مقالات رأى

تدويل الصراعات الإقليمية.. التحديات الدولية وموقف مصر

طباعة

تواجه المنطقة العربية اليوم أخطر اختبارٍ في تاريخها الحديث، حيث تداخلت الصراعات الإقليمية مع الحسابات الدولية، وسقطت أمامها أوهام الحماية والتحالفات، فالحرب الإسرائيلية على غزة لم تكن مجرد معركةٍ عسكريةٍ بل لحظة انكشافٍ كبرى، حيث كشفت عن انهيار أسطورة الردع الإسرائيلي (الجيش الذي لا يقهر)، وفضحت ازدواجية المعايير الدولية، وتجدد التأكيد أن مصر تظل حجر الزاوية في معادلة الأمن الإقليمي. وبين مقولة كيسنجر الشهيرة: "من الخطر أن تكون عدوًا لأمريكا، لكن من القاتل أن تكون صديقًا لها"، وبين واقع دولٍ عربيةٍ راهنت على واشنطن فلم تحصد سوى الخذلان، يتضح أن الأمن العربي لا يُستورد من الخارج بل يُبنى بالاعتماد على الذات ووحدة الصف.

لم تعد غزة مجرد جغرافيا محاصرة، ولم تعد سيناء مجرد جبهة استراتيجية، بل أصبحتا معًا ركيزتين في معادلة التحدى والبقاء العربي ومواجهة مشاريع الإزاحة والتصفية، فمنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة في أكتوبر 2023 وما تبعها من قصفٍ طال غزة، والضفة الغربية، وبيروت، ودمشق، وصنعاء، ولبنان، وتونس، وقطر، بل وحتى التهديد المباشر لطهران، بدا أن بنيامين نتنياهو يحاول إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بالقوة.

منذ حرب أكتوبر 1973، مرورًا بحرب لبنان 2006، وصولًا إلى الحرب الراهنة في غزة، تبين أن الترسانة العسكرية الإسرائيلية المتقدمة لم تُترجم إلى إنجازاتٍ سياسيةٍ، فالعقيدة الأمنية الإسرائيلية التي قامت على مفهوم "الردع المطلق" تتعرض اليوم لتآكلٍ غير مسبوق.

وقد أظهرت استطلاعات معهد دراسات الأمن القومي (INSS) في أبريل ويونيو 2025 أن الثقة في الجيش الإسرائيلي انخفضت من 83% في ذروة المواجهات إلى 77%، بينما تراجعت الثقة برئيس الأركان من 69% إلى 62%، والأهم أن الفجوة قد اتسعت بين الثقة بالمؤسسة العسكرية (نحو 76-84% بين اليهود، و30% فقط بين العرب) والثقة بالقيادة السياسية التي بقيت عند مستوياتٍ متدنيةٍ لا تتجاوز 24-30%، مما يعكس أزمةً شرعيةً حادة داخل النظام الإسرائيلي.

أما عن الهجوم الأخير في القدس المحتلة في سبتمبر 2025 الذي أسفر عن مقتل ستة إسرائيليين وإصابة العشرات، فقد جاء كترجمةٍ ميدانيةٍ لهذه الأزمة، فقد استطاعت المقاومة الفلسطينية اختراق واحدةٍ من أكثر المدن تحصينًا أمنيًا، مما فضح هشاشة المنظومة الأمنية الإسرائيلية، وبالنسبة للإجراءات العقابية التي اتخذتها الحكومة –من هدم منازل المهاجمين إلى سحب تصاريح العمال– فلم تكن سوى تكرارٍ لنهجٍ قديمٍ أُثبِتَ فشله، إذ عمّق جذور المقاومة بدلًا من إضعافها.

وعلى المستوى الدولي، اكتفت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ببيانات إدانةٍ للعملية مع التأكيد على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، في حين دعت أصواتٌ حقوقيةٌ في الأمم المتحدة إلى النظر في جذور العنف المتمثلة في الاحتلال والحصار، يعكس هذا التناقض جوهر الأزمة المتمثلة في نظامٍ دولي يبرر عنف الاحتلال بينما يشين ردود الفعل الفلسطينية، مما أفقد خطاب "الوساطة" الغربية أي مصداقية.

وهكذا، لم تعد أسطورة الردع الإسرائيلي موضع نقاشٍ أكاديمي فقط، بل أُسقطت عمليًّا في الميدان -من صواريخ غزة إلى عملية القدس-، حيث بات الاحتلال في مواجهة معادلةٍ جديدةٍ عنوانها: "فقدان السيطرة وتآكل الشرعية".

غزة بين المأساة الإنسانية والفضيحة القانونية:

حتى منتصف 2025، كشفت الأرقام عن عمق المأساة:

·   الضحايا:58573 قتيلًا، بينهم 17921 طفلًا و9497 امرأة، إضافةً إلى 139607 جرحى (OCHA– 2025).

·   الإعاقات:نحو 90 ألف شخص أصيبوا بإعاقاتٍ دائمة (تقرير لجنة الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة).

·          سوء التغذية: أكثر من 15 ألف طفل دون الخامسة يعانون من سوء تغذيةٍ حاد (اليونيسف– 2025).

سعى النهج الأمريكي-الإسرائيلي إلى السيطرة على الإغاثة وتحويلها إلى أداةٍ سياسيةٍ، بينما تمسكت الأمم المتحدة وشركاؤها بمبدأ الاستقلالية، وكانت النتيجة ازدواجية مشوّهة تمثلت في قنوات مساعداتٍ مقيدة ومسيّسة وأخرى مهنية لكنها معرقلة، لتتحول غزة إلى مسرحٍ يجمع بين مأساةٍ إنسانيةٍ وفضيحةٍ قانونيةٍ دولية.

وقد شهد عام 2024 وحده مقتل 383 عامل إغاثة –نصفهم تقريبًا في غزة–، وهو أعلى رقم عالميًا، وعلى الرغم من فداحة الأرقام بقيت المساءلة غائبة، لتكشف غزة -ليس فقط مأساة إنسانية- بل فضيحة أخلاقية وقانونية تفضح عجز المنظومة الدولية.

سيناء.. القلب الحساس للأمن القومي المصري:

منذ الخمسينيات ظلت سيناء هدفًا للأطماع الإسرائيلية، ولا تزال هذه الأطماع مستمرة، والدليل على ذلك أن خطة "جيورا أيلاند- 2004" -التي اقترحت توسيع غزة على حساب سيناء- عادت للتداول في مراكز بحثية إسرائيلية خلال الحرب الحالية (Jerusalem Center for Public Affairs – 2023).

لكن القاهرة أعلنت أن سيناء "خط أحمر"، ليس فقط لأنها أرض وطنية بل لأنها ركيزةً وجوديةً للأمن القومي المصري، ففتح الحدود مع غزة ليس مجرد مسألةٍ إنسانية بل تهديد ديمغرافي وأمني بالغ الخطورة، في حين أن إغلاقها يضع القاهرة في دائرة الاتهام بالمشاركة في الحصار، ومع الضغوط الاقتصادية الداخلية –وخاصةً تراجع إيرادات قناة السويس بفعل التوترات في البحر الأحمر– اختارت مصر سياسة "التوازن الحذر"، والتي تتمثل في دعم مركزية القضية الفلسطينية باعتبارها جزءًا من الأمن القومي العربي، مع الحفاظ على استقرار الداخل كأولويةٍ لا يمكن التفريط بها مع الرفض القاطع لعملية التهجير.

البعد الإقليمي والدولي:

لم تبق الحرب في غزة محصورةً داخل حدودها، بل سرعان ما تحولت إلى صراعٍ إقليمي مفتوح، حيث تداخلت الجبهات، وتشابكت الملفات الدولية، ومنها ملف "إيران-إسرائيل" الذي استمر اثنا عشر يومًا، وقد بدأ فتح هذا الملف في 13 يونيو 2025، وكانت لحظة الاختبار التي أثبتت فيها إيران أنها ليست دولةً منعزلةً أو هشّةً، بل هي طرفٌ قادرٌ على فرض معادلات ردعٍ جديدةٍ وتفجير تناقضاتٍ داخل النظام الإسرائيلي ذاته، في وقتٍ يتلعثم فيه الإعلام الدولي، ويغيب فيه الموقف العربي الجامع، باستثناء بيانات شجبٍ لا تصنع سياسةً، ولا تغيّر واقعًا. كما ساد الموقف أيضًا مخاوف لدى المشرق العربي والإسلامي من تدخل تحالفاتٍ أخرى مثل الناتو، كما فعلوا في العراق.

كما يبرز أيضًا احتمال تشكّل تحالفاتٍ جديدةٍ بين دول الشرق الأوسط، فرغم الاختلافات الكبيرة في الأيديولوجيا والمواقف التاريخية، إلا أن هناك نقاط تقاطع –مثل: الرغبة في استقرار الحدود، وتأمين الممرات البحرية، والانخراط في مشاريع إعادة الإعمار– قد تدفع هذه الدول للتعاون بشروط، الأمر الذي يعزز فرص التعاون المشترك، غير أن هذه التحالفات -إن نشأت- ستظل على الأرجح مرنةً، ومصلحيةً، ومؤقتةً، ومحدودةً بالمجالات التي تخدم مصالح مشتركة بوضوح، أكثر منها تحالفات استراتيجية طويلة الأمد.

وعن الولايات المتحدة، فهي قد التزمت دعمًا مطلقًا لإسرائيل، لكنها في المقابل فقدت رصيدها الأخلاقي والسياسي عالميًّا، خاصةً بعدما انكشفت ازدواجيتها بين خطاب السلام وممارسة الحرب.

وأما أوروبا، فقد بدت منقسمةً، حيث رأينا دولًا التزمت بالخط الأمريكي، بينما أقدمت أخرى –مثل: إسبانيا، وأيرلندا، والنرويج في عام 2024- على الاعتراف بدولة فلسطين، في خطوةٍ اعتُبرت شرخًا واضحًا في الموقف الغربي الموحد.

وبهذا المعنى لم تعد الحرب مجرد مواجهةٍ فلسطينية–إسرائيلية، بل أصبحت ساحة اختبارٍ لتوازناتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ أوسع، بدءًا من أمن الطاقة والملاحة العالمية، وصولًا إلى إعادة تشكيل التحالفات وشرعية الأدوار الدولية في الشرق الأوسط.

مسرحية الدم والنفاق (سقوط الوسيط الأمريكي):

لم تُسقط الحرب أسطورة الردع الإسرائيلي فحسب، بل مزقت أيضًا قناع الوساطة الأمريكية، حيث تحولت واشنطن من "وسيطٍ مزعومٍ" إلى شريكٍ مباشرٍ في الحرب، تمنح الغطاء السياسي والعسكري للآلة الإسرائيلية، بينما تدّعي الحرص على السلام. هذا التناقض جعل دورها كوسيطٍ بلا أي مصداقية.

والأدهى أن مواقف بعض الدول العربية –من ترديد الرواية الصهيونية إلى إدانة عمليات المقاومة– كشفت حجم الاختراق السياسي والإعلامي، وأظهرت أن معركة الوعي لا تقل خطورةً عن معركة الميدان.

فى النهاية إن رسم خريطةٍ جديدةٍ للمنطقة لا يجري اليوم في غرف المؤتمرات، بل أصبح يتم فوق الأرض بالصواريخ والدم. ومع هذا الغياب العربي المريع، تتآكل أوراق الضغط، ويتسع مسار التطبيع ليبتلع المواقف ويُفرّغ بعض الدول من قرارها وسيادتها، ولا يخفى على أي مراقبٍ سياسيٍّ أن استمرار هذا الصراع دون موقفٍ عربيٍّ موحدٍ يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية، ويكبح الاندفاع نحو تحالفاتٍ تُبنى على حساب الشعوب سيؤدي إلى شرق أوسط تتحكم فيه إرادات الخارج، وتغيب فيه الإرادة الذاتية. لقد أسقطت الحرب الأخيرة الأقنعة المتمثلة في أوهام الردع الإسرائيلي، وحياد النظام الدولي، ونفاق الوسيط الأمريكي.

والدرس الأعمق: إن الخرائط التي تُرسم بالدم لا تمحوها الشعارات، وإن الشعوب الحرة هي التي تحدد ملامح المستقبل. ففي نهاية المطاف، صراع الإرادات –وليس حسابات القوى الكبرى– هو الذي سيرسم خريطة الشرق الأوسط الجديد.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. عبير فاروق عبدالعزيز

    د. عبير فاروق عبدالعزيز

    دكتوراه في العلوم السياسية