رغم ما تُعرف به إيران من صرامة أمنية، إلا أنه يبدو أن تغليبها للمصالح الاقتصادية الملتفّة على العقوبات جعلها تُفرّط تدريجيًا فى السيطرة الأمنية على أطرافها. وشيئًا فشيئًا، باتت تُصنف كواحدة من أبرز ممرات التهريب فى آسيا، ليس فقط بفعل طول حدودها مع دول، مثل العراق، وباكستان، وأفغانستان، وتركيا، وأذربايجان بل نتيجة وجود تغاضٍ فى ضبط هذه الحدود.
فقد أدى الحظر الحكومى على الاستيراد، بالتوازى مع الطلب المتزايد على المنتجات الأجنبية، إلى اعتماد شريحة واسعة من التجار الإيرانيين على التهريب لتلبية الطلب المحلى. بل إن الحرس الثورى نفسه متهم فى تغطية وإدارة بعض هذه المسارات، خصوصًا تلك المرتبطة بتمويل أنشطته الاقتصادية والعسكرية خارج الموازنة الرسمية، إذ يستفاد منها فى تهريب الوقود، والمعدات الإلكترونية، وأحيانًا حتى الأسلحة.
تتداول تقارير غربية أن وحدات فى الحرس الثورى الإيرانى، أبرزها "مؤسسة خاتم الأنبياء" و"فيلق القدس"تستثمر فى شبكات تهريب نفط وسلع عبر دول الإقليم، بهدف غايات مالية واستراتيجية حول الحدود الإيرانية. على سبيل المثال ووفقا لمنظمةUnited Against Nuclear Iran الأمريكية غير الحكومية وأحد لوبى الضغط لمنع إيران من تطوير أسلحة نووية:
تُعد مؤسسة "خاتم الأنبياء" من أكبر الجهات الاقتصادية التابعة للحرس، وتستخدم شبكات أسطول الأشباح(shadow fleet) من الناقلات وشركات وهمية لتهريب النفط للحصول على عائدات تدخل فى تمويل أنشطة فيلق القدس الميدانية. فى المقابل ينشط "فيلق القدس" و"الوحدة 190" فى عمليات تهريب الأسلحة ببنى تحتية سرية تشمل شحنات برية، وبحرية، وجوية إلى جماعات، مثل الحوثيين، وحزب الله، وحماس. تقرير من وكالةDIA يقول إنه منذ 2015، يهرّب فيلق القدس أسلحة إلى الحوثيين، بما فى ذلك صواريخ باليستية، وصواريخ كروز، وطائرات مسيرة. كما تبين من سجلات إدارية أن الوحدة 190 كانت نشطة بشكل مثبت تاريخيًا، بمهمة نقل أسلحة إلى حزب الله والحوثيين عبر طرق مخفية وتعاون مشترك مع وحدات لوجيستية مثل "الوحدة 700".
التهريب كآلية للالتفاف على العقوبات:
مع ازدياد الضغط الناتج عن حزم العقوبات الغربية، لجأت إيران إلى التهريب البشرى واللوجيستى لنقل النفط والسلع إلى دول حليفة، مثل سوريا والعراق، وأحيانًا تركيا. وتُستخدم فى هذه العمليات فئات هشة، مثل "الكولبران" (الحمالين البشريين) فى كردستان إيران، ومهاجرين غير شرعيين من الأفغان –لا سيما من قومية البلوش– بما يتطلب فتح أجزاء من الحدود دون رقابة مباشرة، أو بتصاريح ضمنية، تسمح بدخول آلاف الأشخاص يوميًا دون تسجيل رسمى.
هذه الثغرة فى منظومة الدخول والخروج تُفسر أحد أبرز مسارات اختراق الموساد للداخل الإيرانى، بما فى ذلك تركيب أنظمة أسلحة هجومية داخل البلاد.فى هذا السياق بدأت النقاشات داخل الغرف المغلقة فى طهران تتجه نحو إعادة النظر فى السياسات الحدودية، وفرض إجراءات أكثر صرامة فى التعامل مع ملف التهريب، لا سيما فى مناطق، مثل كردستان إيران (محافظات كردستان، وكرمانشاه، وأذربيجان الغربية، وإيلام)، ومدن حدودية، مثل بانه، ومريوان، وسقز، وسنندج، ومهاباد، وسردشت. وترافق ذلك مع اتهامات صريحة لبعض المهربين بالتجسس لصالح إسرائيل، على خلفية ما يُعتقد أنه تواطؤ محلى سهل للموساد تنفيذ اغتيالات نوعية طالت قيادات فى الحرس الثورى وعلماء ذرة خلال حرب الاثنى عشر يوما.
فى خضم هذا القلق المتصاعد، أعيد تداول تصريحات أطلقها الدكتور حسين صمصامى –أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة بهشتى ونائب برلمانى– فى أكتوبر 2024، حذر فيها من مخاطر التهريب، مشيرًا إلى احتمال إخفاء متفجرات داخل الأجهزة المنزلية المهربة، كما حدث فى "أجهزة البيجر" فى لبنان، بما يُهدد أرواح الإيرانيين، ويُحول التهريب من مشكلة اقتصادية إلى تهديد أمنى مباشر.
هذا الواقع يثير سؤالًا جوهريًا: كيف تعانى دولة مثل إيران من هذا القدر من الاختراق الأمني؟
الإجابة تكمن فى أولوية الاقتصاد الرمادى على الأمن القومى. فبينما كانت الدولة تستفيد من تدفقات التهريب غير الرسمية للسلع والنفط لتجاوز العقوبات، تركت أبوابها مشرعة أمام التسلل الأمنى، وأحيانًا دون أن تدرك حجم الفاتورة طويلة الأمد لهذا التراخى.
لكن وفى ظل القبضة المشددة، صعدت السلطات من حملاتها ضد الكولبران، بالتزامن مع ترحيل آلاف المهاجرين الأفغان، خاصة المنتمين للأقلية البلوشية. وقد استندت هذه الإجراءات إلى تقارير أمنية تشير إلى احتمالات تواطؤ بعض هذه الفئات مع جهات خارجية، وضلوعها فى تهريب أسلحة ومواد متفجرة إلى الداخل.وقد أعادت مناقشات "سيناريو البيجر" إلى السطح –رغم قدمه– تحفيز السلطات نحو اعتماد مقاربات أكثر تشددًا تجاه فئات تُصنف ضمن الأقليات العرقية، رغم أن الدولة نفسها استفادت طويلًا من تشغيلها داخل منظومة التهريب.
على سبيل المثال شهد شهر يونيو الماضى، ارتفاعًا كبيرًا فى وتيرة الاعتقالات، بنسبة تقارب 50% مقارنة بشهر مايو، حيث تم توقيف أكثر من 700 شخص فى يونيو، فى سياق الحملة الأمنية التى تصاعدت بعد اندلاع الحرب، وشملت الاعتقالات تهمًا تتعلق بـ "الأمن القومي" و"التجسس لصالح إسرائيل". ووفقًا لتقارير حقوقية، فإن بعض المعتقلين تعرضوا لمحاكمات عاجلة، وأُعدم ثلاثة منهم على الأقل، جميعهم من الأكراد.كما أُعلن عن ترحيل قرابة 450 ألف مهاجر أفغانى من 1 يونيو حتى 5 يوليو، وفقًا لتقريرUNHCR/IOM، بينما أشارت تقارير أخرى إلى أن 508,426 منهم جرى إعادتهم قسرًا بين 24 يونيو و9 يوليو. وبالتالى وصلت الأعداد منذ بداية يونيو إلى نحو 600 ألف أفغانى، طردتهم إيران فى واحدة من أضخم حملات الترحيل الجماعى -وفقا لتقرير مركز حقوق الإنسان فى إيران- فى واحدة من أوسع حملات الإبعاد القسرى فى تاريخ الجمهورية الإسلامية.المقلق فى الأمر ما رُصدته تقارير متعددة خلال الأسابيع الماضية من تزايد حالات العنف والاحتكاك الميدانى، وسط غياب آليات مساءلة واضحة أو حماية قانونية فعّالة.
ففى محافظة كرمانشاه، وثقت شبكة Kurdistan Human Rights Networkمقتل المواطن محمد رحيمى (وهو أب لطفل) بتاريخ 25 مايو قرب مدينة باوه، فى حادثة لا تزال ملابساتها غير واضحة. وفى واقعة أخرى بتاريخ 29 يونيو، أفادت منظمةHengaw الحقوقية الإيرانية بمقتل شاب كولبر يبلغ من العمر 20 عامًا وإصابة آخر، بعد إطلاق النار عليهما قرب الحدود العراقية دون سابق إنذار، بحسب ما ورد فى التقرير.
ورغم إدراك السلطات الإيرانية لحساسية الظروف الأمنية المحيطة، خاصة فى ظل التحديات الإقليمية والداخلية المتراكمة، إلا أن بعض الدوائر الإصلاحية ترى أن تأخر تفعيل آليات المساءلة، أو ضعف الحماية القانونية فى بعض المناطق، قد يُسهم فى ترسيخ مناخ من التوتر وعدم الثقة، خصوصًا فى المناطق التى تنشط فيها جماعات التهريب أو الاتهامات بالاختراق الأمنى.
هذا المناخ وإن كان مرتبطًا بملفات شديدة الحساسية كالأمن القومى وتهريب السلع أو الأفراد، إلا أن استمراره دون معايير قانونية موحدة قد يُفضى إلى تداعيات معقدة على المدى البعيد، سواء فيما يخص التماسك المجتمعى أو صورة الدولة فى التعامل مع الأقليات والمجموعات الهشة. ويبدو أن السلطات الإيرانية بدأت تدرك خطورة هذا المسار، لا سيما فيما يتعلق بملف المهاجرين الأفغان، الذى أثار مؤخرًا قدرًا من الجدل الداخلى. وفى هذا السياق لفت منان رئيسى، النائب فى البرلمان عن مدينة قُم، إلى أن المعلومات التى تلقاها من الجهات الأمنية تفيد بعدم تورط أى مواطن أفغانى فى شبكات التجسس المرتبطة بإسرائيل منذ بداية التصعيد، فى تصريح يُقرأ كمحاولة لاحتواء التوتر المتصاعد حيال هذه الجالية.
وبلا شك تُحتم الضرورات الأمنية اتخاذ إجراءات صارمة، لكن غياب إطار قانونى واضح وآليات رقابة مستقلة قد يُنذر بانتهاكات جسيمة، أو حتى انهيار ما تبقى من الضمانات القانونية. وفى هذا السياق قد يتحول الاقتصاد الرمادى من أداة للالتفاف على العقوبات إلى ثغرة هيكلية فى البنية الأمنية، تُكلف إيران أثمانًا باهظة تفوق ما وفرته تلك الشبكات غير الرسمية من موارد.