تحليلات

القوة الذكية وإعادة رسم التحالفات الاستراتيجية فى الشرق الأوسط

طباعة

شهد النظام الدولى خلال العقود الأخيرة تحولات عميقة أفرزت أنماطا جديدة من القوة والنفوذ، بحيث لم يعد الاعتماد على القوة العسكرية أو الاقتصادية وحدها كافيا لتحقيق المصالح الوطنية أو ضمان الاستقرار الإقليمى. كما لم تعد القوة الناعمة –بما تتضمنه من أدوات ثقافية، ودبلوماسية، وإعلامية– قادرة بمفردها على تحقيق الأهداف الاستراتيجية للدول. ومن هنا برز مفهوم القوة الذكية باعتباره مقاربة أكثر شمولا ومرونة تقوم على الدمج التكاملى بين عناصر القوة الصلبة وأدوات القوة الناعمة، فى إطار يوازن بين الردع والجاذبية وبين الضغط والاحتواء.

وفى الشرق الأوسط، الذى يعد من أكثر الأقاليم اضطرابا وتشابكا فى المصالح، ازدادت أهمية القوة الذكية بعد التحولات الكبرى التى أعقبت الثورات العربية عام 2011. فقد أدت هذه التحولات إلى إعادة تشكيل موازين القوى وانهيار بعض التحالفات التقليدية، مقابل صعود تحالفات أكثر براجماتية تقوم على المصالح المباشرة والتوازن بين الأدوات العسكرية، والدبلوماسية، والاقتصادية، والإعلامية. ومع تنامى أدوار قوى إقليمية كتركيا، وإيران، وإسرائيل، والسعودية، والإمارات، أصبحت الساحة الإقليمية مسرحا لتجارب متعددة فى توظيف القوة الذكية من أجل تعزيز النفوذ وبناء الشراكات.

وفى هذا السياق، تبرز مصر كحالة جديرة بالدراسة؛ فهى دولة محورية تسعى منذ 2013 إلى إعادة تموضعها الاستراتيجى عبر المزج بين أدوات الردع العسكرى والقوة الاقتصادية المتنامية، وبين الجاذبية الحضارية والدبلوماسية النشطة، وذلك من أجل إعادة بناء شبكاتها التحالفية على أسس أكثر مرونة. وتكشف التجربة المصرية عن محاولة جادة لاستخدام القوة الذكية كآلية لإدارة التوازنات الإقليمية والدولية، فى وقت يشهد فيه النظام الدولى ميلا متزايدا نحو التعددية القطبية وتراجع الهيمنة الأحادية.

إن الإشكالية الجوهرية تنبع من هذا السياق المركّب: فبينما تمثل القوة الذكية أداة واعدة لإعادة تشكيل التحالفات فى الشرق الأوسط، يظل التساؤل قائما حول مدى قدرتها على إنتاج أنماط مستقرة ومستدامة من العلاقات، أم إنها تعكس مجرد استجابة ظرفية لتحولات عابرة. ومن هنا تأتى أهمية هذا المقال فى تقديم قراءة تحليلية لمفهوم القوة الذكية وأثره فى إعادة رسم التحالفات الاستراتيجية فى الشرق الأوسط، مع التركيز على النموذج المصرى كإطار تطبيقى يوضح أبعاد هذا التحول.

مفهوم القوة الذكية وأدواتها فى العلاقات الدولية:

يعد مفهوم القوة الذكية امتدادا للنقاشات الفكرية حول طبيعة القوة فى العلاقات الدولية. فقد ركزت المدرسة الواقعية الكلاسيكية والواقعية الجديدة على القوة الصلبة، باعتبارها الوسيلة الأساسية لتحقيق المصالح الوطنية وضمان البقاء فى بيئة دولية فوضوية. وهنا ارتبطت القوة الصلبة بالقدرات العسكرية والاقتصادية التى تمكّن الدولة من فرض إرادتها على الآخرين عبر الردع أو الإكراه([1]). غير أن التطورات العالمية منذ نهاية الحرب الباردة أظهرت أن الاعتماد المنفرد على القوة الصلبة مكلف وغير كاف، خصوصا مع بروز قضايا غير تقليدية كالإرهاب، والهجرة، والأزمات البيئية التى لا يمكن التعامل معها بالأدوات العسكرية وحدها.

فى مقابل ذلك قدّم جوزيف ناى فى مطلع التسعينيات مفهوم القوة الناعمة، ليعبر عن قدرة الدولة على التأثير فى سلوك الآخرين عبر الجاذبية والإقناع بدلا من الإكراه. وتركز هذه القوة على ثلاثة مصادر رئيسية: الثقافة، والقيم السياسية، والسياسات الخارجية ذات المصداقية([2]). وقد لقى المفهوم رواجا واسعا خاصة فى الأدبيات الأمريكية بعد إدراك محدودية التدخلات العسكرية المكلفة، مثل حرب فيتنام ثم غزو العراق وأفغانستان. إلا أن القوة الناعمة وحدها بدت عاجزة فى مواجهة قوى صاعدة أو تنظيمات مسلحة لا تعبأ كثيرا بالجاذبية الثقافية أو القيم الديمقراطية.

من هنا برز مفهوم القوة الذكية باعتباره صيغة أكثر شمولا ومرونة، حيث قدّمه ناى لاحقا باعتباره المزج الاستراتيجى بين موارد القوة الصلبة والناعمة لتحقيق الأهداف الخارجية بفعالية أكبر. ويقوم جوهر القوة الذكية على الاستخدام المتكامل والمتوازن للأدوات، بحيث يتم اللجوء إلى الردع العسكرى أو الضغوط الاقتصادية عند الضرورة، مع الحفاظ فى الوقت نفسه على قنوات التأثير غير المباشر من خلال الدبلوماسية، والإعلام، والثقافة، وشبكات التحالفات. وهكذا تعكس القوة الذكية إدراكا متزايدا بأن النجاح فى النظام الدولى المعاصر لا يعتمد فقط على امتلاك القوة، بل على كيفية توظيفها فى سياقات مختلفة([3]).

تتجلى أدوات القوة الذكية فى طيف واسع من السياسات. فمن جانب القوة الصلبة، تشمل القدرات العسكرية المتطورة، والتدخلات المحدودة، والعقوبات الاقتصادية، والمساعدات العسكرية للحلفاء. أما جانب القوة الناعمة، فيشمل توسيع الدبلوماسية العامة، وتعزيز التبادل الثقافى والتعليمى، وتوظيف الإعلام والفضاء الرقمى، وبناء صورة دولية إيجابية. وعندما تدمج هذه الأدوات فى استراتيجية واحدة متكاملة، تستطيع الدولة أن تعزز نفوذها وتدير تحالفاتها بمرونة، وأن تتجنب تكاليف الاعتماد الأحادى على السلاح أو الخطاب الثقافى.

أهمية القوة الذكية تكمن أيضا فى بعدها التكيفي؛ فهى ليست وصفة جامدة بل إطار يسمح بتعديل مزيج الأدوات وفقا للظروف. ففى حالات النزاع المسلح قد يتقدم البعد العسكرى، بينما فى أوقات الاستقرار أو بناء التحالفات طويلة المدى يبرز البعد الناعم. كما أن تطبيق القوة الذكية يختلف من دولة لأخرى حسب مواردها ومكانتها؛ فالدول الكبرى قد تميل إلى توظيف أدوات الصلابة لتأكيد هيمنتها، بينما تعتمد الدول المتوسطة أو الصاعدة على خليط يميل أكثر إلى الأدوات الناعمة لتعويض محدودية قدراتها العسكرية.

بذلك يمكن القول إن القوة الذكية ليست مجرد دمج حسابى بين القوة الصلبة والناعمة، بل هى قدرة استراتيجية على اختيار الأداة المناسبة فى التوقيت والسياق المناسبين. فهى تمثل شكلا متقدما من التفكير الاستراتيجى فى العلاقات الدولية، وتفسر بدرجة كبيرة ديناميكيات بناء التحالفات وإدارة التوازنات فى بيئات مضطربة مثل الشرق الأوسط.

 

 

التحولات الجيوسياسية فى الشرق الأوسط بعد2011:

شهد الشرق الأوسط منذ عام 2011 تحولات جذرية فى بنيته الجيوسياسية، يمكن وصفها بمرحلة انتقالية عميقة تجاوزت آثارها الحدود الوطنية لتعيد رسم التوازنات الإقليمية والدولية. فقد مثّلت الثورات العربية لحظة فارقة فى التاريخ السياسى للمنطقة، إذ أدت إلى سقوط أنظمة راسخة فى مصر، وتونس، وليبيا، واليمن، وأشعلت حروبا أهلية مدمرة فى سوريا، وليبيا، واليمن، وخلقت بيئة إقليمية يسودها عدم اليقين الاستراتيجى. وقد انعكس ذلك مباشرة على شكل التحالفات التقليدية، إذ اهتزت المحاور القائمة على أسس أيديولوجية أو تاريخية، لتفسح المجال أمام تحالفات جديدة أكثر براجماتية ومرونة([4]).

ومن أبرز سمات هذه المرحلة بروز الفاعلين من غير الدول، سواء فى صورة تنظيمات مسلحة عابرة للحدود مثل تنظيم "داعش"، أو ميليشيات مدعومة من قوى إقليمية، مثل حزب الله والحوثيين. وقد فرض هؤلاء الفاعلون أجنداتهم على الخريطة الجيوسياسية، مما زاد من هشاشة الدولة الوطنية فى عدة بلدان. هذا الواقع خلق بدوره طلبا متزايدا على استراتيجيات القوة الذكية التى تجمع بين الردع العسكرى والقدرة على كسب العقول والقلوب فى المعركة الإعلامية والفكرية([5]).

كما شهدت المنطقة إعادة تموضع لدور القوى الإقليمية الكبرى. فإيران عززت نفوذها الإقليمى عبر شبكة من الوكلاء الممتدين من العراق وسوريا إلى لبنان واليمن، معتمدة على مزيج من القوة الصلبة (دعم عسكرى مباشر وتمويل) والقوة الناعمة (الخطاب الطائفى، والدعم الاجتماعى فى بعض البيئات المحلية). فى المقابل عملت تركيا على توسيع نفوذها بالجمع بين القوة الاقتصادية والدبلوماسية النشطة مع الانخراط العسكرى المحدود فى سوريا وليبيا. أما السعودية والإمارات، فقد تبنتا مقاربة هجومية منذ 2015 خاصة فى اليمن، إلى جانب محاولات لإعادة بناء النظام الإقليمى عبر أدوات مالية، واقتصادية، وإعلامية واسعة النطاق([6]).

التدخلات الدولية مثّلت بعدا حاسما فى إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة. فقد أدى الانسحاب الأمريكى التدريجى من العراق وأفغانستان، ثم تردده فى الانخراط العسكرى المباشر بسوريا، إلى خلق فراغ استراتيجى حاولت روسيا ملأه عبر تدخل عسكرى مباشر فى سوريا منذ 2015. كما عززت الصين حضورها الاقتصادى فى المنطقة ضمن مبادرة "الحزام والطريق"، مما أضاف بعدا جديدا من التعددية فى التوازنات الدولية بالشرق الأوسط. هذه التحولات أكدت أن المنطقة لم تعد حكرا على النفوذ الأمريكى، بل أصبحت ساحة تنافس مفتوحة بين قوى كبرى وصاعدة([7]).

كذلك، أدت أزمة الطاقة العالمية وتذبذب أسعار النفط إلى إعادة تشكيل أولويات الدول النفطية، حيث سعت هذه الدول إلى تنويع اقتصاداتها عبر مشروعات تنموية ضخمة، مثل "رؤية السعودية 2030" و"مبادرة الإمارات للخمسين عاما القادمة". هذا التحول الاقتصادى ترافق مع مساع لتعزيز القوة الناعمة من خلال الاستثمار فى الرياضة، والثقافة، والإعلام، مما جعل أدوات القوة الذكية جزءا من الاستراتيجيات الشاملة لإعادة التموضع العالمى.

إن أبرز ما يميز التحولات الجيوسياسية بعد 2011 هو انتقال المنطقة من نظام شبه مستقر قائم على أقطاب تقليدية وتحالفات واضحة، إلى نظام أكثر سيولة وانفتاحا على تعددية القوى. لم تعد التحالفات قائمة بالضرورة على روابط أيديولوجية أو دينية، بل على مصالح متغيرة ترتبط بمحددات الأمن، والطاقة، والاقتصاد، والشرعية السياسية. وهذا الواقع يفتح الباب واسعا أمام استراتيجيات القوة الذكية كإطار لفهم كيفية بناء وإعادة تشكيل التحالفات فى ظل بيئة مضطربة وغير مستقرة.

تطبيق القوة الذكية فى السياسة الخارجية المصرية:

تعد مصر إحدى أهم الدول المحورية فى الشرق الأوسط، بحكم موقعها الجغرافى الفريد، ووزنها الديمغرافى، وإرثها الحضارى، فضلا عن دورها التقليدى فى قيادة النظام العربى. غير أن موقعها الاستراتيجى تعرّض لتحديات كبيرة بعد ثورة يناير 2011، وما أعقبها من تقلبات سياسية داخلية وانكشاف استراتيجى على المستويين الإقليمى والدولى. وقد دفعت هذه الظروف القاهرة إلى إعادة النظر فى مقاربتها للسياسة الخارجية، عبر تبنى مزيج أكثر مرونة من أدوات القوة الصلبة والناعمة، فى إطار ما يمكن وصفه بسياسة القوة الذكية المصرية.

من زاوية القوة الصلبة، أعادت مصر بناء قدراتها العسكرية بصورة ملحوظة خلال العقد الماضى، حيث اتجهت إلى تنويع مصادر السلاح، فلم تعد تعتمد فقط على المساعدات الأمريكية، بل توسعت فى التعاون مع روسيا، وفرنسا، وألمانيا. كما استثمرت فى تحديث قواتها البحرية والجوية بشكل يعزز قدرتها على حماية مصالحها فى شرق المتوسط والبحر الأحمر.وفى الوقت نفسه، وظفت القاهرة هذه القوة الصلبة فى إطار ردع استراتيجى محدود، كما ظهر فى إعلانها الصريح استعدادها للتدخل العسكرى فى ليبيا عام 2020 إذا ما تجاوزت قوات حكومة الوفاق المدعومة من تركيا خط "سرت – الجفرة". هذا الموقف مثّل توظيفا متوازنا للقوة العسكرية فى سياق سياسى ودبلوماسى أوسع.

أما على مستوى القوة الناعمة، فقد واصلت مصر الاعتماد على رصيدها التاريخى، والثقافى، والدينى. فالأزهر الشريف لا يزال مؤسسة دينية مؤثرة فى العالم الإسلامى، والدراما والسينما المصرية لا تزال حاضرة فى الوجدان العربى رغم المنافسة الخليجية والتركية. إلى جانب ذلك، عززت القاهرة حضورها الدبلوماسى عبر المشاركة النشطة فى المحافل الدولية، مثل الاتحاد الإفريقى الذى ترأسته عام 2019، وكذلك عبر انخراطها فى ملفات إقليمية حساسة كالقضية الفلسطينية، وأمن البحر الأحمر، والنزاع الإثيوبى حول سد النهضة.وتكشف هذه الأنشطة عن توظيف متنام للقوة الناعمة فى تعزيز صورة مصر كوسيط إقليمى ومسئول إقليمى فاعل.

القوة الذكية المصرية تجلت بوضوح فى ملف الغاز الطبيعى بشرق المتوسط. فقد استخدمت القاهرة أدوات القوة الصلبة من خلال حماية منشآتها وحقولها البحرية وتطوير بنيتها التحتية، وفى الوقت نفسه قادت تحالفات اقتصادية ودبلوماسية كمنتدى غاز شرق المتوسط الذى تأسس عام 2019، ويضم دولا عربية وأوروبية. هذا الدمج بين الأدوات العسكرية، والاقتصادية، والدبلوماسية سمح لمصر بالتحول إلى مركز إقليمى للطاقة، مما عزز من مكانتها فى خريطة التحالفات الجديدة([8]).

كذلك تبنّت مصر سياسة متوازنة تجاه القوى الدولية الكبرى. فبينما حافظت على شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، عززت تعاونها العسكرى مع روسيا، وفتحت آفاقا جديدة للشراكات الاقتصادية مع الصين، مستفيدة من مبادرة "الحزام والطريق". هذا التوازن يعكس إدراكا لأهمية تنويع التحالفات بما يمنح القاهرة هامش حركة أوسع، ويجنبها الوقوع فى فلك قوة واحدة. ومن ثم، تبدو السياسة الخارجية المصرية تطبيقا عمليا للقوة الذكية، حيث يجرى استخدام التعددية فى الشركاء والمصادر لتحقيق مصالح وطنية عليا دون تكاليف مفرطة.

وعلى الرغم من النجاحات الملحوظة، تواجه القوة الذكية المصرية تحديات لا يمكن إغفالها. فالضغوط الاقتصادية الداخلية تحدّ من قدرة القاهرة على توسيع نفوذها الخارجى بصورة مستدامة، كما أن التنافس الحاد بين القوى الإقليمية؛يفرض على مصر تحديا فى الحفاظ على مكانتها كقوة محورية. مع ذلك فإن الاستراتيجية المصرية القائمة على المزج بين الردع العسكرى والدبلوماسية النشطة، وبين النفوذ الثقافى والشراكات الاقتصادية، تؤكد قدرة القاهرة على توظيف القوة الذكية بشكل متدرج ومتوازن لإعادة التموضع فى بيئة إقليمية ودولية شديدة التعقيد.

تحديات وآفاق القوة الذكية فى إعادة رسم التحالفات الاستراتيجية بالشرق الأوسط:

تواجه القوة الذكية فى الشرق الأوسط جملة من التحديات البنيوية والظرفية تجعل عملية إعادة تشكيل التحالفات شديدة الحساسية. فمن الداخل، تصطدم الدول الإقليمية الكبرى بجملة من الأزمات الاقتصادية، والمالية، والديموغرافية التى تحدّ من قدرتها على تحمّل كلفة الانخراط الخارجى طويل الأمد. كما أن الاستقطاب الاجتماعى والسياسى داخل بعض هذه الدول يقلّص من مساحة الإجماع الوطنى حول أولويات الأمن القومى، ويضعف قدرة مؤسسات الحكم على ترجمة الموارد المتاحة إلى سياسات خارجية مستقرة. وهو ما تؤكد عليه أدبيات الواقعية الكلاسيكية الجديدة التى تربط الفعل الخارجى للدولة بالقيود الداخلية المؤسّسة له، وتبرز أن فعالية القوة الذكية لا تنفصل عن كفاءة البيئة الداخلية التى تمكّن من توظيفها.

إلى جانب ذلك تتسم البيئة الإقليمية بدرجة عالية من عدم اليقين الاستراتيجى. فالشرق الأوسط يظل ساحة مفتوحة لصراعات النفوذ الممتدة، وفى الوقت نفسه مسرحا لتفاهمات ظرفية سريعة الزوال. كما أن القوى المتوسطة فى المنطقة تتنافس فيما بينها باستخدام أنماط مختلفة من القوة الذكية، مما يضعف منسوب الثقة المتبادلة، ويجعل التحالفات أكثر سيولة وأقصر عمرا. وفى هذا السياق ترتفع كلفة الإشارات الدبلوماسية وتتعقّد حسابات الردع، الأمر الذى يفرض على صانع القرار قدرا أكبر من المرونة فى ضبط «مزيج الأدوات» بين الردع المحدود، والدبلوماسية الاقتصادية، والقوة الإعلامية، والتأطير المؤسسى.

خارجيا، يشهد النظام الدولى تحولات بنيوية عميقة تتجسد فى تراجع الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة وصعود أنماط جديدة من التعددية المرنة. هذا التحول يمنح الدول المتوسطة فى الشرق الأوسط مجال مناورة أوسع، لكنه فى الوقت ذاته يرفع من كلفة الخطأ الاستراتيجى، إذ تتداخل إشارات القوى الكبرى؛ الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، والاتحاد الأوروبي؛ بصورة تربك حسابات المخاطرة والعائد. وفى ظل هذا التعقيد تصبح القوة الذكية رهينة القدرة على الانتقال السلس بين أدواتها، وتوظيفها فى سياقات متغيرة مع الحفاظ على اتساق سردى يعزز المصداقية والقدرة على بناء شراكات مستدامة.

بالنسبة إلى مصر تمثل القوة الذكية فرصة لإعادة ترسيم دورها الإقليمى بما يتجاوز حدود القوة التقليدية. إذ تتيح لها أدوات الاقتصاد والمعرفة، مثل ملف غاز شرق المتوسط، والتحول الكهربائى، وقناة السويس، والممرات اللوجستية، إضافة إلى أمن المياه والغذاء، منصّات مستمرة لبناء شراكات وتحالفات وظيفية تعزز حضورها الإقليمى. كما يمنحها موقعها الجغرافى ومواردها العسكرية فرصة لبناء قدرات ردع مرنة تحمى المصالح الحيوية فى البحرين الأحمر والمتوسط، وتؤمن عمقها الغربى والجنوبى. وفى الجانب الدبلوماسى، تتمكن القاهرة من تعزيز صورتها كوسيط إقليمى رئيسى عبر إدارة أزمات فلسطين، وليبيا، والسودان، بجانب تفعيل أدوات الدبلوماسية العامة والرقمية لإعادة صياغة سرديتها كمنتج للاستقرار والتنمية.

إن تجاوز هذه التحديات يفتح أمام مصر، وبقية القوى الإقليمية، فرصة لتحويل القوة الذكية من أداة ظرفية مرتبطة بالأزمات إلى استراتيجية تراكمية تؤسس لتحالفات أكثر صلابة، وتضمن قدرة أكبر على الصمود أمام تقلبات النظامين الإقليمى والدولى.

الخاتمة:

يظهر تحليل القوة الذكية فى الشرق الأوسط أنّ المنطقة منذ عام 2011 تعيش حالة سيولة استراتيجية عميقة، حيث تراجعت فعالية أدوات القوة الصلبة المنفردة، كما لم يعد الاعتماد الحصرى على القوة الناعمة قادرا على إدارة مشهد إقليمى متشابك يتسم بتداخل الأزمات الأمنية، والاقتصادية، والهوياتية. من هنا برزت القوة الذكية كإطار عملى يسمح للدول بدمج الردع العسكرى والاقتصادى مع الجاذبية الثقافية والدبلوماسية لبناء نفوذ أكثر استدامة. وقد برهنت التجربة أنّ الدول التى نجحت فى المزج المرن بين هذه الأدوات استطاعت تعزيز موقعها داخل منظومة التحالفات المتغيرة، بينما تراجعت مكانة الدول التى تمسكت بنمط واحد من القوة.

وفى السياق المصرى كشفت السياسات الخارجية خلال العقد الماضى عن محاولات جادة لتوظيف القوة الذكية عبر الجمع بين تحديث القدرات العسكرية، والانخراط الدبلوماسى، واستثمار الرصيد الثقافى والدينى، إلى جانب بناء شراكات اقتصادية فى ملفات حيوية، مثل الطاقة وأمن الممرات المائية. هذا التوجه عزز صورة مصر كوسيط إقليمى وفاعل مسئول، وساعدها على تحقيق مكاسب ملموسة فى ملفات، مثل غاز شرق المتوسط والوساطة فى النزاعات الإقليمية. ومع ذلك لا تزال التحديات قائمة، سواء بسبب الضغوط الاقتصادية الداخلية التى تقيد موارد النفوذ، أو نتيجة المنافسة الشرسة مع قوى إقليمية أخرى تسعى إلى توسيع حضورها عبر استراتيجيات مشابهة.

وانطلاقا من هذا التحليل تبرز الحاجة إلى جعل القوة الذكية نهجا استراتيجيا متكاملا لا مجرد رد فعل ظرفى. ويتطلب ذلك تطوير أدوات القوة الناعمة الحديثة، خاصة فى المجال الإعلامى، والثقافى، والرقمى، بما يواكب تحولات الرأى العام الإقليمى. كما يستدعى تعزيز التنسيق المؤسسى بين الأجهزة المعنية بالسياسة الخارجية لضمان اتساق استخدام الموارد المختلفة للقوة. وفى ظل التحولات الدولية الراهنة، يبقى تنويع التحالفات والشراكات ضرورة للحفاظ على هامش مناورة واسع يقلل من الاعتماد على طرف واحد. والأهم من ذلك فإن نجاح القوة الذكية المصرية مرتبط بالقدرة على ربط الداخل بالخارج، بحيث تدعم الإصلاحات الاقتصادية والمؤسسية المصداقية الخارجية وتحوّل النفوذ إلى قوة مستدامة. وأخيرا تحتاج مصر إلى صياغة سردية استراتيجية واضحة تبرزها كمنتج للاستقرار الإقليمى وكمحرك أساسى لبناء توازنات أكثر مرونة فى ظل التعددية القطبية الناشئة.

وبذلك، تمثل القوة الذكية بالنسبة لمصر، وللشرق الأوسط عموما، أداة استراتيجية لتجاوز الانقسامات الحادة وإعادة رسم التحالفات على أسس جديدة تراعى المصالح المشتركة وتستجيب لتعقيدات البيئة الإقليمية والدولية المعاصرة.

المراجع:


([1]) Mearsheimer, John J. The tragedy of great power politics (Updated edition). WW Norton & Company, 2003.

([2]) Nye Jr, Joseph S. "The changing nature of world power." Political science quarterly 105, no. 2 (1990): 177-192.

([3]) Nye Jr, Joseph S. "Smart power." New Perspectives Quarterly 26, no. 2 (2009): 7-9.

([4]) Lynch, Marc. The new Arab wars: Uprisings and anarchy in the Middle East. Public Affairs, 2016.

([5]) Byman, Daniel. "Understanding the Islamic state—a review essay." International Security 40, no. 4 (2016): 127-165.

([6]) Gause III, F. Gregory. "Beyond sectarianism: The new Middle East cold war." Brookings Doha Center Analysis Paper 11 (2014): 1-27.

([7]) Aras, Bülent, and Şaban Kardaş. "Geopolitics of the new Middle East: perspectives from inside and outside." Journal of Balkan and Near Eastern Studies 23, no. 3 (2021): 397-402.

([8]) Sukkarieh, Mona. The East Mediterranean gas forum: Regional cooperation amid conflicting interests. Natural Resource Governance Institute, 2022.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. محمد إبراهيم حسن فرج

    د. محمد إبراهيم حسن فرج

    دكتوراه العلوم السياسية- كلية الاقتصاد والعلوم السياسية،جامعة القاهرة