بلا ريب إن مسألة القوى الكبرى ومسارات تدخلها العسكرى فى العصر الحديث من المسائل المعقدة والمتعددة الأوجه. ففى أعقاب زوال الاتحاد السوفيتى، تغيرت الكثير من المفاهيم والاصطلاحات، فتلاشى مفهوم (التهديد الشامل) وعوضه مفهوم ( المخاطر المنتشرة)، التى برزت بعدها نزاعات غير محددة إقليميا، لكنها قادرة على التطور مستقبلا ، لتكون تهديدات فعلية، لذا تحدث "ديك تشينى نائب الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش الابن"، عن وجود تهديدات متنامية أو تهديدات قيد التطور. وهذا بالفعل ما أكده مستشار الأمن القومى الأمريكى الأسبق "زبيغينيو بريجنسكى" آنذاك، "بأنه فى عصر نشوء السياسة العالمية العضوية، فإن التهديدات الرئيسية يمكن أن تنشأ من داخل الدول، إما عن طريق المنازعات الأهلية، وإما بسبب تزايد استخدام وسائل التطور التكنولوجى فى الأعمال الإرهابية، إذ يصف هذه التهديدات، بأن بعضها ظهر بعده نتيجة لانتهاء الحرب الباردة، والبعض الآخر ينطوى على منازعات إقليمية تستمر دهرا طويلا، والبعض تراث للإمبريالية، والبعض من المحتمل أن ينشأ بسبب ظهور قوة إقليمية جديدة، والبعض كامن فى الأحوال الإنسانية التى تتسم بالظلم والفقر ويزيدها سوءا الانفجار السكانى، وعلى الأرجح جميعها قد تسبب قدرا اكبر من الهلاك نتيجة الانتشار الذى لا مفر منه للأسلحة التى تسبب دمارا شاملا" .
غنى عن البيان أن السياسة الدولية بطبيعتها لا تتسم بالثبات فهى تتأثر بمعطيات البيئة الدولية على اعتبارها تتميز بالديناميكية، والتغيير، وظهور نظام دولى جديد المتمثل بأحادية القطبية تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، مما جعلها القوة المهيمنة, إذ عملت على فرض أنماط ومعايير جديدة للسلوك الدولى باعتبارها مبنية على مقتضى المصالح والأهداف الأمريكية لكى تتخذ أساسا للتعامل الدولى. إذ شهدت فترة ما بعد الحرب الباردة بروز تهديدات أمنية جديدة وتحولات جيوسياسية، وكان لهذه التحولات انعكاسات مباشرة على أمن وسلامة الأفراد الذين أصبحوا يتعرضون لانتهاكات جسيمة على نطاق واسع، مما جعل الأمم المتحدة تتدخل عن طريق مجلس الأمن لحماية الأفراد وصون حقوقهم الأساسية، ولاسيما فى ظل ارتباط قضايا حقوق الإنسان بالأمن والسلم الدوليين، فضلا عن التحول الاستراتيجى لا سيما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وبروز مقدمات نظام "الأحادية القطبية" بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالى تم التوصل إلى استنتاج بأن التدخل العسكرى الإنسانى كآلية فى إدارة الأزمات الدولية، يفتقد إلى معايير محددة، ويخضع للتوظيف السياسى لا سيما من طرف القوى الكبرى.
وليس بعيدا عن التأثر، فقد أصبحت المنطقة العربية فى أعقاب "الحرب الباردة" ميدانا لتدخل المنظمات الدولية والدول الكبرى لحسم الصراعات داخل هذه المنطقة، وفى وقت ممتلئ بالأحداث والمتغيرات الدولية، التى تؤثر بلا شك على نمط العلاقات الدولية، والتدخل العسكرى بدافع العامل الإنسانى ظاهرة ليست جديدة فى العلاقات الدولية، ولا سيما بعد إنتهاء "الحرب الباردة "، إذ تفشت الحروب والصراعات الداخلية والإقليمية فى العديد من الدول، تحديدا فيما يتعلق بالعرقيات، مما خلف انطباعا بأن عالم ما بعد "الحرب الباردة" سيكون أكثر عنفا من سابقه وفرض على الدول والمنظمات الدولية مبرر التدخل من أجل حماية "الأقليات" ومساعدتهم وتقديم الدعم لهم تحت غطاء حقوق الإنسان. كما أن تطور منظومة العلاقات الدولية فى فترة ما بعد الحرب تضمن توسيع نطاق التدخل العسكرى، إذ بات هناك حجج عديدة منها على سبيل المثال التدخل العسكرى لمساعدة دولة حليفة أو صديقة بموجب معاهدة أو اتفاقية دفاعية مشتركة، أو التدخل العسكرى لحل نزاع داخلى أو دولى تلبية للدعوة الموجهة من قبل طرف شرعى وطنى فى الدولة، أو التدخل لحماية أرواح وممتلكات دولة محددة إذا ما تعرضت للتهديد من قبل دول أخرى، أما التدخل الأخير فهو لاعتبارات إنسانية من أجل حماية مواطنى دولة أو أقلية معينة قد تعرضت لاختراقات فى حقوق الإنسان.
ولعلنا لا نجادل إذا ما قلنا، إن التطبيق الفعلى لهذا المبدأ قد شابه الكثير من الاختلالات والتباينات، إذ كان التدخل العسكرى فى جميع القضايا الماضية مرتبط ولو بنسب متفاوتة بالمصالح المباشرة للقوى الدولية المعينة، وهنالك استفهام غريب مفاده: " لماذا تحولت القوات المتداخلة فى بعض الحالات إلى طرف فى الصراع"؟ وبهذا تحول هذا المبدأ إلى حجة للتدخل فى الشئون الداخلية للدول التى تشهد صراعا داخليا أو تمردا من قبل أقليات معينة، فضلا عن إشكالية شرعية التدخل وتجاهل دور الأمم المتحدة فى العديد من الحالات، مما أدى إلى مطالبة المجتمع الدولى التشديد على وضع ضوابط ومعايير متفق عليها، مع الالتزام بمبدأ عدم استخدام القوة العسكرية للحفاظ على سيادة الدولة المستقلة، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول تحت أى مسوغ . اذ استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية ومن يدور فى فلكها التدخل الإنسانى كأداة سياسية لتحقيق أهدافها، وفرض رؤيتها الخاصة ومعاييرها الذاتية المرتبطة بحماية مصالحها ، معتمدة على عناصر نجاح تدخلها، المتمثلة، أولا: بسرعة التنفيذ. وثانيا: انخفاض التكاليف المادية والبشرية،كما أصبح دور مجلس الأمن المسئول الرئيسى عن حفظ السلم والأمن الدوليين مقتصرا على إيجاد الشرعية القانونية لعملية التدخل، بما يوازى مصالح الدول الدائمة العضوية.
فهناك العديد من نماذج التدخل العسكرى الأمريكى على غرار التدخل فى كوسوفو، إذ لم تتوان الولايات المتحدة عن استخدام حلف شمال الأطلسى ( الناتو)، الدليل الواضح على وجود مصالح سياسية من وراء تدخله، وهى مصالح أمريكية بحتة، كونها الدولة المتزعمة للناتو، فعلى سبيل المثال، أعد ما يزيد على نصف مليون جندى، فضلا عن استخدام الأسلحة المتطورة من مئات الطائرات المقاتلة الحديثة الحاملة لأجهزة تصويب دقيقة لشن حرب جوية على يوغوسلافيا فى ربيع 1999 وقبل صدور قرار مجلس الأمن لإضفاء الشرعية الدولية على التدخل فى كوسوفو، إذ كان هذا التدخل ردا على أعمال التطهير العرقى للأقلية الألبانية التى قام بها الصرب فى إقليم" كوسوفو" داخل جمهورية صربيا. كماكشف النقاب فى 31 أغسطس 2004،عن انتهاء الحلف من تشكيل قوات عسكرية للتدخل السريع فى مناطق الصراعات والأزمات فى العالم قوامها (21–30) ألف جندى قادرة على الفتك، ومتفوقة تقنيا للرد على أى تهديد محتمل، وجاهزة للانتشار فى مدة وجيزة تتراوح من (5-30) يوما، وأن قوة الرد "للناتو" هذه أداة لتزويد الحلف بقدرات متميزة، وتشكل خط المواجهة الأول للمجموعة الأولى لمهمات التحالف، إذ ستتمكن هذه القوات من التوجه إلى أى مكان فى العالم، إذ أطلق على هذه القوات اسم "قوة رد الناتو" RNF". كما شكل الحلف ( فيلقا "كيميائيا، وبايولوجيا، وإشعاعيا، ونوويا) (CBRN)هذا الفيلق الدفاعى كان قادرا على الرد وبسرعة على أى هجوم كيميائى، أو بايولوجى، أو إشعاعى، أو نووى، وبالتنسيق مع قوة الرد السريع "للناتو".
كما أن مسارات التدخل العسكرى بعد الحرب الباردةقد كشفت عن مستوى التدخل العسكرى الإقليمى والدولى فى النزاعات الداخلية الإثنية مما زاد من تعقيدها وصعوبة إيجاد الحلول المناسبة لها، إذ لم يعد حل النزاع عملية سهلة نتيجة تعقد أطراف الصراعات الإثنية، وأسباب الصراع، واستراتيجيات أطراف الصراع سواء المنخرطة بصورة مباشرة فى النزاعات أو تدير الحرب بالوكالة، وهم غالبا ضد عملية إيجاد الحل، لأن استمرار هذه النزاعات أدى إلى تحولها إلى نزاعات اجتماعية مزمنة .
خلاصة القول: إن الدولة المتدخلة تحسم قرار تدخلها، من حيث توقيته وكيفيته، وفقا لحالة التوازن الدولى القائم بينها وبين القوى الأخرى أو لحماية مصالحها الاستراتيجية، ومنع حدوث أى تغيير من شأنه أن يؤثر على تلك المصالح بغض النظر عن حالة الدولة وطبيعة تكوينها المجتمعى. فضلا عن ذلك لم يعد "التدخل العسكرى" يعنى فقط غزوا شاملا بجيوش تقليدية، إذ تحول إلى شبكة معقدة من الأدوات تتراوح من الحرب بالوكالة والهجمات السيبرانية إلى الضربات بالطائرات بدون طيار والعقوبات الاقتصادية، وفى هذا السياق تختار القوى الكبرى المسار الذى يناسب أهدافها ويقلل من تكاليفها السياسية والبشرية، مع الاستمرار فى استخدام التهديد بالقوة التقليدية كبعد وخيار أخير أو ضامن لكل الخيارات الأخرى. وهذا التحول جعل الصراعات أكثر استمرارية وأقل وضوحا، ولكنها لا تقل تدميرا ولا تكون بديلا عن التدخلات التقليدية.