عاد الملف النووي الإيراني ليتصدر مجددًا واجهة الاهتمام الدولي عقب تفعيل الترويكا الأوروبية آلية الزناد في 29 أغسطس 2025. وفي ظل ما أفرزته حرب الاثنى عشر يومًا من تعقيدات إضافية على المشهد فى الشرق الأوسط، ومع تنامي المخاوف الأمنية والفنية نتيجة الضربات العسكرية التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية، تتواتر من فيينا مؤشرات على أن فرص التوصل إلى اتفاق بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية باتت مرتفعة أكثر من أي وقت مضى.
ورغم تأكيد المدير العام للوكالة، رافائيل غروسي، خلال الأيام الأخيرة على إحراز تقدم ملموس في المحادثات مع طهران، بل وترجيحه إمكانية التوصل إلى اتفاق خلال الأيام المقبلة، إلا أن التطور الأبرز يظل متمثلًا في نقل إدارة الملف النووي من وزارة الخارجية الإيرانية إلى المجلس الأعلى للأمن القومي. هذا التحول، مع تعيين علي لاريجاني - ذي التوجه المتشدد- أمينًا عامًا للمجلس، يعني عمليًا تغيير رأس الفريق المفاوض، الأمر الذي قد يرسم مسارًا جديدًا في علاقة إيران بالوكالة الدولية، ويؤثر في شكل المباحثات المقبلة مع الغرب.
الإدارة الأمنية للملف النووي الإيراني بعد حرب الاثنى عشر يومًا:
بعد انتهاء حرب الاثني عشر يومًا، بدأت بوادر الدخان الأبيض لترسيم مصير البرنامج النووي الإيراني، أولها تمثل في سياسة الغرب للضغط الأقصى التي أفضت إلى تفعيل آلية الزناد، بينما جاء المؤشر الثاني من الداخل الإيراني عبر تغييرات هيكلية بارزة، بدءًا من تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وصولًا إلى تصدر علي لاريجاني لمشهد الدبلوماسية النووية كقائد جديد للسفينة، ومع استمرار المماطلة بشأن الانسحاب من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية(NPT) فإن هذه التحولات تحمل آثارًا سياسية واستراتيجية واضحة على مستقبل الملف النووي الإيراني. خاصة أن إعلان المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني (شعام) عن تأسيس مجلس الدفاع تحت إشراف الرئيس مسعود پزشكيان، بهدف مراجعة البرامج الدفاعية بشكل مركز وتعزيز قدرات القوات المسلحة. بالتزامن مع تعيين قائد الثورة الإسلامية، آية الله علي خامنئي، مستشاره ورئيس البرلمان السابق علي لاريجاني أمينًا عامًا لشعام وممثله في المجلس، خلفًا لعلي أكبر أحمديان. يشير إلى أن القيادة الإيرانية ترغب -من خلال هذا التغيير- في إدماج الساسة أصحاب الخبرة ضمن دائرة اتخاذ القرار، وهي رغبة ازدادت بعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل، خصوصًا في ظل فقدان عدد كبير من القادة العسكريين البارزين وتعرض البرنامج النووي لاستهداف مباشر من الولايات المتحدة. كما يمكن قراءة تعيين لاريجاني كإشارة تصالحية على المستويين الداخلي والخارجي. والدليل على ذلك، هو ترحيب الأوساط البراجماتية والإصلاحية بالخطوة، معربة عن أملها في أن تمهد لمرحلة أكثر اعتدالًا وتوافقًا في السياسة الخارجية.
وبحسب ما تتداوله الدوائر المعتدلة الإيرانية -وكما نقلت صحيفة اعتماد في لقاء صحفي بعنوان "فرود وفراز علي لاريجاني" أي "نقاط القوة والضعف لعلي لاريجاني"-، فإن خبرة لاريجاني الدبلوماسية ونهجه العملي قد يساهمان في تقليص نفوذ سعيد جليلي داخل شعام، وإحداث تغيير ملموس في النهج الدبلوماسي للملف النووي، بل وتصحيح مسار المفاوضات التي أدت إلى انقسام حاد بين المتشددين والإصلاحيين. ولهذا، جاء نقل إدارة الملف النووي من وزارة الخارجية الإيرانية إلى المجلس الأعلى للأمن القومي خطوة ضرورية في ظل تصاعد تهديدات العقوبات الأممية المرتقبة.
ويكشف هذا القرار إدراك القيادة الإيرانية أن خياراتها السياسية لتطوير برنامجها النووي قد تؤدي إلى غضب أوروبي يعيد البلاد إلى عزلة دولية جديدة. ومن ثم رأت بعد التداعيات الأمنية لحرب الاثني عشر يومًا، أن الظروف الراهنة تستدعي تسريع آليات صنع القرار في حالات الطوارئ وتعزيز الجاهزية لمواجهة سيناريوهات سياسية وأمنية معقدة.
في المقابل أعربت بعض الأوساط المتشددة عن قلقها إزاء هذه التطورات، محذرة من أن الانفتاح على التفاوض أو الاستجابة لضغوط الإصلاحيين قد يعرض البلاد لهجوم عسكري جديد، ويخل بتوازن القوى في قمة هرم السلطة الإيرانية. واعتبرت هذه الأوساط أن الميل نحو التصالح مع الغرب كان سببًا مباشرًا في الهجمات الإسرائيلية والأمريكية الأخيرة على إيران، في وقت كانت فيه الأخيرة تستعد لجولة خامسة من المفاوضات غير المباشرة مع واشنطن.
دور الوساطة المصرية في الملف النووي الإيراني:
خلال الأشهر الأخيرة، كثفت مصر تحركاتها الدبلوماسية لتلعب دورًا محوريًا في الوساطة لحل الأزمة النووية الإيرانية. هذه الجهود، التي يقودها وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، الذي أجرى في الأسابيع الماضية سلسلة اتصالات مع أطراف رئيسية في الملف النووي الإيراني، من بينهم وزير خارجية إيران عباس عراقجي، والمبعوث الأمريكي في الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي، إضافة إلى وزراء خارجية الدول الأوروبية الثلاث(E3) وسلطنة عمان. ووفقًا لبيانات وزارة الخارجية المصرية، جاءت هذه الاتصالات بتوجيه من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وتهدف هذه التحركات الدبلوماسية إلى منع تصعيد التوترات وتعزيز الاستقرار الإقليمي، كما تعكس إصرار القاهرة على إعادة المفاوضات النووية إلى المسار الدبلوماسي.
ورغم أن مصر سبق أن لعبت دور الوسيط في المفاوضات غير المباشرة بين حماس وإسرائيل، فإن انخراطها في الملف النووي الإيراني يُعد سابقة خلال العقود الأربعة الأخيرة. وقد تصاعدت هذه الجهود منذ يونيو 2025، بالتزامن مع الزيارة المتزامنة لغروسي وعراقجي إلى القاهرة، حيث جرت مباحثات حول آخر مستجدات البرنامج النووي الإيراني. وفي 9 سبتمبر 2025، استقبل وزير الخارجية المصري نظيره الإيراني عباس عراقجي، مؤكدًا أن إيران تعاملت بمسئولية تجاه برنامجها النووي، وأن مصر مستعدة لدفع العلاقة بين طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى الأمام.
في المقابل ترى الدوائر الدبلوماسية الإيرانية، وكما نقل الموقع الإيراني "الدبلوماسية الإيرانية" في صدر تقريره "نقش میانجیگری مصر در مذاکرات هستهای ایران" وتعني "دور وساطة مصر في المفاوضات النووية الإيرانية"، أن مصر تسعى إلى الحيلولة دون اندلاع حرب إقليمية جديدة قد تترك تداعيات سلبية على أمن واقتصاد المنطقة. ولهذا توظف القاهرة علاقاتها المتوازنة مع مختلف الأطراف لتفعيل القنوات الدبلوماسية. وتأتي هذه التحركات بلا شك ضمن هدف أوسع يشمل منع التصعيد العسكري مع إسرائيل، ودعم الاستقرار الإقليمي، والسعي نحو تحقيق وقف إطلاق نار في غزة، والمساهمة في إعادة إعمارها، إضافة إلى الدفع باتجاه إقامة شرق أوسط خالٍ من السلاح النووي.
ويربط بعض المراقبين بين دور مصر كوسيط غير مباشر ومصالحها المباشرة، إذ إن تجنب مواجهة جديدة مع إيران لا يعزز فقط استقرار المنطقة، بل يدعم أيضًا المكاسب الاقتصادية لمصر، مثل زيادة التبادل السياحي وعقود النفط طويلة الأجل مع طهران. كما أن استعادة الاستقرار الإقليمي من شأنه أن يضمن عودة حركة الملاحة في قناة السويس إلى طبيعتها بعد الاضطرابات الإقليمية الأخيرة.
المقامرة الأوروبية على البرنامج النووي الإيراني:
بعد تفعيل آلية الزناد، ستواجه أوروبا خلال الأسابيع المقبلة تحديًا مهمًا لتتويج جهودها الطويلة في إدارة البرنامج النووي الإيراني. ففي 18 أكتوبر 2025، تنتهي الصلاحية القانونية لبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا لتفعيل آلية سناب باك بشكل أحادي، مما يعني فقدان آخر أداة قانونية متبقية للضغط على إيران. وستكون نتيجة هذا المسار حاسمة، إذ ستحدد ما إذا كانت إيران ستظل ضمن إطار معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية(NPT)، أم إنها ستتجه نحو العزلة والمواجهة، بما يترك تداعيات تتجاوز الشرق الأوسط.
ومع تهديدات إيران بالتحرك الحاسم وطرح البرلمان الإيراني خطة عاجلة لدراسة الانسحاب من معاهدةNPT، إلا أن هناك انقسامات عميقة داخل النظام الإيراني. فالرئيس الإصلاحي بزشكيان اقترح وقف تخصيب اليورانيوم مقابل تخفيف العقوبات، بينما يرى المتشددون أن التخصيب يمثل آخر ورقة تفاوضية بيد طهران في مواجهة الولايات المتحدة. ويعتبر الإصلاحيون أن العزلة المتفاقمة تمثل تهديدًا جديًا لبقاء الدولة.
ويبدو أن هذه الانقسامات تعكس القلق الاستراتيجي لإيران؛ فمن جهة خسارة مخزون اليورانيوم المخصب بنسبة 60% تعني فقدان أداة ضغط في المفاوضات مع واشنطن، ومن جهة أخرى فإن الكشف عن مواقع تخزين اليورانيوم قد يعرض البلاد لهجمات إضافية من إسرائيل أو الولايات المتحدة. وحتى قبول تمديد المهلة يُعتبر اعترافًا بآلية تراها إيران غير قانونية.
تداعيات آلية الزناد على مستقبل التفاوض النووي:
إن تفعيل آلية الزناد واقتراب انتهاء المهلة المقررة لعودة عقوبات مجلس الأمن، المتمثلة في حظر بيع السلاح والقيود المتعلقة بالصواريخ الباليستية، وتمرير العقوبات المالية إلى التنفيذ، سيشكل أقسى ضربة للبرنامجين النووي والصاروخي الإيرانيين. ومع ذلك فإن التأثير الرمزي والنفسي لإدانة صادرة عن الأمم المتحدة قد يفوق الأثر المادي للعقوبات، خاصة أن تنفيذ العقوبات سابقًا كان متباينًا، حيث سمحت الولايات المتحدة باستمرار تصدير 1,5 مليون برميل يوميًا من النفط الإيراني إلى الصين، واستمرار صادرات الكهرباء إلى العراق، دون اتخاذ إجراءات صارمة.
ولذا، يثير هذا السجل شكوكًا كبيرة حول مدى فعالية ضغوط أوروبا عبر آلية الزناد، فقد أصبحت إيران أكثر خبرة في الالتفاف على العقوبات بالاعتماد على الصين كمشتري رئيسي، وعلى قنوات مالية بديلة، إضافة إلى التجارة الإقليمية. وبالتالي، فإن تأثير الآلية سيتوقف بدرجة كبيرة على قدرة أوروبا والولايات المتحدة في تنفيذ العقوبات بشكل صارم ومنسق.
غير أن رسم خريطة طريق تدريجية يعد المسار الضيق الوحيد. فبدلاً من المطالبة بالشفافية الكاملة والوصول الفوري إلى المنشآت، وهو ما ترفضه طهران سياسيًا، يمكن لأوروبا أن تقترح خطوات تدريجية. وفق هذا النهج، تعمل الترويكا الأوروبية داخل مجلس الأمن بالتنسيق مع واشنطن لكسب الوقت، بينما تقوم إيران بخطوات محدودة وقابلة للتراجع، مثل إعادة بعض أشكال الرقابة الجزئية للوكالة الدولية للطاقة الذرية. أما قضية مخزون اليورانيوم المخصب بنسبة 60% فتُرحل إلى مراحل لاحقة، بما يتيح للطرفين الاحتفاظ بأوراق الضغط، ويأخذ في الاعتبار حسابات طهران بشأن استحالة التنفيذ الفوري.
وتعكس هذه الخطة التدريجية التحديات الأساسية المتعلقة بالعقوبات، أي الموازنة بين مطلب إيران بالحصول على ضمانات أمريكية، واحتياجات أوروبا للتحقق من قدرة إيران النووية، وحدود قوة العقوبات في إطار آلية الزناد. وبدون هذا الحل الوسط، فإن النتيجة المرجحة ستكون مزيدًا من التصعيد، بحيث تدفع العقوبات إيران إلى الانسحاب من معاهدةNPT.
ولهذا يمكن القول إن تنفيذ الترويكا الأوروبية للعقوبات قد يقابله خروج إيران من معاهدةNPT أو التمادي في زيادة مقدار اليورانيوم المخصب بنسبة 60% إلى مستوى يتجاوز إنتاج أكثر من عشر قنابل نووية، كما سبق وأعلنت الوكالة الدولية مؤخرًا، لتصبح بذلك ورقة ردع. وهذا بلا شك سيمثل اختبارًا لأوروبا في تحويل أدواتها القانونية إلى أدوات ضغط فعلية، خصوصًا وأن نجاح هذا المسار لن يتوقف فقط على تفعيل آلية سناب باك، بل أيضًا على تنفيذها بموثوقية وبالتنسيق مع واشنطن، مع تجاوز المعضلات الجيوسياسية وإدارة تحديات طهران. ومع ذلك، لا يمكن إغفال حذر إيران، إذ أن أي تمادي في تطوير برنامجها النووي قد يواجه ردعًا عسكريًا إسرائيليًا أمريكيًا، ولهذا قد تتعمد إيران المماطلة في التفاوض، مستغلة رغبة الوكالة في السير بالمسار الدبلوماسي حتى تنقضي قانونية آلية الزناد أحادية الجانب.
خاتمة
خلاصة القول، أن التحولات الجارية في إدارة الملف النووي الإيراني ليست مجرد خطوة إجرائية، بل تعكس إدراك طهران لمرحلة جديدة فرضتها نتائج الحرب مع إسرائيل وضغوط واشنطن. في المقابل، تسعى القاهرة نحو تعزيز مكانتها كوسيط إقليمي قادر على تحقيق التوازن وسط لعبة معقدة تتشابك فيها الحسابات النووية والأمنية والجيوسياسية، لكن يبقى مستقبل التفاوض مرهونًا بقدرة الأطراف على تجاوز الألغام الكبرى: من تهديد الأوروبيين بإعادة فرض العقوبات، إلى خلاف واشنطن وطهران حول جوهر التخصيب.
وبينما تتمسك إيران بحقها في البرنامج النووي السلمي، تتوجس الولايات المتحدة من اقترابها من العتبة النووية، في وقت تخشى فيه القاهرة من أن تؤدي مساعي إسرائيل لإفشال المسار الدبلوماسي الإقليمي إلى إجهاض فرص التهدئة.وهكذا، فإن غياب الحلول المبتكرة القادرة على كسر حالة الاستعصاء قد يدفع الشرق الأوسط إلى طريق مسدود جديد، عنوانه التصعيد لا التهدئة.