في الأول من مارس 2025، أُعلن عن ما يعرف إعلاميا "بصفقة بنما"، وهي صفقة يتم بمقتضاها نقل ملكية 43 ميناءً تديرها شركة "سي كيه هاتشيسون"في 23 دولة، وأخفقت "سي كيه هاتشيسون" في توقيع اتفاق بنقل ملكية الجزء المتعلق بموانئ بنما من الصفقة في الثاني من أبريل 2025، ورغم ذلك استمرت مفاوضات البيع قائمة حتى انتهاء المهلة النهائية للمفاوضات الحصرية بين شركةCK Hutchison وتحالف بقيادة شركة Terminal Investment Limited، التابعة لشركة الشحن العالمية MSC، إلى جانب شركةBlack Rock الأمريكية، في 27 يوليو الماضي 2025 دون الإعلان عن اتفاق نهائي. وتخضع الصفقة حاليا لتدقيق مكثف من جانب السلطات الصينية، حيث أعلنت الهيئة التنظيمية للسوق في الصين عقب فشل توقيع الصفقة أن مراجعتها لبيع شركة "سي كيه هاتشيسون"، لعشرات الموانئ ستشمل جميع الأطراف المعنية، وإنه لا ينبغي تنفيذ الصفقة دون الحصول على موافقة الهيئة، ورغم أن الصفقة تتعلق فقط بأصول "سي كيه هاتشيسون" خارج الصين وهونج كونج، فإن بيان الهيئة يُعتبر بمثابة تأكيد لسيطرة بكين على الشركات التي تتخذ من منطقة الصين الكبرى مقرا لها، ومنذ بدء الحديث عن الصفقة دخلت الولايات المتحدة الأمريكية والصين في حرب كلامية متصاعدة بشأن قناة بنما، وأصبحت الصفقة جزءا من أزمة جيوسياسية متصاعدة بين الولايات المتحدة والصين.
أولا- قناة بنما ساحة جديدة للتنافس الصيني-الأمريكي:
تشمل الاتفاقية، التي يروج لها شعبيا باسم "صفقة بنما" بين تكتل سي كيه هاتشيسون ومقره هونج كونج وتحالف تقوده الولايات المتحدة بقيادة شركة الاستثمار العملاقة بلاك روك -مرافق رئيسية، مثل موانئ بالبوا وكريستوبال، الواقعة عند بوابات المحيط الهادئ ومنطقة البحر الكاريبي لقناة بنما، وتغطي ملكية 90٪ من شركة موانئ بنما، التي تدير الميناءين على جانبي القناة.
أشارت رويترز، نقلا عن وسائل إعلام حكومية صينية، إلى أن الصفقة الأوسع التي تشمل العديد من الموانئ الأخرى في جميع أنحاء العالم يمكن أن تمنح بلاك روك السيطرة على 10.4٪ من إجمالي إنتاج الحاويات العالمي، مما يجعلها ثالث أكبر مشغل للموانئ في العالم([1]). علاوة على ذلك، كان كلا الميناءين محوريان في انتقادات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المتزايدة لبنما مما أدى إلى تضخيم مزاعمه الاستفزازية، بما في ذلك مزاعم مثل أن الصين تسيطر على قناة بنما([2]).
في ظل هذه الخلفية، برزت قناة بنما كساحة جديدة لصراع القوى العظمى. وقد أصبحت الصفقة مُسيّسة بشكل كبير، حيث وقع تكتل هونج كونج في خضم الحرب التجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين، مما زاد المخاوف من أن مكانة هونج كونج كمركز مالي قد تتأثر بسبب التوترات الجيوسياسية المتصاعدة. يأتي هذا التطور في ظل دعوات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المستمرة لإعادة القناة إلى السيطرة الأمريكية، مُشيرًا إلى مخاوف بشأن إدارتها وأهميتها الاستراتيجية([3]).
تُعد قناة بنما حيوية لسلاسل التوريد العالمية، إذ تُتيح مرور نحو 6% من التجارة البحرية العالمية. وفي عام 2023، عبرها 40% من حركة الحاويات الأمريكية. وتتعامل القناة مع بضائع بقيمة 270 مليار دولار سنويًا، ويرتبط 72% من هذا العبور بموانئ الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، في عام 2021، كانت أكثر من 73% من جميع السفن التي تبحر عبر القناة إما في طريقها إلى الولايات المتحدة أو مغادرة منها([4]). وتبرز هذه الإحصائيات الأهمية الاستراتيجية للاتفاقية ولقناة بنما بالنسبة لواشنطن.
خلال فترة ولايته الأولى، اتهم ترامب بنما بفرض رسوم باهظة على السفن الأمريكية التي تستخدم القناة. كما ظل ينتقد معاهدات توريخوس-كارتر لعام ١٩٧٧، التي سهّلت نقل ملكية القناة إلى بنما، واصفًا إياها بأنها خطوات خاطئة أضعفت النفوذ الأمريكي في المنطقة([5])، وأعرب ترامب عن قلقه قائلا: "لقد منحنا قناة بنما لبنما. لم نمنحها للصين، وقد أساءوا استخدامها". ثم أكد على أهمية القناة، واصفًا إياها بأنها "أصل وطني حيوي للولايات المتحدة" وضرورية لاستقرار اقتصاد البلاد ودفاعها الوطني([6])، وعندما سُئل عما إذا كان بإمكانه ضمان عدم استخدام القوة العسكرية أو الاقتصادية لاستعادة السيطرة على القناة، أجاب: "لقد بُنيت قناة بنما لجيشنا"([7]).
مع ذلك، واجهت الصفقة عقبات تنظيمية. فقد أطلقت سلطات مكافحة الاحتكار الصينية تحقيقًا في عملية الاستحواذ، مما أدى، بحسب التقارير، إلى تأخير إتمامها([8])، وأكدت إدارة الدولة لتنظيم السوق، وهي الجهة الرقابية الرئيسية على السوق في الصين، أنها بدأت التحقيق "وفقًا للقانون لحماية المنافسة العادلة في السوق وصون المصلحة العامة، ونشر مكتب شئون هونج كونج وماكاو الصيني البيان نفسه لاحقًا.
في أعقاب هذا الإعلان، أشارت التقارير في صحيفة ساوث تشاينا مورنينج بوست إلى أن شركة سي كيه هاتشيسون قد أجلت التوقيع الرسمي على صفقة موانئ بنما([9]). وكان من المتوقع في البداية توقيع الوثائق النهائية للصفقة في 2 أبريل 2025. ومما زاد الأمور تعقيدًا، كشف بلومبرج أن بكين أصدرت توجيهات تُلزم الشركات المملوكة للدولة بالامتناع عن الدخول في تعاملات تجارية جديدة مع سي كيه هاتشيسون والشركات التابعة لها([10])، وأصدرت وسائل الإعلام الموالية لبكين تعليقات متعددة تدين صفقة سي كيه هاتشيسون، وتصورها على أنها خيانة للصين وتتوافق مع الجهود الأمريكية لاحتواء النفوذ الصيني. بالإضافة إلى ذلك، يعتقد المحللون أن التأخير قد يعني أن الأطراف الرئيسية المشاركة في الصفقة، بما في ذلك سي كيه هاتشيسون وبلاك روك، سيتعين عليها إعادة التفاوض على الشروط لاستيعاب مخاوف بكين وواشنطن([11]).
بالإضافة إلى ذلك، طلبت حكومة بنما وثائق من شركة سي كيه هاتشيسون لاستكمال التدقيق على الامتياز([12]). كما طلبت هيئة الملاحة البحرية في بنما من بلاك روك وسي كيه هاتشيسون تقديم تفاصيل عن صفقتهما، ويجب أن تحصل في النهاية على الضوء الأخضر من بنما([13]). تسلط هذه القضايا الضوء على أن التطورات الأخيرة تتجاوز نطاق الصفقة الحالية، والتي لا تزال نتيجتها غير مؤكدة، ولها تداعيات جيوسياسية أوسع على الولايات المتحدة والصين.
ثانيا- العلاقات بين بنما والولايات المتحدة:
في عام ١٩٠٣، وبعد فشل المفاوضات مع كولومبيا، غيّرت الولايات المتحدة نهجها بدعم مساعي بنما نحو الاستقلال. استخدم الرئيس تيودور روزفلت "دبلوماسية الزوارق الحربية"، أي استخدام القوة العسكرية أو التهديد بها لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، لردع المقاومة الكولومبية وضمان نجاح الحركة الانفصالية. وفي مقابل الدعم العسكري الأمريكي والاعتراف الدبلوماسي بجمهورية بنما حديثة التأسيس، وُقّعت معاهدة هاي-بوناو-فاريلا عام ١٩٠٣. ومنحت هذه المعاهدة الولايات المتحدة سيطرة دائمة على منطقة قناة بعرض عشرة أميال مقابل دفعة أولى قدرها عشرة ملايين دولار ومبلغ سنوي قدره ٢٥٠ ألف دولار. كما تعهدت الولايات المتحدة بدعم استقلال بنما وحمايته([14]).
لا تزال قناة بنما، التي شُيّدت باستثمارات مالية وبشرية أمريكية ضخمة، تُعدّ إنجازًا هندسيًا بارزًا، وشريانًا أساسيًا للتجارة العالمية. إلا أن الاتفاق السياسي لعام ١٩٠٣ أثار استياءً عميقًا بين البنميين، الذين اعتبروه انتهاكًا لسيادتهم.
بعد جهود بناء واسعة النطاق بقيادة الولايات المتحدة، افتُتحت القناة رسميًا في عام 1914 وظلت تحت سيطرة الولايات المتحدة حتى نقلها إلى بنما في عام 1999 بموجب شروط معاهدات توريخوس-كارتر. وهذه المعاهدات عبارة عن مجموعة من معاهدتين: الأولى: تسمى المعاهدة المتعلقة بالحياد الدائم وتشغيل قناة بنما ، أو معاهدة الحياد، والتي نصت على أن الولايات المتحدة يمكن أن تستخدم جيشها للدفاع عن قناة بنما ضد أي تهديد لحيادها، مما يسمح بالاستخدام الدائم للولايات المتحدة للقناة. والأخرى: تسمى معاهدة قناة بنما، وأعلنت أن منطقة قناة بنما سيتم حلها في 1 أكتوبر 1979، وسيتم تسليم القناة إلى بنما في 31 ديسمبر 1999. تم توقيع هاتين المعاهدتين في 7 سبتمبر 1977([15]). ومع ذلك، ظلت هذه الاتفاقيات، حتى الآن، مثيرة للجدل بين بعض الشخصيات السياسية الأمريكية، لفترة طويلة بعد كارتر. وقد اعتبر التسليم بمثابة خطأ استراتيجي في التقدير([16]).
أشعل خطاب دونالد ترامب الأخير هذا الجدل مجددًا، متحديًا شرعية معاهدات توريخوس-كارتر. وقد ضمنت هذه الاتفاقيات حياد القناة وسمحت بالتدخل الأمريكي في حال تعرض أمنها للخطر. إلا أن ترامب تجاوز مجرد النقد، مدافعًا علنًا عن عودة القناة إلى السيطرة الأمريكية في حال عدم الالتزام ببعض "المبادئ الأخلاقية والقانونية". وصرح ترامب قائلًا: "إذا لم تُحترم المبادئ الأخلاقية والقانونية لهذه البادرة الكريمة، فسنطالب بإعادة قناة بنما إلينا كاملةً ودون أي نقاش". وأكد ترامب على المخاوف المتعلقة بمصالح الولايات المتحدة، وخاصةً الرسوم المرتفعة المفروضة على الشحن الأمريكي([17]).
تنبع الحجج ضد واشنطن من الاتهام القائل إنه على الرغم من الأهمية الرمزية والاستراتيجية للقناة، إلا أن واشنطن لم تُعطِ الأولوية الكافية لعلاقتها مع بنما منذ تخليها عن السيطرة عليها عام 1999. وقد جسّد غياب السفير الأمريكي المعين لمدة أربع سنوات من عام 2018 إلى عام 2022 هذا الاتهام بالإهمال الدبلوماسي. ومن الحجج الأخرى ضد مزاعم واشنطن بشأن القناة أن بنما استثمرت بشكل كبير في القناة منذ أن حصلت على السيطرة عليها عام 1999. وعلى عكس الفكرة المتداولة في واشنطن بأن بنما ورثت القناة في شكلها الأصلي فحسب، من المهم ملاحظة أن الأخيرة بذلت جهودًا كبيرة لتطوير وتوسيع الممر المائي من خلال أعمال تجريف واسعة النطاق وتطوير البنية التحتية. وهذا اعتبار حاسم في مناقشات السياسة، وخاصة تلك التي تشير إلى فكرة "استعادة" قناة بنما في واشنطن، حيث يتجاهل هذا الخطاب مساهمات بنما الكبيرة في تحديثها واستمرار وظائفها. في السنوات الأخيرة، قامت بنما بتنفيذ مشروع توسعة بمليارات الدولارات والذي أدى فعليًا إلى مضاعفة سعة القناة، مما مكنها من استيعاب السفن الأكبر من فئة "ما بعد باناماكس"([18]).
بما أن السفن تُصمم عادةً لتتناسب مع أبعاد أهوسة القناة مع خلوص ضئيل على كلا الجانبين، فعندما تجاوزت السفن حجمها الأصلي، كما حدث في قناة 1914 التي بنتها الولايات المتحدة، استجابت بنما بتوسيع بنيتها التحتية لاستيعاب سفن أكبر وأعمق وأطول. وهذا يُثبت أن السلطات البنمية لم تنجح فقط في صيانة القناة وتحديثها، بل حسّنت أيضًا كفاءتها الإجمالية من خلال مضاعفة سعتها، وتقليل وتيرة الحوادث، وغيرها.
ثالثا- النفوذ الصيني المتزايد في بنما:
إلى جانب الولايات المتحدة، تُصنّف الصين كثاني أكثر مستخدمي قناة بنما، مما يُبرز أهميتها الاستراتيجية لبكين. وكما أُشير سابقًا، ثمة إجماع متزايد على أن واشنطن فشلت في تلبية احتياجات بنما المُلحّة للاستثمار في البنية التحتية. في العقود الأخيرة، لم تلعب الشركات الأمريكية الخاصة دورًا يُذكر في مشاريع البنية التحتية البنمية الكبرى، ومن الأمثلة البارزة على ذلك التوسعة الهائلة لهويس القناة، التي افتُتحت عام ٢٠١٦. وقد مثّل هذا المشروع، الذي شُيّد بالكامل من قِبل اتحاد أوروبي، غيابًا واضحًا للمشاركة الأمريكية. وقد تأكّدت الأهمية الرمزية لهذا الفراغ عندما أصبحت سفينة مملوكة لشركة كوسكو الصينية أول من يعبر الأهوسة المُوسّعة حديثًا، مُمثّلةً بذلك فوزًا دعائيًا كبيرًا لبكين.
استغلت الصين هذه الفجوة بنجاح واستباقية، حيث وجّهت استثمارات ضخمة إلى مشاريع البنية التحتية البنمية الحيوية. وعززت مكانتها بشكل أكبر، حيث اختيرت شركة صينية عام ٢٠١٨ لبناء الجسر الرابع عبر قناة بنما، وهو مشروع رفضت الشركات الأمريكية تقديم مناقصة له([19]).
كان أبرز مؤشر على تحول الولاءات في عام ٢٠١٧ عندما غيّرت بنما رسميًا اعترافها الدبلوماسي من تايوان إلى الصين، لتصبح بذلك أول دولة في أمريكا اللاتينية تنضم إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية. منذ اعتراف بنما الدبلوماسي ببكين، تجاوزت الاستثمارات الصينية ٢.٥ مليار دولار، وشملت قطاعات استراتيجية، مثل الموانئ على طرفي القناة، والاتصالات، وشبكات الطرق([20]). وقد أبرزت هذه الخطوة تنامي النفوذ الصيني في المنطقة، وكانت بمثابة جرس إنذار لصانعي السياسات الأمريكيين بشأن المشهد الجيوسياسي المتطور فيما تعتبره الولايات المتحدة حديقتها الخلفية.
علاوة على ذلك، ونظرًا لموقع بنما الجغرافي، فقد رسّخت مكانتها كمرتكز رئيسي لطموحات الصين في أمريكا اللاتينية، مما زاد من قلق واشنطن. في ظل هذه الخلفية، ازداد قلق واشنطن من نفوذ بكين في المنطقة، وخاصة في بنما. وقد حذّر وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو مؤخرًا الرئيس البنمي خوسيه رائول مولينو من أنه إذا لم تُتخذ إجراءات فورية للحد مما يراه ترامب سيطرة صينية على القناة، فإن الولايات المتحدة "ستتخذ الإجراءات اللازمة، وقد تشمل هذه الإجراءات التدخل العسكري، وهو أمر لا يزال مطروحًا للنقاش"، كما ألمح وزير الخارجية الأمريكي أثناء إعرابه عن مخاوف واشنطن من أن بكين قد تستغل سيطرتها على البنية التحتية الرئيسية في حال نشوب صراع أمريكي-صيني([21]).
يتجاوز الوجود الصيني المتنامي النفوذ التجاري فحسب؛ إذ يشمل أبعادًا سياسية وأمنية قد تتحدى المصالح الاستراتيجية الأمريكية. وتوفر العلاقة المترابطة بين الشركات الصينية وحكومة بنما والكيانات التجارية الرئيسية لبكين نفوذًا كبيرًا يمكن استغلاله لتعطيل عمليات القناة في أوقات التوتر الجيوسياسي. وقد فاقمت الشركات التي تدير موانئ حيوية وتربطهاعلاقات مع الحزب الشيوعي الصيني، المخاوف بشأن الطبيعة المزدوجة المحتملة للبنية التحتية التي تسيطر عليها الصين. ويضيف احتمال إعادة توظيف هذه المرافق للتطبيقات العسكرية طبقة أخرى من التعقيد إلى مخاوف الولايات المتحدة المتزايدة بشأن كيفية توجيه النفوذ الاقتصادي الصيني للسياسة البنمية في اتجاهات تتماشى مع المصالح الاستراتيجية لبكين، وبالتالي تغيير ميزان القوى في أمريكا اللاتينية، وتغيير المشهد الأمني المتطور في المنطقة بشكل كبير.
لم يغب تنامي حصة بكين في البنية التحتية لبنما عن وسائل الإعلام الرسمية الصينية. فقد ضخّم مكتب شئون هونج كونج وماكاو الروايات التي تُصوّر بيع أصول الموانئ القريبة من قناة بنما للولايات المتحدة على أنه خيانة للمصالح الوطنية الصينية. ومن شأن هذه الصفقات أن تمنح واشنطن نفوذًا غير مستحق على أصول استراتيجية حيوية لطرق التجارة الصينية([22]).
يزعم الباحثون أن الهيئات التنظيمية الصينية، مثل إدارة الدولة لتنظيم السوق، تتمتع بسلطة قضائية خارج الإقليم، مما قد يُستغل لتحدي عمليات الاستحواذ الأجنبية التي تُعتبر ضارة بالمصالح التجارية الصينية([23])، وتوفر قوانين الأمن في البلاد أدوات إضافية لفحص الاستثمارات الأجنبية في القطاعات الحيوية للأمن القومي، بما في ذلك مشاريع البنية التحتية مثل تلك الموجودة في قناة بنما([24]).
يتجاوز الوجود والنفوذ الصيني المتنامي في بنما مجرد التفاعل الاقتصادي. لذا، يثير مخاوف بشأن البنية التحتية ذات الاستخدام المزدوج، وخطر التجسس، وما يترتب على ذلك من تداعيات عسكرية استراتيجية. وتتمتع شركة كوسكو، عملاق الخدمات اللوجستية الصيني المهم الذي يُزعم ارتباطه بجيش التحرير الشعبي الصيني، بعلاقة طويلة الأمد مع هيئة قناة بنما. في هذا السياق، أدى دور كوسكو، كأحد أكبر مستخدمي القناة، إلى تزايد المخاوف بشأن مدى نفوذ الصين على العمليات اللوجستية الحيوية.
رابعا- مخاوف ترامب من نفوذ الصين في بنما:
ما يُجسّد مخاوف واشنطن تجاه الصين هو التداعيات الاستراتيجية والأمنية لعقيدة بكين "الاندماج المدني العسكري" (CMF). حيثتضمن هذه العقيدة إدارة استثمارات جمهورية الصين الشعبية، وخاصةً في البنية التحتية الحيوية، بما يخدم الأهداف التجارية وأهداف الدولة. وكما يوحي اسمها، تُركّزCMF بشكل رئيسي على إزالة العوائق بين الأبحاث المدنية الصينية وتطبيقاتها التجارية والعسكرية والدفاعية. ويُحذّر رئيس العمليات البحرية الأمريكية لعام 2021(NAVPLAN) من أن الصين تُوسّع بنيتها التحتية العالمية للسيطرة على نقاط الاختناق البحرية الرئيسية([25]).
هناك قلق متزايد من أن الصين قد تستخدم هذه الاستثمارات لمنع دول أخرى من الوصول إلى البنية التحتية في أوقات الأزمات. ورغم عدم تسجيل أي حالة منع صريح من الصين حتى الآن، إلا أن هناك مخاوف من طبيعة نموذج الأعمال الذي طورته بكين والذي يمنح شركائها ميزة على منافسيهم التجاريين. وقد تشجع هذه الميزة التنافسية الشركات التجارية المدعومة من الصين على ترسيخ مكانتها ككارتل للبنية التحتية البحرية أو احتكار قطاع محدد من السوق.
يسلط الدكتور جيفري جريش من جامعة الدفاع الوطني الأمريكية الضوء على أن ثلثي أكبر 50 ميناء حاويات في العالم قد تلقت استثمارات من جمهورية الصين الشعبية([26]).
في عام 2019، كانت شركة هاتشيسون بورت هولدينجز ومقرها هونج كونج ثاني أكبر مشغل لموانئ الحاويات في العالم، حيث تدير أكثر من 50 محطة على مستوى العالم. في المرتبة الثالثة، تدير شركة كوسكو لموانئ الشحن عددًا أقل من الموانئ ولكنها تتعامل مع حجم أكبر من البضائع. تدير شركة تشاينا ميرشانت بورتس هولدينجز ما يقرب من 40 ميناءً في نحو 20 دولة([27])، بالإضافة إلى ذلك يشير تقرير القوة العسكرية الصينية لعام 2020 الصادر عن وزارة الدفاع الأمريكية إلى أن مفهوم جمهورية الصين الشعبية "لتقاسم موارد المجال الأساسي" يملي أن هذه الاستثمارات في البنية التحتية البحرية مطلوبة لتوفير وظائف ذات استخدام مزدوج، وبالتالي سيكون لها آثار مهمة "حيث تسعى جمهورية الصين الشعبية إلى إنشاء بنية تحتية لوجستية وقواعدية خارجية أكثر قوة للسماح لجيش التحرير الشعبي بإبراز القوة العسكرية والحفاظ عليها". ويذكر التقرير على وجه التحديد أن الصين ربما استكشفت إنشاء مثل هذه المراكز اللوجستية العسكرية في ناميبيا، وفانواتو، وجزر سليمان، مع اهتمام محتمل بميانمار، وتايلاند، وسنغافورة، وإندونيسيا، وباكستان، وسريلانكا، والإمارات العربية المتحدة، وكينيا، وسيشل، وتنزانيا، وأنغولا([28]).
في السنوات الأخيرة، حشدت الصين حصة كبيرة من خلال الاستثمار بكثافة في السيطرة على البنية التحتية البحرية العالمية. وتتراوح الاستثمارات بين بناء موانئ جديدة وتطوير وتحديث مرافق مناولة البضائع، بالإضافة إلى الحصول على حقوق إدارة الموانئ. ويأتي معظم رأس المال من مبادرة الحزام والطريق الصينية، ولكن بعض الاستثمارات تتم أيضًا من قبل شركات مملوكة للدولة ومرتبطة بجيش التحرير الشعبي وشركات صينية أخرى([29])، بالإضافة إلى ذلك، أكدت جلسة استماع في الكونجرس عام 2024 على نقاط الضعف الاستراتيجية التي تشكلها سيطرة هتشيسون على ميناءي القناة الرئيسيين، محذرة من أن بكين قد تستغل موقعها لتعطيل سلاسل التوريد الأمريكية أو إعاقة اللوجستيات العسكرية في حالة نشوب صراع، وخاصة في سيناريو يشمل تايوان([30]).
إن النظرة الأوسع إلى منطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي تُبرز حقيقةً جليةً، وهي أن جمهورية الصين الشعبية حققت خلال السنوات الخمس عشرة الماضية تقدمًا ملحوظًا في هذه المنطقة، مُشكلةً بذلك تحديًا كبيرًا للمصالح الاستراتيجية الأمريكية. فما بدأ بتركيزٍ بدا غير مُضرّ على المصالح الاقتصادية ونهمٍ لا يشبع للسلع الأساسية، سرعان ما تحوّل ليشمل شراكاتٍ أمنية، وتبادلًا للتكنولوجيا، وبناء بنى تحتية حيوية.
تتفوق جمهورية الصين الشعبية في استخدام انخراطها متعدد الجوانب، وخاصةً علاقاتها التجارية، لتحقيق مزايا أمنية لنفسها. ويتجلى ذلك بوضوح في مجال البنية التحتية الرقمية والمادية. ويخشى الباحثون من أن يُترجم نفوذ الصين الاحتكاري على البنية التحتية الاقتصادية والتنموية للدول النامية إلى إكراه، بهدف انتزاع تنازلات من الدول المقترضة، مما يجعلها تعتمد عليها بشكل غير مستدام، وبالتالي تآكل استقلاليتها الاستراتيجية وحرية إرادتها([31]).
في ظل هذه الخلفية، تُبرز دعوات ترامب لاستعادة القناة قلق واشنطن من تنامي نفوذ الصين وتداعياته الاستراتيجية. ولا تزال واشنطن مترددة بشأن قدرة بكين على إعادة تشكيل التوجه الجيوسياسي لبنما من خلال الاستثمارات الاقتصادية والاستراتيجية، بغض النظر عن إصرار بكين على حياد القناة، كما هو منصوص عليه في معاهدة الحياد.
خاتمة:
أدى استحواذ شركة بلاك روك الأمريكية المحتمل على عمليات ميناء سي كيه هتشيسون في قناة بنما إلى تعقيدات جديدة في المنافسة الاستراتيجية الصينية الأمريكية المعقدة أصلًا. وبينما صوّرت واشنطن الصفقة على أنها انتصار جيوسياسي، فإن رد الفعل الأولي الخافت للصين، وما تلاه من عقبات تنظيمية، يُبرز نهجها الأكثر حرصًا تجاه هذه القضية. حيث تسعى الصين إلى موازنة المشاعر القومية مع أولوياتها الجيوسياسية الأوسع، مثل تجنب تصاعد التوترات مع الولايات المتحدة، والذي قد يؤثر سلبًا على علاقاتهما التجارية.
تؤكد هذه التطورات الأخيرة المتعلقة بقناة بنما أهميتها الدائمة في التجارة العالمية والتنافس الاستراتيجي. مع ارتفاع تكاليف التشغيل وتنامي نفوذ الصين في المنطقة، وقد تعود النقاشات في واشنطن حول إحياء مبادئ مثل مبدأ روزفلت، التي استُخدمت سابقًا لتبرير التدخلات الأمريكية في أمريكا اللاتينية. مع ذلك، يحذر المحللون من اتخاذ مثل هذه الإجراءات دون مراعاة حقوق بنما السيادية والتزامها الراسخ بالحكم الذاتي.
تظل قناة بنما محوريةً في السياسة الخارجية الأمريكية، مما يستلزم اتباع نهجٍ دقيقٍ يوازن بين المصالح الاستراتيجية الأمريكية وحق بنما في الحكم الذاتي. سيُشكل مستقبل القناة التفاعلَ المعقد بين التنافس بين القوى العظمى، والاعتبارات الاقتصادية، وتطلعات بنما لإدارة هذا الممر المائي الحيوي بمعزلٍ عن الضغوط الخارجية.
باستخدام الأطر القانونية، قد تدّعي واشنطن تحقيق نصرٍ مؤقت بالاستحواذ على الموانئ من الصين، إلا أن المنافسة الأوسع على النفوذ في المنطقة لم تنتهِ بعد،بل ستستمر طموحات الصين الاستراتيجية طويلة المدى في أمريكا اللاتينية في التزايد، ولديها القدرة على تشكيل مسار ديناميكيات القوة الإقليمية. وفي نهاية المطاف، فإن السبيل الأمثل للمضي قدمًا هو اتباع مسارٍ يعزز الشفافية والحوكمة الرشيدة والتعاون بين الولايات المتحدة والصين وبنما. ويجب ألا يكون ذلك على حساب السيادة البنمية، التي يجب أن تبقى ذات أولوية قصوى في أي اعتبارات جيوسياسية.
بالنسبة للصين، تُثير صفقة الاستحواذ تساؤلاتٍ مُقلقة حول مدى نفوذها على الشركات الأجنبية. في هذا السياق، تُمثل إدارة الصين لرد الفعل العنيف دون إثارة المزيد من التوترات اختبارًا حاسمًا لموقفها المُتطور في السياسة الخارجية وإدارة تصوراتها. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فتُؤكد هذه الصفقة على الأهمية الاستراتيجية للقناة. ومع ذلك، ينبغي على واشنطن أن تتذكر أن الحفاظ على النفوذ في المنطقة لا ينبغي أن يُترجم إلى إشراف قسري، بل إلى شراكة قائمة على الاحترام المتبادل، وفي ظلّ هذا المناخ من المنافسة المحتدمة، صمدت بنما في وجه السرديات التي صوّرتها بأنها أداةً في يد القوى العظمى.
الهوامش:
[3]Ott, Haley, Aimee Picchi, and Ibrahim Aksoy. “Why Does Trump Want Greenland and the Panama Canal? Here’s What’s behind U.S. Interest.” CBS News, January 8, 2025. https://linksshortcut.com/evGfb
[4]Levy, Elie. “The Strategic Significance of the Panama Canal and U.s. Policy Concerns.” Sobel Network Shipping Co., Inc, December 23, 2024. https://linksshortcut.com/FUZwQ.
[6]Global Times. “Lessons from the Panama Episode: In the Third Decade of 21st Century, US Should Wake up from Its Backyard Nostalgia.” Globaltimes.cn. Accessed April 17, 2025. https://linksshortcut.com/kCVTS
[9]Lam, Jeffie. “Hong Kong’s Hutchison ‘Will Not Sign Panama Deal next Week’, Beijing to Launch Probe.” South China Morning Post, March 28, 2025. https://linksshortcut.com/MqEXr
[12]Moreno, Elida, and Marianna Parraga. “Panama to Request Legal, Financial Documents on CK Hutchison-BlackRock Port Deal.” Reuters, March 2025. https://linksshortcut.com/HCdxq
[14]Office of the Historian, Foreign Service Institute, United States Department of State. “Milestones in the History of U.s. Foreign Relations - Office of the Historian.” Accessed April 17, 2025. https://linksshortcut.com/ocOkN
[15]Office of the Historian, Foreign Service Institute, United States Department of State. “Milestones in the History of U.s. Foreign Relations - Office of the Historian.” Accessed April 17, 2025. https://linksshortcut.com/kDNts
[16]Meadowcroft, Micah. “Primer: The American Canal – the Case for Revisiting the Panama Canal Treaties.” The Center for Renewing America. Center for Renewing America, January 31, 2025. https://linksshortcut.com/wWiFE
[22]Illueca, Alonso. “Ports, Power, and Politics: Behind the High-Stakes Battle over CK Hutchison’s Panama Deal.” The China-Global South Project. Accessed April 17, 2025. https://linksshortcut.com/gbMEa
[26]Gresh, Geoffrey. To Rule Eurasia’s Waves: The New Great Power Competition at Sea. London: Yale University Press, 2020.