تلعب الحسابات الاستراتيجية دورا فعالا ضمن محددات ومآلات الصراع الروسى- الأوكرانى، بل بالأكثر توازنات النظام الدولى والمرتقب إعادة تشكيله، وربما تم التعويل كثيرا على القمة، التى عُقدت ما بين الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ونظيره الروسى فلاديمير بوتين، فى تسوية الصراع الدائر، والوصول إلى حلول جذرية من شأنها إنهاء الحرب والتى قاربت على الأربعة أعوام، وذلك من قبل المراقبين من الأوساط السياسية والدبلوماسية كافة، رغم ميوعة التصريحات وعدم الحسم ولو بشكل مبدئى من قبل الأطراف الأصيلة والمنخرطة فى الحلحلة، ولعل التقارب الروسى-الأمريكى يأتى ضمن العوامل المؤثرة أو الدافعة فى تسوية الصراع الدائر ما بين موسكو وكييف، ذلك بالرغم من عدد من الملاحظات على هذا التقارب قد تدفع عكس الاتجاه، أهمها غياب الإرادة السياسية الحقيقية لدى الكبار لإنهاء الحرب الدائرة منذ ما يقرب من أربعة أعوام، سيما أن التواصل ما بين دونالد ترامب ونظيره الروسى برز واضحا منذ بداية العام ومع تقلد ترامب مقاليد الأمور، ورغم المفاوضات والمباحثات المتعددة، وتغير نبرات الرئيس الأمريكى تجاه مخاطبة بوتين، ما بين المهادنة وإعلان التحذيرات، إلا أن اللقاء الأخير مثل فرصة استراتيجية للرئيس الروسى من أجل تفنيد رؤيته وإيضاح مسببات الصراع، غير أن غياب الأرضية المشتركة أو حتى الحد الأدنى من التوافقات بين الأطراف المتصارعة لا يزال يدفع بالاتجاه المعاكس نفسه.
سياسات ترامب بين الهدف والعقيدة:
اختلف تعاطى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب مع مشهد الصراع الروسي-الأوكرانى، وبرزت سياساته معاكسة تماما لسياسات سابقه جو بايدن الرئيس الديمقراطى، ويبدو من المرجح انحياز أمريكى مبطن لروسيا، لم تعكسه التوافقات الشخصيات ما بين بوتين وترامب، أو اللقاءات الجافة والتى جمعت الرئيس الأمريكى وزيلينسكى، بقدر اختلالات الموزانات الدفاعية والمخصصات الأمريكية للصراع الروسي-الأوكرانى ما بين عهدى ترامب وبايدن، وربما اقتصرت المساعدات الأمريكية لأوكرانيا فى عهد ترامب على ما يقدمه الناتو مع تراجع ملحوظ ، فيما يقدم من الموازنات الأمريكية، وربما يصعب قراءة التفاهمات الأمريكية-الروسية الجارية، بعيدا عن مستهدفات الرئيس الأمريكى التقليدية والمتعلقة بالانكفاء على الداخل وتقليل النفقات الدفاعية والمساعدات الموجهة للخارج، غير أن اتجاهات ترامب ناحية عدد من الاعتبارات فى مقدمتها الرغبة المُلحة فى تشكيل عقيدته الخاصة على غرار أيزنهاور وريجان، ولعل الرئيس الأمريكى أراد انتهاج مقاربة ونموذج على العكس من سابقيه، كونه أراد إحداث التفاهمات والتقارب مع روسيا، فى اتجاه يعكس توجهات أمريكية مستحدثة تقتضى تقارب مع روسيا، وتعمد التعسف مع الصين -إن جاز التعبير- على خلفية سلسلة الخلافات كنتيجة لفرض الرسوم الأمريكية على بكين، ومن ثم أراد تغيير فى القناعات الأمريكية التقليدية والمتعلقة باعتبار موسكو القطب المنافس.
شكلت العلاقات الاقتصادية الهدف المحورى بالنسبة لترامب، جراء عودته أو رغبته فى إحداث التقارب مع بوتين، وبداية لشراكة استراتيجية، وبحسب تصريحات ترامب نفسه فإن بوتين يرغب هو الآخر فى إبرام الصفقات التجارية وأن روسيا تملك احتياطيات هائلة من المعادن النادرة، بالإضافة إلى الموارد الطبيعية القيمة، على الجانب الآخر برز الاهتمام المتبادل من قبل الطرفين جراء تنفيذ مشاريع اقتصادية واعدة بمجالى الطاقة واستكشاف الفضاء، تحديدا الاستفادة من المعادن النادرة([1]) كمرتكز وعنصر استراتيجى فى عدد من الصناعات الأمريكية المتطورة، وضمن أطر التنافس الجيوسياسى ما بين بكين وواشنطن، والتى تسعى إلى الاستعانة بموسكو لسد حاجتها، حيث لا تزال تعتمد على الصين فى مثل هذه النوعية من الواردات، وربما محاولات ترامب الاحتكاك بالصين ومساعى فرض نسب تذكر من التعريفات الجمركية عليها، يمكن استيعابه فى إطار اعتبار بكين المنافس الاقتصادى ومن ثم تجرى محاولات الرئيس الأمريكى لفك الترابط الروسى-الصينى، وتقويض التحالف الجيوسياسى أقصى الشرق، وإن كان يُصعب فك هذه النوعية من التحالفات على خلفية المصالح المشتركة والتوافقات الجيوسياسية المترابطة.
مستهدفات تحكم بوتين:
لا تزال السردية الروسية والتى ترتئى فى أوكرانيا امتدادا لروسيا الكبرى ثقافة، وتاريخ، وجذور، لا تزال تحكم قناعات بوتين، وكثيرا ما أشار فى خطاباته السياسية إلى كييف كونها روسيا الصغرى مستنهضا القوميين القدامى، فى استحضار لمعطيات القرن الثامن عشر، حينما تم ضم جنوب شرق أوكرانيا للإمبراطوية الروسية، وتسهيل استيطان الروس بهذه الأجزاء، ليصل تعدادهم نهايات القرن التاسع عشر 30%، متمركزين بالمدن الصناعية، بعدها وتحديدا عام 1917، عاصر دونباس مجموعة من التغيرات الصراعية الحادة بالتزامن مع صراعات البلاشفة، ومن ثم انضم إلى جمهورية أوكرانيا، لكن استمر الاهتمام الروسى بالإقليم حتى ستالين والذى حرص على إضفاء بعض التغييرات الديموغرافية، مع حملات استيطان شبه كاملة وما صاحبها من تغييرات تعلقت باللغة، والثقافة، والانتماء، حتى إن أقرب التعدادات والإحصاءات تشير إلى تصدر الروس من حيث العدد، وهنا يبرز العامل المشترك فى الاهتمام الروسى بالإقليم نفسه، ذلك على خلفية الأهمية الجيوسياسية لدونباس، كونه يحوى نسب تذكر من المعادن النادرة ومناجم الفحم، والأهم الممر الاستراتيجى والذى يسهل ربطه وشبه جزيرة القرم، بالإضافة إلى السيطرة على بحر آزوف عبر السيطرة على سواحل دونيستك،وزابورجيا، وخيرسون، وإن مثل بالإقليم نفسه لأوروبا البوابة لأمنها الشرقى، مما يعكس مزيدا من أهميته الاستراتيجية بالنسبة لموسكو، من ثم يصعب قبول روسيا لأية معادلات من شأنها التنازل عن دونيستك ولوجانسك، وهو ما يتفق مع بعض مما طرحه ترامب([2]).
إلا أن تهديدات القوقاز فى الجنوب الروسى، تعد الهاجس الأكبر للرئيس الروسى، خصوصا مع تزايد النعرات الانفصالية، مما يسهم فى تقويض الإمبراطورية الروسية والتى يسعى بوتين لتشييدها، حيث الشيشان، وكازاخستان، وآسيا الوسطى، وغيرها ممن تفكك واستقل، بالتالى تراجع بوتين أو تنازله عن مكتسباته العسكرية والسياسية فى صراعه مع أوكرانيا قد يدفع ناحية فتح شهية هذا الجنوب المُلغم ويؤشر على تراجع النفوذ الروسى، بالمقابل تمدد الناتو ناحيتها، وتقويض الشروع فى تشييد إمبراطوريتها، غير أن غياب الانتفاء الكامل لأسباب اندلاع الصراع الروسي-الأوكرانى وأبرزها محاولات أوكرانيا الانضمام للناتو، عُد فى مقدمة الدوافع تجاه استمرار هذا الصراع الدائر، وربما يمثل الداخل الروسى أيضا ضمن الحسابات الاستراتيجية للرئيس الروسى، وعاملا محوريا ضمن عوامل استمرار بوتين فى هذا الصراع، فإذا لم يتمكن من تحقيق المستهدفات السياسية والعسكرية، والأهم عودة النفوذ الروسى لما قبل أجواء الحرب الباردة بالتالى، سيسأل عن حجم المهدرات والانخراط الطويل وأكثر من 250 ألف مجند ما بين قتيل وجريح.
أوروبا بين الانزلاق ومحددات العودة:
اختلفت التوقعات تجاه انتهاج مفاهيم العلاقات الدولية سيما توازنات القوى، ودورها فى إحكام السيطرة على الصراعات، فكما أوضحنا تجاه قدرة التوازنات الاستراتيجية على لعب دور فعال فى ضبط إيقاع النظام الدولى مستقرا وبعيدا- قدر الإمكان- عن الصراعات، ذلك من خلال محاولات القوى الفاعلة ممثلة فى الدول والتحالفات، فى الاحتفاظ بالقدر الأكبر من الإمكانات والموارد على كافة المستويات لا سيما الاقتصادية والعسكرية، وحتى السياسية والثقافية، ومن ثم يتحقق التقارب أو التعادل التام بين الأطراف كافة، أو على الأقل التفاوت المعقول، وربما لم يتمكن القانون الدولى نفسه أو اللوائح لدى أكبر المؤسسات الدولية من حفظ النظام عند حالته المستقرة بقدر ما تمكنت توازنات القوى وانعكاساتها.
بالمقابل فإن أى اختلال فى التوازنات فيما بين الأطراف وبعضها، قد يحدث نوعا من الإمبريالة أو الهيمنة من قبل الجانب الأقوى، وبما يهدد الاستقرار المرجو للنظام الدولى وعناصره، ولعل التاريخ نفسه يعد شاهدا على خطورة الأوضاع الدولية وحجم الصراعات، فى ظل الهيمنة أو حتى السيطرة أحادية القطبية، ولا أدل على ذلك([3]) من مرحلة انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتى.
إلا أن استمرار الدعم الأوروبى لأوكرانيا مواجهة لروسيا لم يحدث أن حقق أية توازنات، بل أسهم فى مزيد من التصعيد ووصول الحرب عند هذه النقطة، والتى يصعب معها صياغة التسويات، وربما بموجب ميثاق الناتو فيُمنع دخول أوكرانيا الحلف، على خلفية انخراطها فى الصراعات الدائرة، أضف تجاهل ترامب لأوروبا فى معظم التسويات والتى لم تكتمل، وربما عرف جيدا كيف يضمن التمويل الدفاعى للناتو من قبل أوروبا، عقب أعوام من الشد والجذب فى محاولة منه لرفع سقف التمويل الأوروبى، بالرغم من التحديات الاقتصادية والعسكرية والتى يواجهها الاتحاد جراء الصراع الدائر منذ أكثر من أربعة أعوام.
غير أن الانخراط الأوروبى فى هذا الصراع كشف عن غياب بعض الجوانب الدبلوماسية، والتى اعتمدها الاتحاد منذ الحرب العالمية الثانية، لعقود نعمت أوروبا بمفاهيم الاستقرار والرخاء، لتقتحم صراعا، لمجرد الرغبة فى صد النفوذ الروسى وعدم عودة الاتحاد السوفيتى، ما أسهم فى غياب التوافقات السياسية بين دول الاتحاد ومزيد من الانقسامات الداخلية، والأكثر تعقيدا هو حجم الانسداد السياسى ما بين روسيا والاتحاد، فلا تسويات إلا عبر الجانب الأمريكى، ومن ثم قد تستمر أوروبا فى الانزلاق ناحية صراع، لا أفق واضحة تجاه تسويته، أما العودة فلن تتم بدون محددات وشروط روسية.
مؤشرات ونتائج متوقعة:
ختاما، يمكن القول، لا تزال معادلة السلام والمراد صياغتها غير مكتملة الأطراف، سيما مع تناقض الحسابات الاستراتيجية للفاعلين فى الصراع، والأهم غياب الحد الأدنى من التوافقات، حتى اللقاءات والقمم يصعب أن تخرج بتوصيات مفادها إنهاء الصراع الدائر، طالما أن محددات المفاوضات وشروطها، ليست مكتملة سيما فى ضوء غياب الأطراف الأصيلة عن طاولة المفاوضات، والأصعب عدم توافر الإرادة السياسية لدى الفاعلين الحقيقيين.
ومن ثم وفى ضوء ما تم الإشارة إليه، فإن التوجهات حول احتمالات تنازل بوتين عن مقاطعات الشرق تحديدا دونيستك ولوجانسك تبقى غير منطقية، إلا أن سيناريوهات تجميد الصراعات خاصة تجاه مناطق الجنوب والتى تسيطر موسكو على أجزاء كبيرة منها، تبرز كونها الأقرب للتعاطى، وفى كل السيناريوهات تبرز روسيا وقد تحركت تجاه النسبة الأكبر من مستهدفات حربها.
الهوامش:
([1])https://www.csis.org/analysis/russias-battlefield-woes-ukraine