تحليلات

النمط .. مفتاح فهم التنظيم والاستمرارية المجتمعية

طباعة

يعرف النمط بأنه التكرار المتناغم والدوري، وهو كذلك الطريقة أو المذهبية، إذ يُعد النمط انتظامًا واضحًا في العالم، وترتيبًا متكررًا لعناصر معينة ضمن تصميم إما من صنع الله أو من صنع الإنسان. ونحن هنا بالضرورة نتحدث عن النمط الذي صنعه الإنسان. على هذا الأساس، تتكرر عناصر النمط بطريقة يمكن التنبؤ بها، ويتميز النمط بالتكرار والتناظر والتوازن. قد تُلاحظ الأنماط مباشرة من خلال الحواس، في حين أن الأنماط المجردة في العلوم، أو الرياضيات، أو اللغة قد لا تُدرك إلا عبر التحليل الدقيق.

ومن أمثلة الأنماط التي صنعها الإنسان، نجد الأنماط الهندسية في البناء والصناعة والتخطيط، وأنماطًا إلكترونية وفنية، وأنماطًا في الإدارة، وأنماطًا للحروب. والغرض من النمط هو استدامة الحياة، والتنبؤ بالمستقبل بنمطية واضحة تساهم في تحسين المعيشة والأوضاع الاقتصادية وغيرها.

وعند الانتقال من الفكرة المادية للنمط، نصل إلى ما يسمى نمط الحياة، وهو ذلك النمط المتكرر في التفكير والشعور والسلوك الذي يميز الموقف الفريد للفرد تجاه الحياة. إنه برمجة نفسية تتكون من مجموعة من المعتقدات والعادات والافتراضات والسلوكيات التي تشكل الطريقة التي يرى بها الإنسان الحياة ويتفاعل معها. بمعنى آخر، هو العدسة التي يُبصر ويُفسر من خلالها جميع أحداث الحياة.

إن نمط الحياة هو الطريقة التي يعيش بها الأفراد والمجتمعات، ويعكس تعاملهم مع بيئاتهم المادية، والنفسية، والاجتماعية، والاقتصادية يوميًا. إنه مزيج من الدوافع والاحتياجات والرغبات، ويتأثر بعوامل مثل الثقافة، والأسرة، والمجموعات المرجعية، والطبقة الاجتماعية. ويتجلى نمط الحياة في جميع أنماط السلوك خلال أوقات العمل والراحة، وفي الأنشطة والمواقف، وفي الاهتمامات والآراء والقيم، كما يعكس كيف يرى الفرد نفسه وكيف يعتقد أن الآخرين ينظرون إليه.

وبالتالي يشير نمط الحياة في كل بيئة ومجتمع إلى نوع خاص من القيم، والأفكار، والتعاليم التي يتبناها ذلك المجتمع، باعتبار أن النمط هو الترجمة العملية للمعتقد على أرض الواقع. وإذا كنا لا نجد شخصًا أو جماعة بلا معتقد أو خلفية فكرية أو أيديولوجية، فهذا يعني أننا لا نجد شخصًا أو جماعة بلا نمط حياة معين.

ورغم أن وجود نمط حياة أمر ضروري، فقد تشترك مجموعات متعددة في تفاصيل معينة من أنماط الحياة وتختلف في أخرى، وذلك بناءً على الاختلافات الأيديولوجية، والاجتماعية، والقيمية بينها.

ونمط الحياة لدى المجتمعات ليس مجرد محصلة أنماط الأفراد، فالمجتمع الواحد لا يتماسك فقط برغبة أفراده في التماسك، بل بوجود نمط يوجههم نحو التماسك. وتختلف آليات التماسك بين المجتمعات الصغيرة والكبيرة، وتختلف العصور في إغراءاتها وضغوطها عما هو عليه الحال في العصر الحالي. فلا يمكن الاعتماد فقط على أن أفراد المجتمع ينتمون إلى طبقة واحدة، أو دين واحد، أو مهنة واحدة، أو لغة واحدة، فالأنماط تعبر عن تناغم المجتمع ككل، حتى مع وجود اختلافات كبيرة بين مكوناته.

وهذا التناغم هو إدارة قيم المجتمع من قبل المؤسسات الحاكمة له. وإذا أردت تغيير نمط مجتمع ما، يجب أن تتحكم في إدارة النمط بما يحقق أهدافك، سواء كنت حاكمًا أو مستعمرًا في زمن العولمة.

وهنا تثار تساؤلات مهمة: هل ينتج عن التحكم في النمط تغيير القيم المكونة للمجتمع؟ أم إن تغيير القيم هو الذي يؤثر على النمط ومن ثم إدارته؟

يمكن تشبيه النمط بالغمامة(Blinders) التي توضع على عيون الحصان لتمنعه من الرؤية إلى الجوانب أو الخلف، بهدف تقليل عوامل الإلهاء والحفاظ على تركيز الحصان، خاصة في سباقات الخيل أو عند جر العربات. والهدف الأساسي من استخدام الغمامات هو الحفاظ على التركيز على الطريق أمام الحصان، حيث تُقلل الغمامات من الانحرافات البصرية إلى الوراء والجانبين، مما يحدث فرقًا كبيرًا في أداء الحصان في السباقات.

والغمامات، عند الحكومات، تمثل الحاجة إلى الحفاظ على السياق العام للتقدم والتطور، والحفاظ على مصفوفة القيم المؤسسة للدولة، لضمان استمرار عجلة الإنتاج بوتيرة مدروسة، وللحفاظ على إحساس المواطن بالأمان، والانتماء، والأمل، باعتباره المكون الأساسي للمجتمع.

فعلى سبيل المثال، نجد أن الدول الأكثر إنتاجية، والأقل في معدلات الجريمة، والأعلى في معدلات التماسك المجتمعي، تتسم بأنماط حياة صارمة للغاية، نمط يحفز الإنتاجية ويحد من معدلات الجريمة. ومن مهام الدولة أن تقلل الغضب واليأس عبر إجراءات اقتصادية محفزة ومستقرة. فالاستقرار يحفز العقل اللاواعي للجماهير ويجعلهم في حالة هدوء تام، كما أشار المفكر الكبير جمال حمدان إلى أن الحضارات المستقرة تترك بصمتها على جينات وسلوكيات وطباع وقيم مجتمعاتها، على عكس المجتمعات الصحراوية والساحلية.

والغمامات التي تستخدمها الدول، والمقصود بها النمط، هي لتوجيه سلوكيات المواطنين نحو الصالح العام، والحفاظ على الجين الأساسي للمجتمع وهدفه في النمو والاستمرارية المنضبطة. وهذا لا يعني السيطرة على المجتمع لأغراض شخصية خاصة بالحاكم، كما في دول الصراعات على الحكم، حيث يقدس الحاكم نفسه فوق الدولة، بل للحفاظ على الدولة نفسها من ضغوطات دولية.

فالدول الكبرى ليست عظيمة فقط بسبب اقتصادها أو قدراتها العسكرية أو الدينية، بل لأنها تمتلك نمطًا قويًا يحكم سلوكيات المجتمع ويوجهها، بدءًا من النمط المعماري، والنمط المروري، والنمط الإعلامي، والنمط الإعلاني، والنمط الاقتصادي، والنمط الاجتماعي، ونمط الخدمات الحكومية، والنمط القانوني، والنمط الاستهلاكي.. وغيرها من الأنماط.

أولا- النمط المعماري:

يُعتبر العمران من السمات الأساسية للتجمعات البشرية، ويشكل ظاهرة سوسيولوجية تثير اهتمام الباحثين، لا سيما أنماطه المتنوعة التي تعكس ثقافة المجتمع أو أفراده. وتتنوع أنماط السكن بحسب الفترات الزمنية التي مرت بها البشرية وبحسب المناطق التي تسكنها. ومن ذلك، يبقى لكل منطقة سماتها العمرانية الخاصة، حيث تتأثر الأنماط السكنية للمجتمع بعمليات التغيير التي تطرأ عليه بين الماضي والحاضر، ولا سيما في وقتنا الراهن مع تأثير تكنولوجيا الاتصالات والعولمة.

ولا مجال للشك أن إنجلترا، وأيرلندا، واسكتلندا، ودول أوروبا القديمة تتميز بأنماط معمارية شبه ثابتة، تتسم بالعراقة والتكرار في الشكل الخارجي والداخلي إلى حد كبير. وهذا النمط يعزز الانتماء للهوية الخاصة بكل دولة، فهو منبثق من تاريخ إنجلترا ويتلاءم مع الأجواء المناخية والتوزيع السكاني المحدود، والمحكوم بقوانين صارمة لمساحات وأشكال وألوان البناء.

وتوجد أحياء كاملة تأخذ الطابع الحديث، لا مانع منه ولكن بتقنين محدد صارم، لا يسمح لتغول نمط على آخر، لأن ذلك يترك أثرًا في اللاوعي الجمعي للمواطنين ويفتح باب الاستثناءات. فالنمط المعماري ليس شكلاً جماليًا فقط، بل محصلة التاريخ، والمناخ، والحالة الاقتصادية، ودرجة الثبات المجتمعي والاستقرار النفسي المراد الحفاظ عليه. وبمعنى آخر، لا يحدد الشخص الحالة الاقتصادية بقدر ما تحددها القوانين والتوزيعات الإدارية لكل منطقة.

ويختلف الأمر نسبيًا مع دول ذات مساحة شاسعة، مثل سنغافورة، والصين، أو الولايات المتحدة، حيث نجد عدة أنماط متفاوتة في الدولة الواحدة، لكن وفق تنميط محدد صارم يمنع العشوائية. فهناك أحياء في أمريكا تتسم بقسوة الطابع الإجرامي، ولا مجال لتزييف هذه الحقائق، لكن هذا لا يمنع أمريكا من تصدر التصنيفات الاقتصادية والاجتماعية العالمية. والفكرة العامة في النمط أن يكون السلوك موجهًا للصالح العام، حتى وإن كان هناك سلوك شاذ أو صعب السيطرة، فهو تحت رقابة نسبية لا تعيق التقدم، والنمو، والاستقرار.

ثانيا- النمط المروري:

يعد النمط المروري في تقديري ثاني أهم نمط عالمي قادر على توجيه سلوك المواطنين. فالمرور والطرق العامة هي أول مساحة مشتركة تجمع بين أشخاص لا علاقة بينهم. وبمجرد نزول الفرد للشارع، يصبح في مساحة مشتركة مع غرباء، وهنا أمام فرضيتان: إما التعاون المنظم وفق قواعد صارمة، أو أن يتصرف كل فرد حسب مصلحته الشخصية.

إذا تركت الحكومات شعوبها لتتعاون وفق أهوائها الشخصية في هذه المساحة المشتركة، سيكون الوضع أكثر تعقيدًا مما يتصور، دون الحاجة للمقارنة بحياة الغابة، فحتى الغابة تحكمها قوانين إلهية وطبيعية صارمة لا مفر منها، ولا يرغب أهل الغابة في خرقها.

وتنظم هذه المساحة المشتركة بأنماط محددة صارمة في الدول ذات النمط، وتُطبق بغض النظر عن ظروف الزحام أو الهدوء، أو نوع الطريق، أو وجود إشارات، أو نوع النقل، أو عبور المشاة. فلا مجال للارتجال أو الاستثناء، فتجد الزحام منظمًا، والهدوء غير مستغل سلبًا، وحتى استخدام آلات التنبيه يخضع لنمط محدد.

وهذا كله يهدف إلى تحقيق غاية واحدة: المصلحة العامة التي تساعد الدولة على المضي قدمًا دون مفاجآت سلبية غير مخططة، من أجل صحة نفسية أفضل، وإنتاجية أعلى، وجودة حياة تسمح للمواطن بالاستمتاع بما هو متاح.

ومن المثير أن تجد فردًا في دولة ما غير معتاد على النمط يلتزم به حين يزور دولة أخرى، وعند عودته إلى وطنه يعود إلى نمطه الأصلي، فالنمط ليس طارئًا بل عادة متأصلة تثمر ثمارها بصرامة تطبيقها.

ثالثا- نمط الاستهلاك:

يُعتقد تقليديًا أن من يملك الكثير من المال هو الأكثر إنفاقًا، لكن الواقع يختلف كثيرًا. فالنمط الاستهلاكي في أوروبا وأمريكا مختلف تمامًا عن بقية الشعوب، على الرغم من أنهم الأعلى دخلًا والأقوى اقتصاديًا. فالأنظمة هناك ترى أن ثقافة الاستهلاك يجب أن تحكمها قواعد صارمة، تحاصر الرغبات بشكل ممنهج للحفاظ على قيمة الادخار، والاستثمار، والعمل، والترشيد.

ويرتبط النمط الاستهلاكي ارتباطًا وثيقًا بسياسة تحجيم الاستهلاك أو الترشيد، رغم أن الرأسمالية المتوحشة قائمة على الاستهلاك المفرط. فالاستهلاك المفرط يؤدي إلى تغييرات في غرائز وفضائل أخرى قد تدمر باقي الأنماط التي تحفز العمل، والانتماء، والتعاون.

فالشعوب الأوروبية والأمريكية، رغم قوتها الشرائية، فإن قدراتها الشرائية مراقبة ومرشدة، غير محفزة وغير مستفزة بسبب قلة الإعلانات التجارية المستفزة وطول مواعيد فتح المحال. فالنمط هو تحجيم مواعيد العمل وتحجيم غرائز الشراء.

لكن هل النمط مطلق؟ على الرغم من شدة صرامة النمط، لابد من وجود متنفس يسمح بانفجار الضغط بشكل ممنهج ومضبوط، فهل تفضل كحاكم انفجار الضغط الشعبي من دون ضوابط، أم أن يكون هذا التنفيس وفق نظام وترتيب؟

رابعا- النمط القانوني:

القانون هو الإطار الذي ينظم الحياة الطبيعية والاجتماعية. فالعالم كله يسير وفق قوانين إلهية خاصة بالطبيعة، والفيزياء، والكيمياء، وكذلك الحياة الاجتماعية محليًا ودوليًا تسير وفق قوانين من وضع الإنسان. والقوانين الإلهية لا تخطئ ولا تظلم، ولا تحابي أحدًا، ولكن القوانين البشرية قد لا تكون عادلة في كل الأحوال، وهذا الفرق الجوهري بين القانون الإلهي والبشري.

ولكن ذلك ليس مبررًا لوجود ثغرات قانونية أو استثناءات صارخة، فالقانون هو ظاهرة اجتماعية ترتبط بالمجتمع الإنساني، فلا مجتمع بلا قانون، ولا قانون بلا مجتمع. والهدف هو توفير الأمن والنظام من خلال تحقيق توازن بين حقوق الأفراد وواجباتهم.

ويقصد بالنمط القانوني ضرورة التزام السلطات بتحقيق ثبات نسبي للعلاقات القانونية، والحفاظ على استقرار المراكز القانونية المختلفة، بغرض إشاعة الأمن والطمأنينة بين الأطراف، بحيث يمكن للأفراد التصرف بأمان على أساس قواعد واضحة دون مفاجآت أو تصرفات مباغتة تزعزع هذا الاستقرار.

والاستقرار القانوني يعني أن تكون الأنشطة البشرية واضحة وفعالة وغير معرضة للاضطراب والمفاجآت، وهذا لا يعني جمود القانون وعدم مواكبته للتطورات، إذ يعبر القانون عن حاجات المجتمع، والجمود أحيانًا هو من مظاهر عدم الاستقرار القانوني.

ويعد الاستقرار القانوني جزءًا أساسيًا من ضمانات العدالة واحترام القانون. ويتسم النمط القانوني في إدارة المجتمعات بمحاور عدة، منها الاستقرار، وعدم الجمود، والعدالة، والحماية، والثقافة القانونية للجميع. وبالتالي فإن الدولة ذات النمط القانوني تحكم توجهات وحركات الأفراد والمجموعات لتجنب الانحرافات التي قد تعطل الإنتاجية أو تؤثر على السلام المجتمعي.

هناك مجتمعات تفتقر إلى القانون، حيث تنتشر الجريمة ويغيب العدل، ويشعر المواطن فيها بالغربة داخل وطنه، مثل فنزويلا، وكمبوديا، وبوليفيا، وعلى العكس، نجد الدول الأكثر التزامًا بالقانون، مثل الدنمارك، والنرويج، وفنلندا، والسويد، وألمانيا، والمملكة المتحدة.

وأكرر، لا توجد المدينة الفاضلة، ولكن هناك دائمًا مدينة تحاول تدارك السلبيات بشكل ممنهج، كي لا تؤثر على المسيرة الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي على الاستقرار النسبي للمجتمع عبر العصور.

ويتميز النمط القانوني بأن قواعده السلوكية تحكم السلوك الخارجي للإنسان، فهي لا تعير اهتمامًا للنوايا أو المشاعر طالما لم تتحول إلى فعل خارجي، كما تحمي الحقوق الفردية، إذ يمنح القانون الفرد وسائل للدفاع إذا اعتُدي على حقه.

خامسا- النمط الإعلامي والنمط الإعلاني:

هما مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، فالإعلام يحتاج إلى معلن، والمُعلن يحتاج إلى إعلام، فكلاهما وجهان لعملة واحدة. وكلما كانت الدولة قوية وتمتلك نمطًا واضحًا، كانت أكثر قدرة على التحكم في الرسائل الموجهة لشعبها، لأنها توجه الجماهير نحو ما يتوافق مع النمط.

في الدول ذات النمط الصارم، تحكم القوانين والحدود عمل الإعلانات، فلا تحفز على الشراهة الاستهلاكية، ولا تبذير المدخرات، ولا الاستدانة المستدامة، ولا العنف، ولا الخروج على النص، ولا على القوانين.

سادسا- العولمة والنمط:

العولمة، بمفهومها المجرد، تعني ولادة كرة أرضية واحدة ينتمي إليها الجميع، وليست ملكًا لحضارة كبرى منفردة. وتأتي العولمة نتيجة ثورة الاتصالات وتقنيات المعلومات، التي أتاحت لأصحاب القوة والهيمنة السيطرة الكاملة على العالم في مجالات السياسة، والاقتصاد، والتقنية، والعسكرية.

وتعرف العولمة بأنها توجه أيديولوجي جديد يركز على قوانين السوق والحرية المطلقة في انتقال البضائع والأموال والأشخاص والمعلومات، وعلى فكرة الديمقراطية، والحرية، والمساواة المطلقة في الأبعاد السياسية والاجتماعية.

وتعمل العولمة الثقافية على الترويج للأيديولوجيات الغربية وفرضها على الواقع عبر الضغوط السياسية، والإعلامية، والاقتصادية، والعسكرية، في مجالات عدة، مثل حقوق الإنسان، والديمقراطية، وحقوق الأقليات، وحرية الرأي، مستخدمة آليات متعددة، منها الاتفاقيات الدولية المشوهة ووسائل الإعلام والدعاية.

ويرى المفكر الألماني أولريش بك أن العولمة تعني انهيار وحدة الدولة الوطنية والمجتمع الوطني، وتكوين علاقات جديدة وبروز منافسة وتداخل بين مكونات الدولة الوطنية وممثليها، وبين الممثلين عبر الحدود الوطنية.

أما الدكتور محمد عابد الجابري، فيرى أن العولمة عملية أيديولوجية تعكس إرادة الهيمنة على العالم، إذ تسعى إلى تعميم نمط حضاري خاص بدولة معينة على العالم بأجمعه، بهدف القضاء على الخصوصية الثقافية. فالهدف النهائي للعولمة الثقافية هو السيطرة على الإدراك، وإخضاع النفوس، وتعطيل فاعلية العقل، وتكييف المنطق، وتشويش القيم، وتوجيه الخيال، وتنميط الذوق، وقولبة السلوك، تكريسًا لنوع معين من الاستهلاك والمعارف والسلع.

وتُعرف هذه الظاهرة بـ"ثقافة الاختراق"، وهي ثقافة إعلامية سمعية وبصرية تصنع الذوق الاستهلاكي اقتصاديًا، والرأي العام سياسيًا، وتشيد رؤية خاصة للإنسان والمجتمع والتاريخ.

وأصبح من الصعب الحديث عن العولمة كما كانت سابقًا، فهي تسري كالماء في النهر والدماء في العروق. وقد حققت ما يسمى بالاستحواذ الثقافي، وهو سيطرة الأقوى على الأضعف، حيث يقاس الضعف بمقدار التنازل عن الهوية الوطنية، والقوة بمقدار التمسك بها.

ويعد انتشار العولمة في البلاد أداة لتفتيت النمط الإيجابي لأي دولة، فكل ما تصدره الدول الكبرى من ثقافة وأفكار ومعتقدات هو منتقى بعناية ليخالف ما أنشأت عليه أمتك وحضارتك. فلا يصدر لك الصرامة القانونية أو النمط المعماري المتسق مع ثقافتك وبيئتك، بل على العكس يرغب في تحطيم نمطك المميز، القائم على هويتك وثقافتك ومقومات الحياة المتطورة المستقرة. والاستقرار هنا ليس أمنيًا فقط، بل اقتصادي أيضًا، إذ إن الدول المتقدمة تتحرك وفق أنماط واضحة تمنع الارتجال والفوضى.

سابعا- النمط في الحرب الناعمة:

الحرب الناعمة ليست استخدام السلاح المباشر، وإنما حرب تحكمها استراتيجيات معقدة لا تستخدم الأسلحة التقليدية. وهي تؤثر على الأنماط الاجتماعية، والثقافية، والقيمية، تستهدف التشويه والاختراق والهيمنة من خلال التضليل والتشويش الإعلامي والتجسس الإلكتروني ونشر الفتن.

وتتضمن الحرب الناعمة استخدام عناصر متعددة، مثل الإعلام، والمال، والسياسة، والثقافة، والتعليم، بهدف تدمير القيم المجتمعية، وتقويض الهوية، وزرع الفتن الطائفية والعرقية، وإحداث الفوضى السياسية والاقتصادية.

وهذه الحرب تعتمد على تغيير الأنماط الحياتية، وفرض أنماط جديدة مستوردة تناقض أنماط المجتمع الأصلية، فتعمل على تفكيك التماسك الاجتماعي وإضعاف النمط الوطني.

وتحتاج الدول في مواجهتها إلى وعي عال وحكامة رشيدة تضع النمط الوطني كخط دفاع أول، لتحصين المجتمع من اختراقات العولمة والحرب الناعمة، وذلك عبر تدعيم القيم والأعراف المجتمعية، وتعزيز الهوية الوطنية، وبناء أنظمة مؤسساتية قوية تتعامل مع هذه التحديات بفعالية.

الخاتمة:

خلاصة النمط: الفوضى واللا انتماء:

في النهاية، يمكن القول إنه حين يغيب النمط عن المجتمع، تتكاثر داخله كيانات فرعية متعددة، متناحرة، لا يجمعها انتماء لأرض أو هوية، ولا تربطها صلة بتاريخ أو قيم أو عقيدة. تصبح الفوضى هي الواقع، واللا انتماء هو القاعدة الجديدة.

ولا نبتعد كثيرًا عن مقولة "الإنسان طفل كبير"، فالفرد يظل بحاجة إلى التوجيه والترويض طيلة حياته، إذ إن غياب الترويض يفتح له أبواب الفوضى، فيصبح غير منتمٍ إلا لذاته. وحتى إن اجتذب آخرين لمجتمعه الخاص، فإنه يفرض عليهم نمط فوضويته، لكنه هذه المرة يُخضعهم له من خلال قوانين قاسية تحكم الفوضى لصالحه، ولا يسمح لهم بممارستها عليه.

في ظل وجود النمط، تتحقق الحرية الحقيقية، وتتجلى الإدارة في أبهى صورها. فالنمط ليس قيدًا، بل وسيلة لتنظيم الفكر والسلوك، على المستويين الفردي والجماعي.

النمط هو ما يولد الانتماء ويحافظ عليه، لأنه حين يكون إيجابيًا وصحيح الاتجاه، يجد صداه لدى من يؤمنون به من الحالمين الواقعيين، الباحثين عن مستقبل أفضل لا مجرد مستقبل أسرع، أولئك الذين يثقون في القدر بدلًا من التمرد عليه. في المقابل نجد عشّاق الفوضى والمنفصلين عن الانتماء متطفلين دائمًا على حياة الآخرين، ناقمين على كل ما يحيط بهم، حالمين بكل شيء لأنفسهم فقط، وكأنهم لا يعترفون بوجود مجتمع سوى أنفسهم.

ويغدو التردد سمة ملازمة لمثل هذه البيئات، مصحوبًا بفقدان الثقة بالنفس وبالآخرين، وقد يمتد إلى فقدان الثقة بالله –والعياذ بالله. تصبح القرارات، حتى البسيطة منها، عبئًا في ظل غياب القدرة على المبادرة وسيطرة ردود الأفعال.

وحين تفتقر المجتمعات إلى النمط وتغرق في العشوائية، تصبح لقمة سائغة للمخاطر الخارجية، وهدفًا سهلًا للاختراق والتفكيك. فالهجوم على النمط وتدميره يؤدي إلى مجتمع مفكك، عاجز عن التماسك أو التقدم، مجتمع لا يقوى على قبول الحقيقة، ولا يرغب في العمل كجسد واحد نحو مستقبل أفضل.

طباعة

    تعريف الكاتب

    نور الشيخ

    نور الشيخ

    كاتب وسياسي، خبير في بحوث السياسات والمفاهيم الأمنية