تحليلات

الهجوم الإسرائيلي على الدوحة وتداعياته على الأمن الإقليمى

طباعة

لم يكن الهجوم الإسرائيلي على الدوحة مجرد واقعة عابرة في سجل الصراع العربي–الإسرائيلي، بل جاء كجرس إنذار مدوٍّ يعيد ترتيب أولويات الأمن الإقليمي، ويفرض على العواصم العربية مراجعة حساباتها. فالحدث تجاوز حدود الاستهداف العسكري إلى اختبار مباشر للقدرة على حماية سيادة الدول في عالم تتسارع فيه التحولات وتتشابك فيه مصالح القوى الكبرى. وبينما وجدت قطر نفسها في قلب العاصفة، فإن التداعيات تتجاوز حدودها لتطال البنية الأوسع للأمن القومي العربي، وتضع النظام الدولي بأسره أمام سؤال قديم–جديد: كيف تُصان سيادة الدول حين تتحول الجغرافيا إلى ساحة مكشوفة للقوة؟

من الدوحة إلى قلب العاصفة..اختبار جديد للأمن الإقليمي:

في أقل من أربعة أشهر فقط، وجدت قطر نفسها أمام تحولات دراماتيكية وضعتها في قلب الجدل الإقليمي والدولي. ففي مايو 2025، اختارت الدوحة أن تعبّر عن انفتاحها السياسي عبر بادرة رمزية، حين قدّمت هدية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في خطوة فسّرها مراقبون على أنها محاولة لفتح قنوات تواصل غير تقليدية مع مراكز النفوذ داخل واشنطن. هذه الخطوة جاءت امتدادًا لسياسة قطرية راسخة تقوم على استخدام الدبلوماسية الرمزية والقوة الناعمة لتعزيز مكانتها في نظام دولي مضطرب.

غير أن ما بدا في الربيع لفتة محسوبة لإعادة التموضع، انقلب في الخريف إلى أزمة غير مسبوقة. ففي التاسع من سبتمبر 2025، تعرّضت الدوحة لهجوم إسرائيلي استهدف مقرات سكنية لقيادات حركة حماس المقيمة في قطر. وعلى الفور، أصدرت وزارة الخارجية القطرية بيانًا شديد اللهجة أدانت فيه العملية ووصفتها بـ "الجبانة"، مؤكدة أنها "لن تتهاون مع أي عبث يمسّ أمنها". بذلك، انتقلت قطر من موقع الوسيط الهادئ إلى موقع المتضرر المباشر من صراعات الإقليم، لتجد نفسها أمام اختبار مزدوج: حماية أمنها القومي من جهة، والحفاظ على دورها الدبلوماسي المميّز من جهة أخرى.

هذه المفارقة الزمنية بين "هدية الربيع" و"عقاب الخريف" ليست مجرد صدفة، بل تعكس هشاشة التوازنات الإقليمية وتقلبات الحسابات الأميركية – الإسرائيلية في الشرق الأوسط. ومن هنا يأتى هذا التحليل لدلالات هذه الأحداث، والكشف عن التحديات الاستراتيجية التي تواجه قطر، سواء في إدارة علاقتها بالولايات المتحدة وإسرائيل، أو في صياغة موقعها داخل النظام الإقليمي الأوسع.

مفارقات العلاقة مع واشنطن:

حين أقدمت قطر في مايو 2025 على تقديم هدية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، لم يكن الأمر مجرد لفتة بروتوكولية عابرة، بل خطوة محسوبة عكست إدراكًا عميقًا لطبيعة التحولات في الداخل الأمريكي. فقد أدركت الدوحة أن واشنطن لم تعد مركز قرار موحّد. هذه المبادرة لم تكن غريبة على السياسة الخارجية القطرية، فهي اعتادت توظيف الدبلوماسية الرمزية والقوة الناعمة لتوسيع هوامشها في نظام دولي معقّد.

غير أنّ ما حدث في سبتمبر من العام نفسه كشف هشاشة هذا الرهان. فالهجوم الإسرائيلي على مقرات قيادات حماس في الدوحة لم يكن ليتم من دون ضوء أخضر أميركي مباشر أو على الأقل غض طرف متعمّد، وهو ما وضع قطر في موقف حرج. لقد وجدت نفسها بين خطين متوازيين: خط تسعى فيه إلى كسب ودّ التيار الأمريكي المحافظ،  وخط آخر تصطدم فيه بصلابة التحالف الاستراتيجي الأميركي – الإسرائيلي الذي لا يسمح بمرونة كبيرة لصالح دولة مثل قطر. وهكذا، بدت التجربة كأنها مفارقة صارخة: تقارب رمزي في الربيع، وضغط استراتيجي في الخريف.

هذا التناقض يعكس طبيعة العلاقة المركبة بين الدوحة وواشنطن. فمن جهة، تستضيف قطر أكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة، قاعدة "العديد"، ما يجعلها شريكًا أمنيًا لا غنى عنه في الحسابات الأمريكية. ومن جهة أخرى، يثير احتضانها لقيادات حماس وقيامها بدور الوسيط في النزاعات الإقليمية حفيظة إسرائيل ويضع الولايات المتحدة في موقع الموازن بين طرفين متناقضين. وبذلك يصبح المجال السياسي القطري مكشوفًا أمام الضغوط الأمريكية، بحيث لا تكفي فيه الرموز أو المبادرات المنفردة، طالما أن واشنطن تنظر إلى الدوحة من خلال منظور أوسع يتجاوزها إلى مجمل قضايا الشرق الأوسط.

وعليه، أكدت تجربة 2025 أن العلاقة القطرية – الأميركية لا تزال محكومة بميزان قوى غير متكافئ. فبينما تراهن قطر على أدواتها الناعمة ومرونتها الدبلوماسية لفتح مسارات متعددة داخل واشنطن، فإن الواقع الاستراتيجي يفرض عليها إدراك أن أي محاولة للتموضع السياسي تظل محكومة بسقف التحالف الأميركي – الإسرائيلي، وهو سقف لا يمكن تجاوزه بالرموز وحدها. بهذا المعنى، فإن ما بدا في مايو محاولة لاستباق المستقبل، تحوّل في سبتمبر إلى تذكير صارخ بحدود الحركة المتاحة أمام دولة صغيرة المساحة تواجه حقائق الجغرافيا السياسية وتحالفات القوى الكبرى.

الهجوم الإسرائيلي على الدوحة.. دلالات غير مسبوقة:

شكّل الهجوم الإسرائيلي على مقرات سكنية لقيادات حركة حماس في العاصمة القطرية الدوحة، في سبتمبر 2025، حدثًا غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي. فمنذ عقود، اعتادت إسرائيل أن تمد عملياتها العسكرية إلى دول مثل لبنان وسوريا، بل وحتى إلى بعض الدول البعيدة التي شكّلت ملاذًا لقيادات فلسطينية أو عربية معارضة، غير أن استهداف الدوحة حمل دلالات مختلفة تمامًا. هذه المرة لم يكن الهجوم مجرد عملية عسكرية عابرة، بل سابقة خطيرة مثّلت رسالة سياسية مركبة، استهدفت أطرافًا عدة في وقت واحد.

أول ما يلفت الانتباه أن العملية وقعت في لحظة سياسية دقيقة، كانت قطر خلالها تضطلع بدور الوسيط بين إسرائيل وحماس من أجل التوصل إلى تفاهمات تهدئة في غزة. وهذا يعني أن إسرائيل لم تكتف بضرب خصومها عسكريًا، بل وجّهت ضربة مباشرة لمصداقية الوساطة القطرية نفسها، وكأنها أرادت القول إن استضافة قادة حماس لم تعد مقبولة أو محمية، وإن قدرتها على فرض وقائع جديدة لا تتوقف عند حدود غزة بل تمتد إلى عمق العواصم التي ترعى هذه القيادات. بهذا المعنى، لم يكن الاستهداف عملًا تكتيكيًا قصير المدى، بل جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى تحجيم الدور القطري في المعادلة الإقليمية.

على المستوى الإسرائيلي، حمل الهجوم رسائل متعددة. فمن جهة، هو استعراض قوة يؤكد أن إسرائيل قادرة على ملاحقة خصومها حتى في أماكن يُفترض أنها بعيدة عن مسرح المواجهة المباشر. ومن جهة أخرى، هو رسالة داخلية للجمهور الإسرائيلي الذي يشكك في قدرة حكومته على تحقيق الردع في غزة، حيث جاء الهجوم ليؤكد أن المعركة مع حماس ليست جغرافية محدودة بل استراتيجية عابرة للحدود.

أما على المستوى الأمريكي، فقد وضعت العملية واشنطن في موقف بالغ التعقيد. فبينما تعتبر الولايات المتحدة قطر حليفًا رئيسيًا يستضيف أكبر قواعدها في المنطقة، فإنها في الوقت ذاته لا تستطيع الانفكاك عن التزاماتها التاريخية تجاه إسرائيل. لذلك بدا أن العملية تمت إما بضوء أخضر أمريكي صريح، أو على الأقل ضمن نطاق "غض الطرف". هذه الازدواجية كشفت حدود الحماية التي يمكن أن توفرها واشنطن لحلفائها إذا ما تعارضت مصالحهم مع أولويات الأمن الإسرائيلي.

وفي السياق الإقليمي، كان للهجوم وقع الصدمة. فالدوحة لم تكن مجرد عاصمة خليجية محايدة، بل لاعب نشط في ملفات عديدة، بدءًا من وساطة غزة، وصولًا إلى علاقاتها الاستراتيجية مع تركيا وإيران. واستهدافها فتح الباب أمام احتمالات جديدة تتعلق بمدى استعداد إسرائيل لتوسيع مسرح عملياتها إلى دول أخرى، وهو ما يهدد الاستقرار الإقليمي برمته. فانتقال الصراع إلى قلب الخليج، الذي كان يُنظر إليه طويلًا باعتباره منطقة نفوذ آمنة نسبيًا، يعني أن إسرائيل تسعى إلى إعادة صياغة قواعد اللعبة في المنطقة وفرض معادلات جديدة على الجميع.

وعليه، لم يكن الهجوم الإسرائيلي على الدوحة مجرد ضربة عسكرية تستهدف شخصيات بعينها، بل كان اختبارًا استراتيجيًا لدور قطر، ورسالة سياسية إلى حماس، وإشارة تحذير إلى واشنطن، وتنبيهًا صارخًا إلى دول أخرى فى المنطقة. لقد تحوّل الخليج إلى ساحة مفتوحة أمام الصراع العربي–الإسرائيلي، بما يضع المنطقة كلها أمام مرحلة جديدة قد تعيد رسم خرائط القوة والتحالفات في الشرق الأوسط.

الموقف القطري ورد الفعل الاستراتيجي:

أظهر الموقف القطري من الهجوم الإسرائيلي على الدوحة تحوّلًا واضحًا في خطاب الدولة وسلوكها الخارجي. فمنذ اندلاع الصراعات في غزة ومرورًا بمحاولات الوساطة بين إسرائيل وحماس، حرصت قطر على تقديم نفسها كوسيط محايد يتمتع بالقدرة على التواصل مع مختلف الأطراف، مستفيدة من شبكة علاقاتها الممتدة بالولايات المتحدة، وحركة حماس، وعدد من القوى الإقليمية مثل تركيا وإيران. غير أن الهجوم الأخير وضع الدوحة أمام معادلة جديدة، إذ لم تعد وسيطًا خارج دائرة الاستهداف، بل أصبحت جزءًا من ساحة المواجهة نفسها.

جاء الرد القطري سريعًا وحادًا، حيث وصفت وزارة الخارجية العملية بأنها "هجوم جبان" وأكدت أن الدوحة "لن تتهاون مع أي عبث يمسّ أمنها". هذا الخطاب اختلف عن اللغة التي اعتادت قطر استخدامها في أزمات سابقة، حيث كانت تفضل التركيز على لغة الوساطة والتوازن. الجديد هنا أن قطر وضعت نفسها في موقع "الطرف المتضرر" لا مجرد "الوسيط"، وهو تحول دلالي واستراتيجي مهم يعكس إدراكًا بأن الصمت أو التخفيف من وقع الحدث سيُفسَّر كضعف، وأن الحفاظ على صورة الدولة القادرة على حماية سيادتها شرط أساسي لمواصلة لعب دورها الإقليمي.

لكن الموقف القطري لم يقتصر على الإدانة اللفظية، بل حمل دلالات استراتيجية أعمق. فمن ناحية، سعت الدوحة إلى إعادة تعريف دورها بحيث لا تكتفي بالوساطة التقليدية، بل تضع نفسها في موقع الطرف الذي يملك الحق في المطالبة بضمانات أمنية أكبر. ومن ناحية أخرى، كشفت الأزمة حدود الرهان على العلاقة الخاصة مع واشنطن، إذ بدا أن الولايات المتحدة غير مستعدة لتوفير مظلة حماية كاملة إذا ما تعارض ذلك مع أولوياتها في دعم إسرائيل. هذا الإدراك قد يدفع قطر إلى التفكير في تعزيز منظوماتها الدفاعية، وتنويع تحالفاتها الاستراتيجية عبر الانفتاح على قوى أخرى مثل تركيا وإيران والصين، بما يتيح لها توازنًا أكبر في مواجهة الضغوط.

إلى جانب ذلك، فإن الموقف القطري حمل أبعادًا رمزية تتعلق بهوية الدولة وصورتها في الإقليم. فالدوحة التي بنت سمعتها على أنها عاصمة الوساطة والدبلوماسية الذكية، تجد نفسها اليوم مطالَبة بإثبات قدرتها على حماية حدودها وسيادتها، وهو ما يشكل اختبارًا جديدًا لسياساتها. لذا يمكن القول إن رد الفعل القطري لم يكن مجرد رفض لفظي للهجوم، بل بداية لإعادة صياغة خطاب الدولة تجاه التهديدات الإقليمية، بما يجمع بين الدفاع عن السيادة الوطنية والاستمرار في لعب أدوار دبلوماسية فاعلة.

وبذلك، يعكس الموقف القطري بعد الهجوم الإسرائيلي انتقال الدولة من موقع "الوسيط الحيادي" إلى موقع "الفاعل الاستراتيجي المتضرر"، وهو انتقال يفرض عليها إعادة حساباتها في الداخل والخارج على حد سواء. وبينما لا يزال الباب مفتوحًا أمامها للحفاظ على دورها كقوة دبلوماسية، فإن التحدي الأكبر يتمثل في كيفية التوفيق بين هذا الدور وبين مقتضيات الأمن القومي التي باتت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.

التداعيات الإقليمية والدولية:

لم يقتصر الهجوم الإسرائيلي على الدوحة على كونه حادثًا عسكريًا محدودًا، بل حمل في طياته تداعيات إقليمية ودولية عميقة قد تعيد صياغة خريطة التحالفات وأدوار القوى في الشرق الأوسط. فعلى المستوى الإقليمي، بدا أن قدرة قطر على الاستمرار كوسيط محايد باتت موضع شك، إذ تحوّلت استضافة قادة حماس من مصدر قوة دبلوماسية إلى عبء أمني مباشر. وبينما كانت الدوحة تراهن على هذا الدور لتعزيز مكانتها كعاصمة للحوار والوساطة، جاء الهجوم ليقوّض حيادها، وليثير شكوكًا لدى الأطراف المتصارعة حول قدرتها على حماية قنوات التفاوض أو ضمان أمن من تستضيفهم.

في السياق ذاته، أدخلت العملية العلاقات القطرية–الإسرائيلية في طور جديد من التوتر، وربما في دائرة القطيعة غير المعلنة. فإسرائيل لم تكتف بتوجيه رسالة إلى حماس، بل أرادت أيضًا تحذير قطر من أن استضافتها لقيادات الحركة لم يعد أمرًا مقبولًا. هذا الموقف يضع الدوحة أمام معضلة استراتيجية: إما أن تستمر في رعايتها لحماس مع ما يحمله ذلك من مخاطر أمنية متزايدة، أو أن تعيد النظر في هذا الدور بما قد يضعف صورتها كوسيط إقليمي فاعل. وفي كلتا الحالتين، فإن خيارات قطر باتت أصعب وأكثر تكلفة.

أما على المستوى الأمريكي، فقد كشفت العملية عن حدود التحالف الخاص بين واشنطن والدوحة. فعلى الرغم من استضافة قطر لقاعدة العديد، التي تعد ركيزة أساسية للوجود العسكري الأميركي في المنطقة، فإن الولايات المتحدة لم تمنع الهجوم، بل يُرجّح أنها غضّت الطرف عنه أو وفّرت له غطاءً سياسيًا ضمنيًا. هذا السلوك يعكس حقيقة أن تحالف الدوحة مع واشنطن لا يمنحها حماية مطلقة، وأن أولويات الولايات المتحدة ستظل مرتبطة بأمن إسرائيل حتى لو جاء ذلك على حساب أمن حلفائها الآخرين. وهو ما يدفع قطر إلى إعادة التفكير في اعتمادها شبه الكامل على المظلة الأميركية، والبحث عن بدائل استراتيجية مع قوى أخرى لتعزيز توازنها الأمني.

على الصعيد الأوسع، فتح الهجوم الباب أمام إعادة تقييم النظام الإقليمي برمته. فانتقال الصراع مع إسرائيل إلى قلب الخليج يعني أن منطقة طالما عُدت خارج مسرح المواجهة المباشرة قد أصبحت جزءًا من دائرة الصراع. وهذا التحول ستكون له انعكاسات على باقي دول الخليج، إذ سيجعلها أكثر حذرًا في التعامل مع تل أبيب. في الوقت ذاته، قد يدفع الحادث قوى إقليمية مثل إيران وتركيا إلى استثمار الموقف لتعزيز نفوذها، من خلال تقديم نفسها كحليف محتمل للدول التي تشعر بتهديد مباشر من السياسات الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا.

دوليًا، عكس الحدث هشاشة النظام الدولي في حماية سيادة الدول. فالمجتمع الدولي اكتفى ببيانات إدانة شكلية لم تُترجم إلى آليات عملية، ما يثير تساؤلات حول جدوى المؤسسات متعددة الأطراف في مواجهة خروقات تهدد الأمن والاستقرار. بذلك، لم يكن الهجوم اختبارًا لإرادة قطر فحسب، بل أيضًا لاختبار قدرة النظام الدولي بأسره على التعامل مع وقائع جديدة تتحدى قواعد السيادة التقليدية.

وعليه، يمكن القول إن التداعيات الإقليمية والدولية للهجوم الإسرائيلي على الدوحة تتجاوز حدود الواقعة ذاتها، لتفتح الباب أمام تحولات استراتيجية أوسع قد تعيد تشكيل موازين القوى في المنطقة. وبينما قد ينجح الحدث في فرض معادلات جديدة على قطر، فإنه في الوقت نفسه يهدد بفتح مرحلة من التوترات الممتدة التي قد تغيّر شكل النظام الإقليمي بأكمله.

الطيران الإسرائيلي ومعضلة السيادة العربية:

من أبرز الأسئلة التي أثارها الهجوم الإسرائيلي على الدوحة مسألة المسارات الجوية التي استخدمتها الطائرات الإسرائيلية للوصول إلى العمق الخليجي. فالموقع الجغرافي لقطر يجعل من المستحيل تقريبًا تنفيذ مثل هذه العملية دون المرور عبر أجواء دول عربية أخرى. ورغم أن أي دولة في المنطقة لم تصدر تأكيدًا رسميًا بخصوص ذلك، فإن هذه الحقيقة الجغرافية تعيد إلى السطح قضية بالغة الحساسية تتعلق بمدى استقلالية القرار العربي في إدارة مجاله الجوي، وبمدى سيادة هذه الدول في مواجهة التحالفات الأمنية الدولية،لأن الانتقال من الطيران المدني إلى الطيران العسكري يمثل فارقًا جوهريًا، لأنه يرتبط بعمليات قتالية تحمل مخاطر سياسية وأمنية مباشرة.

إن احتمال مرور الطائرات الإسرائيلية عبر أجواء عربية في طريقها إلى قطر يطرح ثلاث إشكاليات مترابطة. أولها تتعلق بالسيادة الوطنية، إذ أن السماح بعبور طائرات عسكرية أجنبية لأغراض هجومية يقوّض مبدأ السيادة ويضعف شرعية الدولة. وثانيها يرتبط بالتحالفات الإقليمية، حيث إن الدول التي قد تكون سمحت بعبور هذه الطائرات تجد نفسها عمليًا طرفًا غير معلن في الصراع، ما قد يؤثر سلبًا على علاقاتها بجيرانها وعلى صورتها أمام الرأي العام العربي. أما الإشكالية الثالثة فتتصل بالتحالف الأميركي–الإسرائيلي، حيث يبدو أن بعض المسارات الجوية في المنطقة باتت محكومة بترتيبات أمنية أوسع من قرار الدولة الوطنية نفسها، بما يجعل السيادة الفعلية على الأجواء نسبية وليست مطلقة.

هذه المعضلة تضع الدول العربية أمام اختبار صعب: فإما أن تحافظ على التزاماتها تجاه الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بما يفرض عليها التساهل مع التحركات الجوية الإسرائيلية، أو أن تلتزم بمبدأ السيادة المطلقة وهو ما قد يعرضها لضغوط سياسية وأمنية واقتصادية ضخمة.وعليه، فإن الطيران الإسرائيلي فوق الأجواء العربية لم يعد مجرد مسألة فنية مرتبطة بخطوط الملاحة، بل أصبح قضية سياسية كبرى تمس الأمن القومي العربي. فالمجال الجوي لم يعد محايدًا، بل تحول إلى أداة ضغط واستعراض قوة، تُظهر كيف أن صراعات المنطقة تتجاوز حدود الجغرافيا لتصبح اختبارًا مباشرًا لسيادة الدول واستقلال قرارها.

ختامًا..خريف يختبر قوة الربيع:

بين "هدية الربيع" و"عقاب الخريف"، تكشف التجربة الأخيرة عن معضلة أعمق: كيف يمكن لدولة مثل قطر أن تحافظ على مكانتها الإقليمية والدولية وسط تقلبات القوى الكبرى وتناقضاتها؟ لقد أثبتت أحداث 2025 أن الرمزية وحدها لا تكفي، وأن الدوحة مطالبة بامتلاك استراتيجيات أكثر واقعية وصلابة، تُزاوج بين أدوات القوة الناعمة والقدرة على الصمود في مواجهة صدمات الجغرافيا السياسية.

فالحدث لم يكن مجرد هجوم عسكري عابر، بل محطة كاشفة لحدود القوة والضعف في بنية الأمن الإقليمي العربي. فقد أظهر أن دولة مثل قطر، رغم ما تمتلكه من أدوات تأثير عبر الوساطة والدبلوماسية والقدرة الإعلامية، تبقى عرضة للاختراق المباشر إذا ما قررت القوى الكبرى تجاهل اعتبارات السيادة الوطنية. كما أكد أن التحالف مع الولايات المتحدة، مهما بدا متينًا، لا يوفر ضمانة مطلقة للأمن إذا ما تعارض مع المصالح الإستراتيجية لإسرائيل.

من زاوية أخرى، أعاد الهجوم تسليط الضوء على أزمة النظام العربي في مواجهة التهديدات الخارجية. فغياب رد موحد والتباين في المواقف كشف عن حدود التضامن الإقليمي، وأكد أن كل دولة ما زالت تتعامل مع الصراعات وفق حساباتها الخاصة، حتى لو جاء ذلك على حساب الأمن الجماعي. ولعل المسارات الجوية التي استخدمتها الطائرات الإسرائيلية تمثل رمزًا لهذا التشتت، حيث بدا أن السيادة العربية باتت مشروطة ومجزأة، تخضع في كثير من الأحيان لحسابات التحالفات الدولية أكثر مما تخضع لقرارات وطنية مستقلة.

وعليه، يمكن استخلاص ثلاث نتائج استراتيجية رئيسية:

أولها، أن قطر مضطرة إلى إعادة صياغة دورها كوسيط إقليمي، عبر موازنة علاقتها بحركات المقاومة من جهة، وتحالفاتها مع الولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى، بما يضمن استمرار مكانتها دون تعريضها لمخاطر مباشرة. ثانيها، أن النظام العربي بات بحاجة إلى مقاربة جديدة للأمن الجماعي، تتجاوز الشعارات التقليدية إلى آليات عملية تضمن حماية الأجواء والمجالات الحيوية للدول. وثالثها، أن القوى الإقليمية غير العربية، ستسعى إلى استثمار هذا الفراغ لتوسيع نفوذها في الخليج، بما قد يغيّر معادلات القوة خلال السنوات المقبلة.

وفي ضوء ذلك، يمكن تقديم مجموعة من التوصيات العملية. بالنسبة لقطر، أصبح تعزيز قدراتها الدفاعية الجوية ضرورة ملحة، إلى جانب بناء شراكات أمنية متعددة تكسر احتكار الولايات المتحدة لمظلة الحماية. أما عربيًا، فإن إعادة الاعتبار لمفهوم الدفاع المشترك تبدو أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، خصوصًا في ظل انكشاف الأجواء العربية أمام الطيران الإسرائيلي. كما أن تفعيل دور المنظمات الإقليمية، سواء الجامعة العربية أو مجلس التعاون الخليجي، قد يمنح دولها مظلة تفاوضية أقوى ويحدّ من حالة التشرذم.

في النهاية، يظهر أن الشرق الأوسط يدخل مرحلة جديدة تتسم بتداخل الصراعات وتشابك المصالح على نحو غير مسبوق. لم تعد هناك جغرافيا محصنة، ولا دولة بمنأى عن التداعيات. وما بين "هدية في الربيع" و"عقاب في الخريف"، وجدت قطر نفسها في قلب اختبار استراتيجي معقد سيحدد مستقبل أدوارها ومكانتها، وربما مستقبل النظام الإقليمي العربي بأسره.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. محمد إبراهيم حسن فرج

    د. محمد إبراهيم حسن فرج

    دكتوراه العلوم السياسية- كلية الاقتصاد والعلوم السياسية،جامعة القاهرة