل الإيراني، وربما يفرض إعادة صياغة العلاقة بين التيارات السياسية والأمنية داخل البلاد. فهل دخلت الجمهورية الإسلامية مرحلة "تفريغ ناعم" من الداخل؟ وهل نحن أمام نمط جديد من حروب الجيل الخامس يتسلل عبر أجهزة الدولة نفسها؟
أولاً: ما الذي جرى؟
طبقًا للمصادر الإيرانية وشهادات صحفية دولية، فقد استُخدم في الهجوم ستة صواريخ دقيقة، استهدفت الطابق السفلي لمبنى حكومي في غرب طهران، أثناء انعقاد جلسة خاصة للمجلس الأعلى للأمن القومي، حضرها الرئيس بزشكيان، وقادة من الحرس الثوري، ومسؤولون في وزارة الأمن والمخابرات. تسبب الهجوم في إصابة الرئيس بجروح طفيفة، بينما أُصيب آخرون من مرافقيه بإصابات متفاوتة.ونقلت وكالة “فارس” عن مصادر مطلعة أن إسرائيل استهدفت اجتماعًا سريًا رفيع المستوى للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، عُقد صباح 16 يونيو الماضي، بحضور رؤساء السلطات الثلاث، بينهم الرئيس بزشكيان، ورئيس البرلمان محمد باقر قاليباف، ورئيس السلطة القضائية غلام حسين محسني إيجي، بالإضافة إلى عدد من القيادات الأمنية البارزة.
وبحسب التقرير، نُفذ الهجوم باستخدام ست قذائف أو صواريخ موجهة بدقة نحو مداخل ومخارج المبنى الحكومي، في محاولة لعزل الموقع وقطع التهوية، بطريقة وُصفت بأنها مشابهة لمحاولة اغتيال سابقة استهدفت حسن نصر الله، الأمين العام الأسبق لحزب الله اللبناني. وانقطع التيار الكهربائي في أعقاب الانفجارات، إلا أن المجتمعين تمكنوا من الخروج عبر فتحة طوارئ مُعدة مسبقًا. وأسفر الهجوم عن إصابات طفيفة في صفوف عدد من المسؤولين، من بينهم الرئيس الإيراني الذي أُصيب أثناء عملية الإجلاء. الوكالة أشارت إلى أن التحقيقات مستمرة لكشف ما إذا كانت هناك اختراقات أمنية أو استخباراتية سهلت تنفيذ الهجوم بهذه الدقة.
المثير للقلق في هذه العملية هو أنها نُفذت داخل طهران، في منشأة يفترض أنها مؤمّنة بأعلى درجات الحماية، ما يشير إلى أن الجهة المنفذة – على الأرجح جهاز الموساد الإسرائيلي – كانت تمتلك معلومات بالغة الدقة حول توقيت الاجتماع، وطبيعة التحصين، والآلية المثلى لتنفيذ الضربة دون اعتراض فوري. فهذه العملية تشبه إلى حد كبير، من حيث التخطيط والتنفيذ، الأساليب التي استُخدمت في اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده عام 2020، والتي تبين لاحقًا أنها تمت عبر مجموعة من العملاء المحليين، مزوّدين بتقنيات عالية الدقة.
ثانيًا: من أين أتى الاختراق؟ بين العملاء والمعلوماتية
سجل الاغتيالات والاختراقات الأمنية في إيران خلال العقد الماضي بات مثيرًا للقلق. فبعد اغتيال فخري زاده، ثم تفجيرات منشآت نطنز النووية، واغتيال قادة ميدانيين في سوريا والعراق، كان من المتوقع أن تطور إيران من بنيتها الاستخباراتية لحماية الداخل. لكن ما حدث مع بزشكيان يشير إلى ما هو أخطر: أن شبكات الاختراق لم تعد تقتصر على الميدان النووي أو العسكري، بل امتدت إلى المستويات العليا من صناعة القرار السياسي.
ثمة ثلاث فرضيات رئيسية حول طبيعة هذا الاختراق:
1. وجود خلايا نائمة داخل مؤسسات الدولة، سواء من المعارضة أو مدفوعة بعوامل عرقية وطائفية.
2. اعتماد الموساد على شبكة تجنيد داخل الحرس الثوري والأجهزة المدنية، مع تغطية تقنية عبر الطائرات المسيرة أو الأقمار الصناعية.
3. اختراق الأنظمة الرقمية والبروتوكولات الأمنية، عبر برمجيات تجسسية أو تسريبات بشرية من داخل جهاز الدولة.
بصرف النظر عن السيناريو الأرجح، فإن النتيجة واحدة: الجمهورية الإسلامية باتت تواجه معركة مفتوحة على جبهتها الداخلية.
ثالثًا: السياق الإقليمي... تصعيد محسوب وضربات دقيقة
الهجوم على بزشكيان لم يكن معزولًا عن التصعيد الإسرائيلي الإيراني الذي وقع في يونيو 2025. فقد شنّت إسرائيل، وفق تصريحاتها، عملية "ردع دقيقة " استهدفت مواقع داخل إيران، في أعقاب اتهام طهران بدعم عمليات استهداف منشآت إسرائيلية عبر وكلاءها في المنطقة. لكن الجديد في هذا التصعيد هو أنه استهدف مركز القرار السياسي، لا مجرد منشآت أو شخصيات عسكرية. وهو ما يندرج في إطار ما يُعرف بـ"الاغتيال السياسي الموجَّه"، أي محاولة التأثير على توازنات النظام عبر ضرب رأسه الإصلاحي. هذا التوجه من شأنه أن يُحرج النظام أمام الداخل، ويمنح الذريعة للأجنحة المتشددة لتعزيز سلطتها، بذريعة أن "الإصلاحيين" لا يستطيعون حماية الدولة.
رابعًا: أثر الهجوم على الداخل الإيراني
-1تصاعد الحذر الأمني: من المتوقع أن يواجه التيار الإصلاحي – الذي يمثله بزشكيان – ضغوطًا متزايدة من الحرس الثوري والتيارات المحافظة، بحجة أن الانفتاح السياسي وتراخي الإجراءات هو من سمح بالاختراق
-2إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية: مصادر مطلعة تحدثت عن نية مكتب المرشد الأعلى البدء في عملية تطهير داخل وزارة الأمن وجهاز الاستخبارات، وربما إعادة دمج بعض الوحدات داخل الحرس الثوري.
-3 تأثير على شرعية النظام: محاولة اغتيال رئيس منتخب، في وضح النهار، تُضعف الثقة الشعبية في قدرة النظام على حماية رموزه، وقد تُعزز مناخات الاحتقان الاجتماعي، خصوصًا في المدن الكبرى.
خامسًا: السيناريوهات المستقبلية
السيناريو الأول: القبضة الحديدية
يتجه النظام لتشديد القبضة الأمنية، واعتقال مشتبه بهم من التيارات الإصلاحية والمعارضة، مع العودة إلى نمط الحُكم الأمني الكامل كما كان بعد .2009
السيناريو الثاني: التهدئة وإعادة التموضع
ربما يدفع الحادث القيادة الإيرانية إلى مراجعة الذات، وإعادة بناء منظومة الأمن الداخلي، والانفتاح على بعض الإصلاحات المؤسسية لاحتواء الغضب.
السيناريو الثالث: تصدّع داخلي تدريجي
إذا تكررت مثل هذه العمليات، وفشل النظام في ضبطها، فقد نشهد موجات احتجاج أو انقسام داخل الأجهزة، ما قد يُفضي إلى اهتزاز في بنية النظام، وربما إعادة إنتاجه من الداخل.
:ختامًا
حادثة اغتيال بزشكيان لا ينبغي أن تُقرأ كحدث أمني منفصل، بل كمؤشر على أزمة عميقة داخل الدولة الإيرانية. إنها لحظة كاشفة لحقيقة أن الجمهورية الإسلامية، رغم قدراتها، تواجه تحديًا من نوع مختلف: تحدي الدولة من الداخل، من داخل المؤسسات لا على حدودها. ويبقى السؤال معلقًا ،، هل ينجح النظام في تجاوز هذه الأزمة بهدوء ؟ ، أم أننا نشهد بداية مرحلة جديدة من التصدع الذاتي في إيران؟
وفي كل الأحوال، على دول المنطقة أن تُحسن قراءة التحولات الإيرانية، وتوازن بين الضرورات الأمنية وحسابات المصالح، دون أن تنخرط في لعبة المحاور التي لم تجلب للمنطقة سوى مزيد من الاشتعال.