يشهد العالم اليوم تحولات عميقة في طبيعة الصراعات الدولية مع تزايد اندماج التقنيات المتقدمة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي (AI) في الاستراتيجيات العسكرية. لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مساعدة، بل أصبح لاعبًا أساسيًا يُعيد تشكيل ديناميكيات القوة، لا سيما في أكثر المجالات حساسية وهي البرامج النووية والحروب المحتملة.
العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والقدرة التشغيلية للمفاعلات النووية تتسم بالتشابك والتداخل، بحيث يصعب تحديد من يعتمد علي الآخر بشكل واضح نظرًا لطبيعة العلاقة التبادلية بينهما، حيث يقوم المفاعل بالتشغيل والتأثير على الذكاء الاصطناعي، ويقوم الذكاء الاصطناعي بالتأثير على جوانب حيوية، مثل تخصيب اليورانيوم، بالإضافة إلى دوره في أنظمة القيادة والتحكم، وكذلك في تعزيز قدرات الاستطلاع والدفاع الصاروخي.
يظهر التداخل المتزايد بين الذكاء الاصطناعي والصراعات النووية، كما يتجلى في الحالة الإسرائيلية - الإيرانية، كيف يمكن للتقنيات الذكية أن تعزز القدرات الهجومية والدفاعية في الفضاء السيبراني، مما قد يؤدي إلى تصعيد النزاعات، وتعقيد مسألة تحديد المسئوليات، وتوليد عواقب غير متوقعة. فهم هذه الجوانب المعقدة ضروري لتجاوز مخاوف الانتشار النووي، وإدراك المخاطر الجديدة الناتجة عن دمج التكنولوجيا المتقدمة بالصراعات الخطيرة.إلى جانب تعزيز الجهود الرامية إلى وضع أطر تنظيمية دولية تضمن الاستخدام الآمن والمسئول لهذه التكنولوجيا.
أولًا- العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والمفاعل النووي علاقة متبادلة:
تتطلب مراكز البيانات المستخدمة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي كميات كبرى من الطاقة الكهربائية، ومع تزايد ضغط هذه النماذج على الطاقة الكهربائية المنتجة من الوقود الأحفوري، اضطرت الشركات العالمية إلى البحث عن بدائل لاستهلاك الطاقة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، فعلى سبيل المثال نموذج (GPT_3) الذي يحتوي على 175 مليار معلومة يستخدم 1287 ميجا واط في الساعة الواحدة، وهذا يعادل نحو 100 ضعف متوسط الطاقة التي تستخدمها أسرة أمريكية في عام كامل، وغير ذلك لا يمكن الاعتماد على الطاقة المتجددة لأن الشمس غير متوفرة على مدار اليوم، كما تتأثر الرياح بالتقلبات الجوية لذلك يصعب تخزين كمية كبيرة من الطاقة الكهربائية اللازمة لتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي، لذلك يتم استخدام الطاقة النووية لأنها تستطيع توليد كمية ضخمة من الطاقة الكهربائية في وقت اقصر نسبيا، مما يجعلها مثالية لتلبية احتياجات مراكز البيانات الضخمة. لذلك قامت العديد من الشركات العالمية، مثل جوجل وميكروسوفت وأمازون وميتا بالاعتماد على المفاعلات النووية الصغيرة لإنتاج الطاقة الكهربائية لتلبية احتياجات مراكز البيانات الخاصة بتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.
كما يساعد الذكاء الاصطناعي المفاعل النووي من خلال تقديم مجموعة من الأدوات والقدرات التي يمكن أن تحسن بشكل كبير من أداء المفاعلات النووية. يعمل الذكاء الاصطناعي على زيادة السلامة والأمان وذلك عن طريق المراقبة المستمرة لكميات هائلة من البيانات، وتحديد أي انحرافات طفيفة قد لا يلاحظها البشر، وأيضا يمكنه اكتشاف أي ارتفاع بسيط في درجات الحرارة في أحد أجزاء المفاعل أو أي اهتزاز غير عادي في المضخة وبالتالي يقوم بتنبيه المشغلين لإجراء الصيانة الفورية للمفاعل، كما يمكن أن يساعده في تحسين كفاءة التشغيل مما يؤدي إلى تحسين استخراج الطاقة الكهربائية وتحسين جداول الصيانة لتقليل فترات التوقف عن العمل المكلفة. يساعد الذكاء الاصطناعي في دعم اتخاذ القرار من خلال مساعدة الوكالة الدولية للطاقة الذرية في مراقبة المفاعلات النووية حول العالم والتحقق من التزام الدول بالمعاهدات، عن طريق البيانات المدخلة عن كل مفاعل مما يؤدي إلى الكشف عن أي أنشطة غير معلنة.
لذا، تقوم العلاقة التبادلية أساسًا على اعتبار الذكاء الاصطناعي أداة داعمة تسهم في تعزيز أداء المفاعل النووي ورفع مستوى سلامته. أما المفاعل النووي فيوفر الساحة المعقدة والتحديات والبيانات التي تدفع عجلة تطوير الذكاء الاصطناعي.
ثانيًا- استخدام الذكاء الاصطناعي في تخصيب اليورانيوم:
يهدف تخصيب اليورانيوم إلى زيادة نسبة النظير القابل للانشطار، اليورانيوم-235، مقارنة باليورانيوم-238 الأكثر وفرة. وهذه العملية معقدة للغاية وتستخدم فيها تقنيات مختلفة، مثل الطرد المركزي بالغاز. لذلك يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب دورا كبيرا في تحسين كفاءة عمليات التخصيب وخاصة أجهزة الطرد المركزي التي يستخدمها الذكاء الاصطناعي (مثل الشبكات العصبية) لربط كميات هائلة من البيانات التشغيلية من أجهزة الطرد كدرجة حرارة المولد والضغط وسرعة الدوران، وتدفق الغاز، من خلال تحليل الكميات الكبيرة من المعلومات المترابطة بين المفاعلات النووية، ويمكن للذكاء الاصطناعي أيضا محاكاة المفاعل النووي من خلال تحسين وتصميم أجهزة الطرد المركزي والتي تساعده في محاكاة سلوك غاز سادس فلوريد اليورانيوم (UF6) داخل الجهاز الطارد المركزي في ظروف مختلفة، مما يساعد المهندسين على تصميم أجهزة أكثر كفاءة وفعالية.ويمكن للذكاء الاصطناعي إدارة المواد النووية والنفايات من خلال تتبع مخزون إنتاج الوقود النووي. مما يزيد من إنتاج الطاقة وتقليل عمليات السرقة والعمليات غير المشروعة (التحول إلى سلاح نووي أو قنبلة نووية). بالإضافة إلى تتبع النفايات، وذلك من خلال تحليل تلك النفايات الناتجة عن عملية التخصيب لتحديد مكوناتها بدقة وفعالية أكبر.
مع ذلك فإن استخدام الذكاء الاصطناعي في العمليات الحساسة للغاية مثل تخصيب اليورانيوم سوف يتجاوز مجرد كفاءة التشغيل التي تمس الأمن العالمي والاستقرار، فتلك المميزات السابقة سوف تزيد من الانتشار النووي ويمكن للذكاء الاصطناعي تقليل العوائق أمام الدول لامتلاك أسلحة نووية أو حتي القنابل النووية. وذلك سوف يزيد من مخاطر الانتشار النووي عن طريق تحسين الإعدادات وتقليل الأخطاء أو إطالة عمر المعدات، يؤدي ذلك إلى إنتاج كميات أكبر من اليورانيوم عالى التخصيب (HEU) في وقت أقل. هذا يجعل مسار الحصول على المواد الانشطارية أسهل وأقل تكلفة. ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل المشكلات التقنية المعقدة أو يقلل من الحاجة إلى الخبرة البشرية الكبيرة في عمليات التخصيب الصعبة، مما يسهل على الدول الأقل خبرة تحقيق أهدافها النووية. يجب الأخذ في الاعتبار أن الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلي فقدان السيطرة البشرية عليه، كما يمكن للأخطاء في تصميم خوارزميات الذكاء الاصطناعي أو التحيزات في البيانات التي تدربت عليها أن تؤدي إلى قرارات خاطئة أو غير متوقعة في عمليات حرجة، قد لا يكتشفها المشغلون البشريون إلا بعد فوات الأوان، قد تكون بعض نماذج الذكاء الاصطناعي معقدة لدرجة يصعب على البشر فهم كيفية اتخاذها لقرارات معينة والتي تعود إلى مشكلة "الصندوق الأسود" في بيئة نووية -الصندوق الأسود في الذكاء الاصطناعي:يعني أن البشر يمكنهم رؤية المدخلات والمخرجات، ولكن من الصعب جدًا فهم المنطق الداخلي الدقيق الذي تستخدمه الخوارزمية لاتخاذ قراراتها- التي تقلل من قدرة المشغلين على التدخل أو تصحيح الأخطاء إذا شعروا بأن النظام يسير في اتجاه خاطئ. علي الرغم من أن الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يساعد في تصنيع السلاح النووي، إلا أنه يمكنه تحسين أنظمة توجيه الصواريخ الباليستية القادرة على حمل رءوس نووية. وهذا يشمل أنظمة الملاحة، وتصحيح المسار، والقدرة على التغلب على الدفاعات الجوية للعدو. ويمكنه تصميم مسارات طيران معقدة للصواريخ لجعلها أقل قابلية للاعتراض، أو تطوير قدرات المناورة التي تزيد من فرص وصولها إلى الهدف.
ثالثًا- الوضع الراهن والمخاوف الدولية من الحرب القائمة بين إسرائيل وإيران:
تمثل الحرب بين إسرائيل وإيران التي تدور -في ظاهرها- حول امتلاك إيران للبرنامج النووي، أحد أخطر التوترات الجيوسياسية في العالم. مع التطور السريع للذكاء الاصطناعي، أصبحت هذه التقنية عاملًا جديدًا ومهمًا في هذا الصراع، حيث تُستخدم من كلا الجانبين لتعزيز القدرات الاستخباراتية والعسكرية، مما يزيد من تعقيد المشهد الأمني والمخاطر المحتملة.
تستخدم إسرائيل الذكاء الاصطناعي كأداة حيوية في استراتيجياتها لعرقلة البرامج النووية الإيرانية، حيث تعتمد وكالات الاستخبارات الإسرائيلية على الذكاء الاصطناعي لتحليل كميات هائلة من البيانات والمعلومات الاستخباراتية المجمعة من مصادر مختلفة من الأقمار الصناعية واعتراض الاتصالات وتقارير العمليات الاستخباراتية، لتحديد مواقع المنشآت النووية الإيرانية، والمنشآت العسكرية، وكبار المسئولين والعلماء المرتبطين بالبرنامج النووي من خلال مساعدة الذكاء الاصطناعي في تمييز الأنماط المختلفة، وتخطيط وتنسيق عملياتها السرية داخل إيران والكشف عن الأنشطة السرية، كما يساعد في تقييم التهديد الذي يمثله كل هدف، وتحديد الأولويات للعمليات الهجومية أو التخريبية، وقد تضمنت هذه العمليات استخدام طائرات مسيرة صغيرة تهدف إلى إرباك الدفاعات الإيرانية، وساعد الذكاء الاصطناعي في التحكم في المفاعلات النووية من خلال أنظمة التعلم الآلي لتصميم أنظمة التحكم الصناعية (ICS) المستخدمة في المنشآت النووية الإيرانية، والتي كان الهدف منها اكتشاف نقاط الضعف غير المعروفة في جهاز الطرد المركزي في المفاعلات النووية في أنظمة الكشف التقليدية(Zero- day exploits)، من خلال الهجوم على ثغرات المفاعل النووي والتي يمكن استغلالها،أشهر مثال على ذلك هو هجوم ستوكسنت (Stuxnet) في عام 2010، هذا الفيروس الذي استهدف أجهزة الطرد المركزي الإيرانية في منشأة نطنز لتخصيب اليورانيوم، مما تسبب في أضرار مادية كبيرة عن طريق التلاعب بأنظمة التحكم الصناعية (SCADA). بالإضافة إلى استخدام الجيش الإسرائيلي نماذج الذكاء الاصطناعي لتحديد الأهداف العسكرية بدقة، بما في ذلك أنظمة الصواريخ الإيرانية وهذا يمنح إسرائيل القدرة على شن ضربات جوية فعالة.
بينما إيران تستخدم الذكاء الاصطناعي في سياق برنامجها النووي حيث إنها تستمر في تطوير نماذج من الذكاء الاصطناعي لتعزيز قدراتها العسكرية والدفاع عن برنامجها النووي وذلك من خلال تطوير القدرات النووية على تخصيب اليورانيوم، على الرغم من عدم وجود تأكيد معلن من جانب إيران على زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم، إلا أن هناك بعض التقارير من الوكالة الدولية للطاقة الذرية تصرح بأن عند فحصها عن كثب للبرنامج النووي الإيراني وجدت مستويات أعلى بكثير من المستويات المصرح بها بموجب القانون الدولي لعام 2015 فالمستويات المسموح بها في تخصيب اليورانيوم تتراوح بين 3% إلى 5%، بينما وصلت مستويات التخصيب في إيران عام 2021 بعد انفجار المولد إلي 60% وهذه المستويات من التخصيب تستخدم لإنتاج الأسلحة النووية، وهذا التزايد السريع في نسب التخصيب يجعل هناك مخاوف الوصول السريع إلى مستويات 90% لأن هذه النسبة سوف تساعد إيران في الحصول على قنبلة نووية في وقت قصير.
ختامًا، فالعلاقة المعقدة والمتطورة بين الذكاء الاصطناعي والمجال النووي، خاصة في سياق الصراع الإسرائيلي - الإيراني بات واضحًا، الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة مساعدة، بل أصبح عنصرًا فاعلاً يُشكل ملامح هذا التوتر المحتدم.
فالطريقة التي يمكن أن يسهم بها الذكاء الاصطناعي في تحسين كفاءة تخصيب اليورانيوم، قد يقلل من العوائق أمام الدول الساعية لامتلاك القدرات النووية، بينما يُمثل في الوقت ذاته أداة حاسمة في المراقبة وتحقيق الالتزام بالقانون الدولي، وتتجلى خطورة هذه العلاقة بشكل أكبر في الحرب السيبرانية النووية، حيث تُوظّف التقنيات الذكية في الهجمات الدفاعية والهجومية على حد سواء، مما يُزيد من تعقيد وتحديد المسئولية وتفاقم المخاطر والتصعيد غير المقصود، وصولا إلى احتمالية وقوع آثار جانبية غير متوقعة أو غير قابلة للسيطرة في بيئة شديدة الحساسية كالمفاعلات النووية.
إن التحديات التي يفرضها هذا التقاطع بين الذكاء الاصطناعي والبرامج النووية هائلة، وتدعو إلى ضرورة حاسمة لوضع أطر أخلاقية وقانونية دولية واضحة، إلى جانب تعزيز التحكم البشري والشفافية في تصميم وتطبيق هذه الأنظمة. ففي عالم تتزايد فيه التوترات، وتتسارع فيه وتيرة التطور التكنولوجي، يظل ضمان الاستخدام المسئول للذكاء الاصطناعي في أخطر المجالات هو مفتاح الحفاظ على الأمن والاستقرار العالمي.
المصادر:
المصادرالأجنبية:
1. Efma Shutterstock, “AI could help overcome nuclear the hurdles to making fusion a practical energy source”, The Conversation, January 2025.
2. Belle Lin,” Nuclear Power is bake. End this time, AI can help manage the reactors”, CIO Journal, April 2025.
3. Chaima Jendoubi, Arghavan Asad," Review A Survey of Artificial Intelligence Applications in Nuclear Power Plants", Department of Engineering and Applied Science, Ontario Tech University, Oshawa, ON LIG DC5, Canada, October 2024.
4. U.S.NRC,” Uranium Enrichment”, U.S.NRC, December 2020.I
5. Dawn stover,” AI goes nuclear”, Bulletin of Atomic Scientists, December 2024.
المصادر العربية:
1. سوالف تك،" جوجل تدخل عصر الطاقة النووية المتقدمة: اتفاقية جديدة لإنشاء 3 مفاعلات SMRلتلبية الطلب المتزايد من الذكاء الاصطناعي"، سوالف تك، يوليو 2025.
2. المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات،" أمن دولي ـ البرنامج النووي الإيراني، ما مدى تقدمه؟"، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، يونيو 2025.
3. نيرمين سعيد،" تفكيك القرار الإسرائيلي باستهداف إيران: بين الاستراتيجيات وأخطاء الحسابات"، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، يونيو 2025.
4. إيهاب خليفة،" سيناريوهات افتراضية للهجوم السيبراني على البرنامج النووي الإيراني"، مجلة المستقبل، أبريل 2021.
5. مارك مسعد،" حرب سيبرانية بين إسرائيل وإيران ... ما أهدافها وأسلحتها"، مجلة علوم وتكنولوجيا، يونيو 2025.