تحليلات

مصر بين الثبات والفاعلية الدولية..قراءة في خطاب الرئيس السيسي أمام قمة البريكس الاستثنائية

طباعة

 جاء خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسي أمام القمة الاستثنائية لتجمع البريكس يوم 8 سبتمبر 2025 ليشكّل حدثًا فارقًا في مسار السياسة المصرية، ليس فقط لكونه خطابًا دبلوماسيًا في محفل دولي، بل لأنه قدّم رؤية شاملة تتجاوز الظرف الآني لتضع مصر في قلب النقاش حول مستقبل النظام الدولي. ففي لحظة يتعرض فيها النظام العالمي لاختبار غير مسبوق –نتيجة تصاعد الصراعات الإقليمية، وانكشاف حدود المؤسسات الدولية التقليدية، وتزايد الاستقطاب بين قوى الشمال والجنوب– جاء خطاب القاهرة ليعلن بوضوح عن ثوابت مصرية راسخة، وفي الوقت نفسه يطرح تصورًا عمليًا لإصلاح الحوكمة العالمية وتعزيز التعددية الاقتصادية والسياسية. الخطاب قدّم مصر بوصفها دولة ثابتة داخليًا وفاعلة خارجيًا، وهو ما يستدعي مقاربة أكاديمية معمقة لفهم كيف يوظّف النظام السياسي المصري خطابه الدولي لتثبيت شرعيته داخليًا وتعزيز مكانته إقليميًا وعالميًا. وبالتالى سنسعى إلى تحليل خطاب الرئيس السيسي من خلال ثنائية الثبات والفاعلية الدولية، بما يعكس توازن النظام المصري بين الداخل والخارج، وبما يوضح كيف يساهم الخطاب السياسي في صياغة صورة الجمهورية الجديدة كفاعل، وذلك عبر ثلاث دوائر تحليلية متداخلة: الداخلية (إعادة إنتاج الشرعية الوطنية)، والإقليمية (مصر كفاعل موازن في الشرق الأوسط)، والدولية (الانخراط في نظام عالمي ما بعد الهيمنة) يسبقهم مدخل نظرى تحليلى.

 المحور النظري: الثبات والفاعلية الدولية، تُظهر أدبيات العلوم السياسية أن استقرار النظم السياسية لا يُقاس فقط بقدرتها على البقاء، وإنما بقدرتها على دمج المجتمع وتحقيق التنمية المستدامة (النموذج التنموي). في هذا السياق يبرز مفهوم الثبات السياسي باعتباره نتاجًا لعناصر ثلاثة: الشرعية، والقدرة المؤسسية، والاستقرار الاجتماعي. أما على المستوى الخارجي، فإن الفاعلية الدولية تُقاس ليس فقط بحجم القوة المادية، وإنما بمدى القدرة على التأثير في القرارات الدولية، وصياغة أجندة القضايا العالمية، وهو ما عُرف في الأدبيات الحديثة بمفهوم القوة الذكية. خطاب الرئيس السيسي في البريكس جاء متسقًا مع هذين البعدين: التأكيد على الثبات الداخلي من خلال إبراز نجاح الدولة المصرية في مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وفي بناء "الجمهورية الجديدة". إبراز الفاعلية الدولية عبر تقديم مصر كجسر بين الشمال والجنوب، وكصوت داعم لتعددية الأقطاب، دون الدخول في محاور صراعية مباشرة. البعد الداخلي – الخطاب كأداة لإعادة إنتاج الشرعية من منظور العلوم السياسية، تُعد الخطابات الرئاسية في المحافل الدولية أكثر من مجرد رسائل للخارج؛ فهي أيضًا أدوات لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع في الداخل. خطاب السيسي أمام قمة البريكس جسّد هذا الدور بامتياز، حيث قدّم مصر كدولة قادرة على الدفاع عن قضاياها ومصالحها الوطنية ضمن منظومة دولية معقدة. يتضح هنا التكامل بين الخطاب الخارجي ورؤية مصر 2030، التي تضع الاستقرار والتنمية في قلب مشروع الدولة. فعندما يؤكد الرئيس أن التوترات الجيوسياسية تعيق مسارات التنمية، فإنه يربط بشكل مباشر بين ما يجري في الخارج وما يعايشه الداخل المصري. وبهذا يصبح الخطاب أداة لتعزيز الثقة الشعبية في أن القيادة واعية بالتحديات الدولية وتعمل على مواجهتها بما يضمن حماية المصالح الوطنية. من زاوية أكاديمية، يمكن القول إن خطاب السيسي يوظف مفهوم "القوة الناعمة الداخلية" (Soft Power at Home)، حيث يعكس للعالم صورة دولة مستقرة وفاعلة، وفي الوقت نفسه يرسّخ لدى المواطن إحساسًا بأن مصر ليست على الهامش، بل في قلب التفاعلات الدولية. هذا البعد يعزز شرعية النظام داخليًا عبر خطاب خارجي متماسك. البعد الإقليمي – مصر كفاعل موازن في الشرق الأوسط القضية الفلسطينية احتلت موقع القلب في خطاب السيسي، مع رفضه القاطع لأي محاولات لتهجير الفلسطينيين. هذا الموقف لا يعبّر عن تضامن عاطفي فحسب، بل يجسد عقيدة استراتيجية مصرية تعتبر أن استقرار فلسطين شرط أساسي لاستقرار مصر والأمن القومي العربي. من هنا يمكن توظيف مفهوم "القوة الموازنة الإقليمية" (Regional Balancer): مصر ليست طرفًا مباشرًا في الصراع، لكنها تتحرك باستمرار لضبط توازنات القوى ومنع انزلاق المنطقة إلى فوضى شاملة. ففي الوقت الذي تتخذ فيه بعض القوى الإقليمية مواقف متطرفة أو أحادية، تقدّم مصر نفسها كوسيط عقلاني يمتلك أدوات الضغط السياسي والقدرة على التفاوض. الأهمية الأكاديمية لهذا الطرح أن مصر تستخدم القضية الفلسطينية كبوابة لإعادة شرعنة النظام الدولي ذاته. فحين يكشف السيسي عن ازدواجية المعايير الغربية، فإنه لا يدافع فقط عن فلسطين، بل يعيد طرح سؤال العدالة الدولية ككل. وبهذا تتحول القضية الفلسطينية إلى أداة استراتيجية بيد القاهرة لإعادة تشكيل النقاش العالمي حول الشرعية والقانون الدولي. إلى جانب ذلك يجسد خطاب السيسي دور مصر كـ"قوة وسيطة" (Mediating Power) قادرة على التواصل مع مختلف الأطراف – من الولايات المتحدة وإسرائيل إلى حركات المقاومة الفلسطينية – بما يعزز مكانتها كفاعل إقليمي محوري. هذا الدور يتسق مع التاريخ المصري منذ اتفاقية كامب ديفيد مرورًا باتفاق أوسلو، وصولًا إلى الوساطات المتكررة في غزة. البعد الدولي – نحو نظام عالمي ما بعد الهيمنة في البعد الدولي، حمل الخطاب رؤية أكثر جرأة؛ حيث انتقد الرئيس بوضوح ازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الدولية، معتبرًا أنها السبب الرئيسي في تآكل الثقة بمؤسسات النظام العالمي. هذا النقد ينسجم مع أطروحات النظريات ما بعد الاستعمارية (Post-Colonial Theories)، التي ترى أن النظام الدولي الحالي يعيد إنتاج مركزية الغرب على حساب الجنوب العالمي. إلى جانب ذلك، دعا السيسي إلى إصلاح مجلس الأمن الدولي، وهو مطلب تقليدي ظاهريًا، لكنه في سياق الخطاب جاء كجزء من مشروع "دمقرطة النظام الدولي". فالمسألة ليست مجرد توسيع مقاعد، بل إعادة هيكلة حقيقية تكسر احتكار القوى الكبرى لقرار السلم والحرب. كما طرح الرئيس رؤية اقتصادية جريئة عبر الدعوة إلى التعامل بالعملات المحلية داخل إطار البريكس، مما يفتح الباب أمام نظام مالي متعدد الأقطاب يحد من مركزية الدولار. هذه الدعوة تمثل تحركًا مصريًا متقدمًا للانخراط في الاستراتيجية العالمية الرامية إلى بناء استقلالية اقتصادية للدول النامية. المقارنة مع خطابات قادة البريكس الآخرين تكشف تميز الموقف المصري: فبينما ركزت روسيا والصين على التنافس الجيوسياسي مع الغرب، جاء خطاب السيسي ليطرح مقاربة جسرية (Bridge Diplomacy)، تقوم على النقد البنّاء والطرح العملي (إصلاح، وتنمية، وساطة). وبذلك يتموضع الدور المصري كجسر بين الشمال والجنوب، وبين القوى الكبرى والدول النامية، وهو ما يوسع نفوذ القاهرة في النظام الدولي الناشئ. هذا المزيج يجعل الخطاب المصري مختلفًا؛ فهو لا ينزلق إلى الصدام الأيديولوجي، ولا يقتصر على المطالب الاقتصادية، بل يقدم رؤية شاملة تجعل من مصر نموذجًا للتوازن والاعتدال الآمن والتنمية – المعادلة المصرية المستقلة إحدى أهم إضافات الخطاب تمثلت في الربط المباشر بين الأمن والتنمية. فالتوترات الإقليمية والدولية ليست مجرد أزمات سياسية، بل هي – بحسب الخطاب – عوائق أمام التنمية المستدامة. هذه الرؤية تعكس مفهوم "الأمن التنموي" (Developmental Security) الذي يضع مصر في موقع مختلف عن كثير من القوى الإقليمية التي تنظر للأمن بمعناه العسكري الضيق. هذا الطرح يعيد تعريف مفهوم الأمن القومي المصري في ضوء الأمن الإنساني (Human Security)، الذي يشمل الطاقة، والغذاء، والمياه، والتعليم، والصحة. ومن ثم فإن خطاب السيسي يفتح أفقًا جديدًا لمقاربة شاملة تجعل من التنمية شرطًا للأمن، والأمن ضمانة للتنمية.

ختاما، جاء خطاب الرئيس السيسي أمام قمة البريكس في سبتمبر 2025 بمثابة بيان سياسي شامل يربط بين الشرعية الداخلية، والدور الإقليمي، والانخراط الدولي. ومن خلال استدعاء القضية الفلسطينية، ونقد ازدواجية المعايير الدولية، والدعوة لإصلاح مجلس الأمن، وطرح بدائل اقتصادية عملية، قدّم السيسي رؤية مصرية متكاملة لعالم ما بعد الهيمنة. من منظور أكاديمي، يجسد الخطاب نموذجًا لدبلوماسية القوة الذكية التي تمزج بين الصلابة في الدفاع عن المصالح الوطنية والمرونة في بناء شراكات جديدة. كما يؤسس لمفهوم الدبلوماسية الجسرية، التي تجعل من مصر وسيطًا بين عوالم متنافرة، وفاعلًا قادرًا على إعادة تعريف قواعد اللعبة الدولية. إن دلالات هذا الخطاب تتجاوز اللحظة الراهنة لتشكل خارطة طريق مصرية نحو بناء نظام عالمي أكثر عدالة وتوازنًا. وبذلك تثبت القاهرة أنها ليست مجرد متلقٍ لقرارات النظام الدولي، بل صانعة فاعلة لها، وهو ما يعزز مكانتها كأحد الأعمدة الأساسية في معمار الأمن الإقليمي والعالمي في القرن الحادي والعشرين.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. هبة الحسينى

    د. هبة الحسينى

    مدرس العلوم السياسية-كلية اقتصاد وإدارة- جامعة ٦ أكتوبر