مقالات رأى

السياسة الخارجية المصرية..الاستقلالية فى عالم مضطرب

طباعة

إن السياسة الخارجية لأى دولة هى انعكاس مباشر لاستراتيجيتها القومية وقدرتها على التكيف مع التحولات الدولية، وتحاول الدولة إدارة علاقاتها الخارجية بشكل يضمن لها تحقيق أقصى قدر من المصالح الوطنية وسط بيئة دولية معقدة وسريعة التغير، وفى السنوات الأخيرة اتسمت السياسة الخارجية المصرية بانتقاء الأولويات ومحاولة تحقيق التوازن فى علاقاتها الدولية، خاصة فى ظل صعود قوى دولية جديدة تسعى إلى تقليص هيمنة القطب الواحد.

وفى هذا السياق، برزت ملامح توجه مصرى قائم على الاستقلالية وتحمل المسئولية الكاملة عن القرارات، مع الالتزام بمبدأ التعامل بالمثل فى مواجهة الضغوط الخارجية، بما يعكس التحول النوعي من القيادة السياسية فى سلوك القاهرة السياسى والدبلوماسى.

المحور الأول.. الاستقلالية كمنهج لتفسير السياسة الخارجية المصرية:

السياسة الخارجية المصرية لم تعد أسيرة الضغوط أو التوجيهات الخارجية، بل صارت أكثر ميلا لاتخاذ قرارات جريئة تستند إلى المصلحة القومية المباشرة، فقد ظهر بوضوح أن القاهرة تتعامل مع التحديات الإقليمية باعتبارها مسئولية سيادية خالصة، بعيدا عن انتظار دعم خارجى، وهو ما يفسر تفضيلها الواضح للاستقلالية فى القرارات الكبرى. هذا التحول يجعل مصر طرفا فاعلا لا مجرد متلقٍ لقرارات القوى الكبرى، ويؤكد أن الدولة باتت ترسم مواقفها وفقا لأولوياتها، حتى لو تعارضت أحيانا مع مصالح أطراف دولية مؤثرة.

المحور الثاني- مصر ترفض الانصياع.. لا لتهجير الفلسطينيين ولا لتفريغ سيناء:

جسد الموقف المصرى من أزمة غزة صورة واضحة لهذا النهج، حيث رفضت القاهرة بشكل قاطع أى طرح يهدف إلى تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، معتبرة ذلك خطًا أحمر لا يقبل النقاش لما يمثله من تهديد مباشر للأمن القومى. وعلى الرغم من الضغوط الدولية، تمسكت مصر بموقفها، بل عززته بدور إنسانى فاعل عبر تسيير عمليات إنزال جوى للمساعدات الإنسانية إلى غزة رغم المخاطر، كما أكدت القاهرة موقفها الثابت من دعم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، فى توافق جزئى مع الطرح الأوروبى، خاصة تصريحات الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون بشأن حل الدولتين. بهذا الموقف أرسلت مصر رسالة واضحة بأنها تتحمل مسئولية قراراتها السيادية، ولا تسمح بفرض حلول خارجية تتناقض مع أمنها القومى.

المحور الثالث- الغياب المدروس عن واشنطن:

فى وقت اعتادت فيه معظم العواصم على اعتبار واشنطن المحطة الأساسية فى توجيه سياستها، اتخذت مصر خيارا مختلفا، عكس رؤية جديدة قائمة على أن العلاقات مع واشنطن يجب أن تبنى على المصالح المتبادلة لا على المجاملات السياسية. مصر لم تعد تنتظر "الضوء الأخضر" فى قراراتها، بل أصبحت تحدد مواقفها بما يتوافق مع رؤيتها الوطنية، وهو ما يؤكد نهجها الاستقلالى حتى فى مواجهة ضغوط الحليف التقليدى.

المحور الرابع- التقارب المصرى-الصينى.. لعبة التوازنات الكبرى:

مع تصاعد التوتر بين واشنطن وبكين، حرصت مصر على تبنى سياسة متوازنة، لكن مع ميل نحو تعميق التعاون مع الصين فى مجالات استراتيجية، مثل البنية التحتية، والتكنولوجيا، والطاقة. هذا الانفتاح لا يعكس قطيعة مع الولايات المتحدة، بل تأكيد على أن القاهرة تبحث عن تنويع الشركاء وخلق بدائل استراتيجية. السياسة هنا تقوم على مبدأ حساب الفرص والمخاطر بدقة، والتصرف وفق ما يخدم المصلحة القومية، بعيدا عن الولاءات الثابتة أو الانحيازات المطلقة.

المحور الخامس- التعامل بالمثل مع الغرب.. من غزة إلى لندن:

جانب آخر من السياسة المصرية الحديثة هو الالتزام بمبدأ التعامل بالمثل، وهو ما تجسد فى عدة مواقف. فعلى سبيل المثال، وبعدما تعرضت السفارة المصرية فى لندن لقيود أمنية معقدة أمام مقرها، قررت القاهرة إزالة الحواجز الأمنية الموضوعة أمام السفارة البريطانية فى القاهرة، وهو ما دفع الأخيرة إلى إغلاق أبوابها الرئيسية لبعض الوقت، هذه الخطوة عكست رسالة واضحة بأن مصر لا تقبل سياسة الكيل بمكيالين، وأن علاقاتها مع الغرب تقوم على الاحترام المتبادل والمساواة. بهذا النهج تؤكد مصر أنها لا تسعى إلى التصعيد، لكنها لن تتهاون فى حماية مكانتها الدبلوماسية وصورتها السيادية أمام العالم.

المحور السادس- واقعية بلا عداء.. مصر الفاعلة لا المتلقية:

السياسة الخارجية المصرية الجديدة لا تقوم على العداء، بل على الواقعية، فعلاقات القاهرة مع واشنطن لا تزال تحتفظ بقدر من التعاون فى ملفات أساسية، مثل مكافحة الإرهاب، وتأمين الملاحة فى قناة السويس، واستقرار البحر الأحمر. لكن فى الوقت نفسه، وسّعت مصر من مساحة الاستقلالية فى قراراتها، لتصبح فاعلا رئيسيا يرسم مساره وفقا لأولوياته الوطنية.
لم تعد القاهرة تكتفى بردود الأفعال أو انتظار مواقف القوى الكبرى، بل اختارت أن تكون صاحبة القرار، وتتحمل مسئولية تبعاته، فى توجه يعكس تحولا استراتيجيا فى دورها الإقليمى والدولى.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    شيماء كمال الدين

    شيماء كمال الدين

    باحثة فى العلوم السياسية