لعلنا لا نجادل فى تثبيت أسس الحقائق، إذا ما قلنا: يعد مفهوم الحرب اللامتماثلة من المفاهيم الحديثة نسبيا التى دخلت إلى قواميس القادة العسكريين والمخططين الاستراتيجيين، وقد بدأ التداول به فى نهاية العقد الأخير من القرن العشرين، وتحديدا عندما بدأ المعنيون بحماية الأمن القومى الأمريكى عقب زوال الاتحاد السوفيتى بإعادة النظر فى سياساتهم العسكرية الدفاعية، وتقييم المخاطر والتهديدات التى تواجه الولايات المتحدة الأمريكية، وكان من بين ما توصلوا إليه بهذا الخصوص بعد نقاشات مستفيضة، هو أن زوال الاتحاد السوفيتى قد أفضى إلى ظهور حقائق جديدة على الساحة الدولية،أهمها أن أى دولة من دول العالم اليوم لا تملك القدرة التى تؤهلها للدخول فى مواجهة تقليدية مع الولايات المتحدة الأمريكية بحكم التفوق الواضح لقواتها، بيد أن هناك مخاطر حادة تتعرض لها الولايات المتحدة وأمنها القومى جرّاء التطورات التى بدأت تتسارع على الساحة العالمية، وأخطرها ظاهرة الإرهاب المعولم الذى لم يعد يرتبط بأعمال عنف محدودة، وتعمقت الارتباطات بين منظماته، وتوسع نشاط عناصره فى كل المناطق، وبدأت أفكاره بالتغلغل إلى مجموعات من الناقمين، والساخطين، والمحبطين، والشاردين، والمتضررين من الدور الذى تلعبه الولايات المتحدة فى مختلف مناطق العالم، أو إلى أفراد يبحثون عن الإثارة والمغامرة لإرضاء نزعات سادية لديهم. ناهيك عن أن العولمة وثورة التكنولوجيا قد أدت إلى إتاحة وسائل جديدة لعملياته بحيث أصبح هناك تهديد جديد يطرح فى مجمله مخاطر الحروب التى قد تتعرض لها الولايات المتحدة أطلقوا عليها(الحرب اللامتماثلة). إذ يتسم هذا النوع من الحروب بعدد من الخصائص تميزها عن الحرب التقليدية سواء من حيث الأهداف والوسائل والأدوات، أو من حيث مسرح العمليات والفترة الزمنية للحرب. ففى الحروب التقليدية عادة ما يكون الهدف الأساسى لطرفى الحرب هو الحسم العسكرى عبر تدمير العدو وضرب مراكز قوته العسكرية والاقتصادية وإجباره على تبنى مواقف كان يرفضها قبل الحرب، بيد أن تحقيق مثل هذا الهدف فى الحروب اللامتماثلة يبدو مهمة صعبة للغاية، فالطرف الضعيف من جهته لا يستطيع تحقيق النصر العسكرى لافتقاده لعوامل القوة المادية التى تؤهله لفعل ذلك، ومن ثم يصبح هدفه الأساسى هو الحسم السياسى وليس النصر العسكري.
علاوة على ما تقدم، فى الحروب التقليدية يلجأ المتحاربون إلى وسائل وأدوات معروفة، مثل الأسلحة التقليدية أو غير التقليدية بمختلف أنواعها، وتتم المواجهة عادة عن طريق وحدات عسكرية كبيرة تتمركز فى نقاط ومواقع محددة، لكن الوضع يختلف فى الحروب اللامتماثلة، إذ تتعدد فيها الوسائل والأدوات المستخدمة لتشمل تلك المشار إليها وأخرى غيرها، مثل الوسائل الأمنية، والاقتصادية، والفكرية، ويصل الأمر فى هذا النوع الجديد من الحروب أحيانا إلى لجوء الطرف الضعيف إلى استخدام وسائل غاية فى التطور التكنولوجى أو إلى أدوات بدائية، وكل ذلك طبعا بهدف توفير أفضل الظروف لنجاح الهجوم.
فضلا عما تقدم، ففى الحروب التقليدية يكون ميدان المعركة ومواقع المواجهة معروفة، وضمن أُطُر ومساحات جغرافية محددة. بيد أن الوضع يختلف تماما فى الحروب اللامتماثلة حيث لا يكون هناك ميدان يتقابل فيه المتحاربون أمام بعضهم مواجهة، وإنما يكون مسرح العمليات فى مثل هذا النوع من الحروب مفتوحا وغير محددٍ بمساحة جغرافية معينة. كما أن الحروب التقليدية لا تستغرق فترة زمنية مفتوحة بل تحسم نتائجها فى الغالب بسرعة أو خلال مدة زمنية معينة قد تتراوح ما بين القصيرة والمتوسطة، بعكس ما هو عليه الحال فى الحروب اللامتماثلة التى تستمر فى العادة لعقود طويلة من الزمن، بل إن بعضها أبدي، وأبرز الأمثلة على ذلك الحرب الدولية ضد الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، إذ ترفض الأخيرة تحديد الفترة اللازمة للحرب وتقول إن هذه الحرب لانهائية.
هذا النوع من الحروب (اللامتماثلة) وفق رؤية الولايات المتحدة وتطلعاتها ونزعتها نحو السيطرة على مقدرات الدول والشعوب، فقد رأت أنها يمكن أن تستخدمها من منطلق الحرب الاستباقية أو الوقائية ضد الدول أو الأنظمة التى تسير فى أفلاك القوى المضادة أو المنافسة، لذلك بدأت بشن هذه الحروب لزعزعة استقرار الدول دون حاجة إلى إعلان الحرب عليها مباشرة تحت ذرائع ومسوغات الحرب على الإرهاب، كون قضية الإرهاب اليوم تشغل العالم لما تخلفه من آثار على منظومة علائق المجتمع بأفراده ومؤسساته بحيث تعددت أشكاله وتنوعت دوافعه, فضلا عن ممارسات الدول التى تستخدمه أو تشجع عليه واختلاف مصالح الدول, ومحاولة كل مجموعة فرض وجهة نظرها استنادا إلى خلفيات تاريخية أو سياسية, كما أن الدول، إذ لم تتفق فيما بينها على تحديد مفهوم واحد للإرهاب, فما يعد إرهابا عند البعض يعد دفاعا عند البعض الآخر, وهكذا غابت المعطيات واختلفت المفاهيم وزاد العنف وزاد التمرد، وليس هذا فقط بل شملت آثار الإرهاب إيجاد حالة من التوتر لمنظومة العلاقات الدولية وإثارة النزاعات والتدخلات، واحتلال الدول، وقصف بؤر الإرهاب وهذا الانشغال محصلته وضحاياها الإنسان وانتهاك منظومة حقوقة المعترف بها بموجب الشرعية الدولية لحقوق الإنسان. لقد أحدثت ظاهرة الإرهاب تطورات وتحولات نوعية فى النظام الدولى لا سيما عقب هجمات 11 سبتمبر 2001 على مراكز فى العمق الأمريكي, كان الرئيس الأمريكى الأسبق جورج دبليو بوش أعلن الحرب على الإرهاب عقب تلك الهجمات الإرهابية وبدون تحديد ماهية ذلك الإرهاب. فهى من جانب وفرت غطاء للشرعية السياسية للدور المهيمن والمسيطر للولايات المتحدة الأمريكية عالميا, كما أتاحت الإطار المطلوب لتعميق وتوحيد المشاعر الأوروبية والحليفة نحو التمركز حول الولايات المتحدة وتعضيد توجهها العام لمقاومة الإرهاب باعتباره العدو المشترك الأخطر للعرب ككل. وقريبا من هذا المعنى يتبنى رالف كوسا رؤية متميزة لأحداث 11 سبتمبر 2001 باعتبار أنها دعمت وفتحت الباب أمام الدور والقيادة والهيمنة للولايات المتحدة فى النظام العالمى الجديد عن طريق: خلق فرصة لعلاقات أمريكية متميزة بشكل جوهرى مع كل من روسيا والصين. كما أنها زودت اليابان بحافز والتمست لها عذرا لاتخاذ خطوات أساسية وشريك أمنى متساوٍ. كذلك مد نطاق تأثيرها على امتداد شبه الجزيرة الكورية وتطورات الأحداث فيها.
خلاصة القول، الحرب اللامتماثلة أو غير المتكافئة هى صراع بين طرفين تختلف قوتهما العسكرية وقدراتهما بشكل كبير. يلجأ فيها الطرف الأضعف إلى استخدام تكتيكات غير تقليدية لاستغلال نقاط ضعف الخصم الأقوى وتحييد تفوقه. كما يُطلق على هذا النوع من الحروب أيضا مصطلحات أخرى، مثل "حرب الجيل الرابع"، أو "الحرب غير المقيدة"، أو "الحرب اللامتناظرة". وقد برز هذا المفهوم بشكل كبير فى النقاشات العسكرية والاستراتيجية، لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث وجدت جيوش نظامية نفسها فى مواجهة فواعل من غير الدول. ومن الأمثلة التاريخية على ذلك حرب الاستقلال الأمريكية وحركات المقاومة المختلفة خلال الحرب العالمية الثانية، وهذا النوع من الحروب لن يتم الاستغناء عنه حتى لو دخلنا "حروب الجيل ما بعد العاشر"، كونه يعد من تكتيكات حروب الماضى والحاضر وحتى المستقبل.