ظلّ اليهود شعبًا مثيرًا للجدل منذ آلاف السنين ، تحيط به هالة من الغموض والتساؤلات. فبين النصوص الدينية التي اعتبرت بني إسرائيل "شعب الله المختار"، والوقائع التاريخية التي كشفت عن تحولاتهم السياسية والاجتماعية عبر العصور تكشف خفايا كثيرة حول كيفية بناء هويتهم وكيف نجحوا في تحويل سردياتهم الدينية إلى أدوات سياسية واقتصادية وثقافية ما زالت تؤثر في العالم حتى اليوم.
فاليهود لم يكتفوا بكتابة تاريخهم في أسفار العهد القديم، بل استخدموا النصوص كأساس لرؤية سياسية وإجتماعية شكلت لاحقًا مرتكزًا لقيام المشروع الصهيوني. ففكرة "الأرض الموعودة" لم تكن مجرد تعبير ديني، بل تحولت إلى برنامج عملي للهيمنة والاستيطان، تجسّد في فلسطين مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
واللافت أن هذه الفكرة لم تبقَ مجرد وعد روحي، بل استُدعيت في الخطاب السياسي الصهيوني لتبرير التوسع والسيطرة. لقد نجح الزعماء اليهود في تسويق هذه الرؤية أمام العالم الغربي على أنها "عودة طبيعية للتاريخ"، بينما الحقيقة أنها كانت مشروعًا استعماريًا جديدًا امتد بجذوره إلى الأساطير القديمة. وهنا تتجلى واحدة من أكبر الخفايا وهي كيف تحولت الأسطورة الدينية إلى مشروع سياسي عالمي مدعوم بالقوة العسكرية والمال والدبلوماسية.
ولا يمكن فهم خفايا اليهود من دون التوقف عند دور المال والإعلام. فمنذ القرون الوسطى احترف اليهود التجارة والربا في أوروبا واستغلوا الثغرات الاقتصادية لفرض حضورهم حتى أصبحوا جزءًا لا يتجزأ من دوائر القرار المالي الغربي.
ومع القرن التاسع عشر والقرن العشرين صارت أسماء مثل "روتشيلد" و"باروخ" مرادفة للنفوذ المالي الهائل. هذه العائلات لم تكن مجرد ممولين، بل أصحاب قرار في مسار الحروب والسياسات الدولية. فالمال عند اليهود لم يكن مجرد وسيلة للعيش، بل أداة استراتيجية لبناء النفوذ العالمي.
أما الإعلام، فقد شكّل ذراعًا أخرى أكثر تأثيرًا. هوليوود التي أسسها مهاجرون يهود في الولايات المتحدة لم تكن مجرد صناعة للترفيه، بل مصنعًا لإعادة تشكيل الوعي العالمي. ومن خلالها صُوِّرت صورة العربي على أنه إرهابي أو بدوي متخلف، بينما تم تكريس صورة اليهودي باعتباره ضحية بريئة. ومع الوقت صار الإعلام الغربي–الذي يسيطر عليه رجال أعمال يهود–سلاحًا لتثبيت الرواية الصهيونية وتبرير ممارسات إسرائيل في فلسطين.
ومن هنا نؤكد أن اليهود أجادوا صناعة الأساطير المؤسسة لهويتهم. فـ"الخروج من مصر"، و"التيه في الصحراء"، و"المعابد الثلاثة" ليست مجرد قصص توراتية، بل أدوات نفسية وثقافية حافظت على تماسك الجماعة اليهودية في الشتات وربطت بين الدين والقومية والسياسة.
هذه الأساطير لم تبقَ حبيسة الكتب، بل تحولت إلى محركات فعلية للسياسة الصهيونية في العصر الحديث. فحين أقيمت دولة إسرائيل عام 1948 لم يكن الخطاب مقتصرًا على الحقوق السياسية، بل قُدِّمت الدولة للعالم على أنها "إحياء للوعد الإلهي"، وكأن التاريخ المقدس يتجسد من جديد.
إن أخطر ما في هذه الأساطير أنها نجحت في تحويل الخيال الديني إلى واقع سياسي يفرض نفسه بالسلاح والدبلوماسية وهو ما جعلها إحدى الركائز الأخطر في المشروع اليهودي عبر العصور. واستطاع اليهود من خلال المحارق الأوروبية (الهولوكوست) إلى التهجير القسري أن يحوّلوا مأساة الاضطهاد إلى أداة سياسية، فاستثمروا المظلومية التاريخية في الحصول على دعم غير مسبوق من القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة.
لكن الخفايا هنا تكمن في كيفية استثمار تلك المظلومية. فقد تحولت ذكرى المحرقة إلى مؤسسة قائمة بذاتها لها متاحف وجامعات وصناديق تمويل تُستخدم للتأثير في الرأي العام الغربي ولابتزاز الحكومات سياسيًا واقتصاديًا. وهكذا تحوّلت "المعاناة" إلى رأسمال سياسي منحهم شرعية مفتعلة لتأسيس كيانهم في قلب الشرق الأوسط.
والخفايا الكبرى تكمن في ازدواجية الخطاب اليهودي، ففي حين يرفعون شعار الدولة العلمانية الديمقراطية في الغرب يتمسكون في إسرائيل بخطاب ديني - قومي يقوم على التفوق والانعزال. وهذا التناقض يكشف عن براجماتية مذهلة حيث يوظَّف الدين متى اقتضت الحاجة ويُستبعد حين يصبح عائقًا أمام الاندماج أو النفوذ.
فنحن أمام مشهد مزدوج، يهودي في نيويورك يتحدث عن الحرية والليبرالية، بينما يهودي في تل أبيب يبرر الاستيطان باعتباره وصية إلهية. وهذه الازدواجية ليست صدفة، بل جزء من استراتيجية بقاء حيث يُستخدم كل خطاب بما يناسب البيئة المحيطة والمصالح المرجوة.
اليوم، يتجلى النفوذ اليهودي في مفاصل القرار الغربي بشكل واضح من خلال البنوك الكبرى إلى شركات التكنولوجيا العملاقة، ومن جماعات الضغط (مثل إيباك) إلى مقاعد الكونجرس الأمريكي نجد أن الصوت اليهودي حاضر بقوة، وأن الدفاع عن إسرائيل أصبح بندًا ثابتًا في السياسة الأمريكية والأوروبية. والأخطر أن أي صوت ناقد لإسرائيل في الغرب يُتهم تلقائيًا بمعاداة السامية وهو ما يجعل انتقاد سياسات الاحتلال محاطًا بحصار إعلامي وقانوني. وهذه بدورها إحدى الخفايا الأخطر، وهنا يأتي السؤال كيف استطاع اليهود تحويل تهمة "معاداة السامية" إلى سلاح سياسي يُخرس الأصوات المعارضة.
وأوضح من خلال هذا السياق، أن اليهود لم يكونوا يومًا مجرد جماعة دينية، بل مشروعًا تاريخيًا متكاملًا استطاع أن ينجو من الشتات والاضطهاد ويحوّل الذاكرة والأسطورة والدين إلى أدوات نفوذ سياسي واقتصادي وثقافي. والخفايا التي تحيط بهم ليست سوى انعكاس لذكاء استراتيجي في توظيف كل أوراق القوة المتاحة. لكن السؤال الذي يبقى مفتوحًا هو إلى أي مدى سيستمر هذا المشروع في الصمود أمام التحديات الجديدة خاصة في ظل تزايد وعي الشعوب وكشف الأقنعة عن كثير من الأساطير المؤسسة؟
ولم يكن الخطاب الصهيوني أيضاً مجرد إعادة إنتاج لنصوص توراتية قديمة، بل تم رفده بمشاريع فكرية وثقافية معاصرة. فقد ساهم مفكرون مثل تيودور هرتزل في صياغة الرؤية السياسية، بينما عمل آخرون على إعادة تأويل النصوص الدينية لتصبح "أساسًا قوميًّا" لا دينيًا فقط. ومن خلال الجامعات والمراكز البحثية التي أنشأها اليهود في أوروبا والولايات المتحدة جرى ضخ أفكار تُعيد تشكيل وعي الأجيال الجديدة، وتربط بين الهوية اليهودية ومشروع الدولة الحديثة. هذه المراكز لم تقتصر على الدراسات الدينية، بل امتدت إلى الفلسفة، علم الاجتماع، والدراسات السياسية والإعلام لتمنح المشروع الصهيوني غطاءً معرفيًا يوهم بأنه مشروع "تحرر قومي"، بينما هو في جوهره إعادة إنتاج للإستعمار الأوروبي بثوب توراتي.
كما لا يمكن إغفال أن فكرة "الأسطورة المؤسسة" ارتبطت دومًا بإزدواجية الخطاب الديني–السياسي عند اليهود. ففي حين يجري الحديث أمام الرأي العام العالمي عن "قيم الديمقراطية" و"حقوق الإنسان" تُستدعى النصوص التوراتية في الداخل الإسرائيلي لتبرير مصادرة الأرض وبناء المستوطنات. وهنا يتضح كيف أن اليهودية الدينية ليست مجرد عقيدة روحية، بل مخزون رمزي وسياسي يوظَّف حسب الحاجة. فالوعد الإلهي يُستدعى لتثبيت مشروعية السيطرة في فلسطين، بينما يتم إسقاطه في الغرب لتقديم صورة اليهودي كـ"مواطن ليبرالي" مندمج. هذه الإزدواجية الفكرية–الدينية هي واحدة من أبرز خفايا المشروع الصهيوني، إذ تجعل من الدين والسياسة وجهين لعملة واحدة تُستخدم بحسب الظرف والزمان.
ختاماً ، نشير إلي أن أخطر ما في هذه الأساطير أنها لا تبقى مجرد سرديات جامدة في الكتب، بل تتغلغل في وعي الأجيال عبر التعليم والمناهج المدرسية والإحتفالات القومية. فالأطفال في إسرائيل يدرَّسون منذ الصغر أن أرض فلسطين هي "أرض الميعاد"، وأن بناء المستوطنات هو استمرار لوصايا الآباء. وهكذا يتم تحويل الأسطورة إلى "حقيقة بديهية" داخل الوعي الجمعي بحيث يصبح النقاش حولها شبه مستحيل. ومع مرور الزمن تترسخ هذه الأساطير لتصبح مكونًا أساسيًا في هوية المجتمع اليهودي المعاصر وتتحول إلى وقود أيديولوجي يغذي المشروع السياسي والعسكري لإسرائيل.