تحليلات

"المُدافع الصامد 2024".. مناورات إعادة إحياء الناتو

طباعة

يطلق حلف الناتو أكبر مناوراته العسكرية منذ 36عاما مع نهاية الحرب الباردة، تجرى المناورة تحت عنوان "المُدافع الصامد2024" فى منطقة جغرافية واسعة تشمل ألمانيا، وبولندا، ولاتفيا، وليتوانيا وإستونيا، بالقرب من الحدود الروسية. ووفقا لما تم إعلانه فإنه من المخطط أن تستمر المناورات من فبراير حتى مايو من العام الجارى، بمشاركة نحو 90 ألفا من القوات البرية ونحو 50 سفينة حربية متنوعة، و80 طائرة، هذا إلى جانب 1100 مركبة تتنوع بين الدبابات ومركبات المشاة القتالية ومركبات أخرى؛ حيث ترتكز التدريبات على كيفية تعزيز القوات الأمريكية للحلفاء الأوروبيين فى الدول المحاذية لحدود روسيا وعلى الجناح الشرقى للحلف إذا تصاعد وتيرة الصراع.

فشل أوكرانى .. وتصعيد نظرية التهديد الروسى:

مع اقتراب إتمام الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثانى، أصبح من الواضح بشكل متزايد فشل القوات الأوكرانية المدعومة من الغرب فى شن هجوم مضاد على روسيا، كما لم تتحقق الأهداف الاستراتيجية للعقوبات الاقتصادية والاحتواء السياسى ضد روسيا أى نتائج فى المرحلة السابقة. وبعيدا عن الهزيمة، فقد سجلت روسيا نموا فى الناتج المحلى الإجمالى بنسبة 3.5٪ العام الماضى، متجاوزة ألمانيا كأحد أكبر اقتصاد فى أوروبا من حيث تعادل القوة الشرائية (PPP). لذلك، تسعى الولايات المتحدة إلى تغيير استراتيجيتها بالمبالغة فى "نظرية التهديد الروسى"، ومحاولة تعزيز وظيفة الناتو المناهضة لروسيا، وتحسين التنسيق القتالى التقليدى لحلف الناتو.

فى الوقت نفسه، لدى الولايات المتحدة خطة ممنهجة لأساليب وأدوات تنفيذ محددة لمناورة "المُدافع الصامد"، أهم معالمها تغيير خطة الدفاع الإقليمية التى تبنتها فى قمة "فيلنيوس" لحلف الناتو لعام 2023 من النهج التقليدى القائم على الدفاع المحلى للتحول إلى نهج الدفاع الاستباقى الشامل، عبر الردع النشط لروسيا. وقد بذلت الولايات المتحدة الأمريكية جهودا كبيرة لتعزيز القدرات المشتركة للتحالف عبر الأطلسى المناهض لروسيا؛ حيث يعد تنظيم مناورات عسكرية بحجم "المُدافع الصامد" وسيلة مهمة لتحسين القدرات التشغيلية التعاونية لأعضاء الناتو الأوروبيين.

مخاوف أوروبية وعسكرة إنجلوأمريكية لبحر البلطيق:

استفاد حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من مخاوف دول أوروبا الشرقية بشأن التمدد الروسى، من خلال نشر قوات رد سريع فى بولندا ودول أخرى منذ الصراع الروسى الأوكرانى، كما عزز الناتو من دفاعاته ضد روسيا فى بحر البلطيق وشمال أوروبا. ويعد فتح فنلندا لقواعد عسكرية للولايات المتحدة بعد انضمامها إلى الناتو خطوة حاسمة فى إنشاء جبهة موحدة ضد روسيا. بالإضافة إلى ذلك، وقعت المملكة المتحدة معاهدة أمنية مدتها عشر سنوات مع أوكرانيا، بهدف توفير الطمأنينة للحكومة الأوكرانية، وتسليط الضوء على رسالة رئيسية مضمونها عزم وتصميم الكتلة الغربية على الاتحاد ضد روسيا.

تتضح النية الاستراتيجية للولايات المتحدة لاستخدام الناتو لاحتواء ومقاومة روسيا بشكل كبير رغم عدم الإعلان رسميا عن ذلك، ففى السنوات الأخيرة، لم تُجرِ أمريكا العديد من التدريبات العسكرية لحلف شمال الأطلسى فى أوروبا فحسب، بل سارعت أيضا إلى تشكيل تحالف "صغير للناتو" فى "منطقة المحيطين الهندى والهادئ"؛ حيث شكلت الولايات المتحدة تحالفا عسكريا مع المملكة المتحدة وأستراليا، وسمحت لليابان وكوريا الجنوبية بالانضمام إلى مركز التميز التعاونى للدفاع السيبرانى التابع لحلف الناتو (CCDCOE)، كما أن تنفيذ الناتو لخطة دفاع إقليمية نشطة له من التبعات الكبيرة على الأمن فى "منطقة المحيطين الهندى والهادئ"، ما يعكس النية الحقيقية للولايات المتحدة التى باتت مكشوفة.

الرؤية الروسية للناتو كأداة صراع:

تعتقد روسيا بأن مناورة الناتو "المدافع الصامد" إجراء عدائى أكثر منه إجراء دفاعى، خاصة مع توقيت إعلانها، بعد حزمة الإجراءات التحريضية ونشر الترهيب من الاتحاد الروسى، مع الأخذ فى الحسبان التحركات الغربية والدعم الغربى والأمريكى الجماعى لأوكرانيا فى الأساس بهدف خلق فجوة كبيرة فى الأمن القومى الروسى.

كما ينظر الكرملين إلى التدريبات العسكرية واسعة النطاق التى يقوم بها حلف شمال الأطلسى بوصفها تهديدا لأمن روسيا، وفقا لما صرح به "ديمترى بيسكوف"، المتحدث باسم الرئاسة السكرتير الصحفى للرئيس الروسى خلال مؤتمر صحفى دورى، وأوضح "بيسكوف" أن حلف شمال الأطلسى فى نظر الكرملين هو أداة للمواجهة والصراع، وقد تم تصميم التحالف وتشكيله وتكوينه وإدارته حاليا من قبل الولايات المتحدة على وجه التحديد لهذا الغرض، لكى تستمر هذه الأداة فى أداء دورها، مضيفا قيام روسيا باتخاذ التدابير المناسبة حيال استمرار التحالف بنقل بنيته التحتية العسكرية نحو الحدود الروسية دون توقف لعدة عقود.

وما يزيد الاستفزاز للجانب الروسى هو قيام حلف الناتو خلال المناورة بتنفيذ محاكاة لضربات نووية ضد مناطق فى روسيا مثل لينينجراد، وأرخانجيلسك، ومورمانسك، وسمولينسك، وبسكوف. كما ستتدرب الغواصات والزوارق المضادة للغواصات المشاركة على تدمير الغواصات الروسية فى بحر بارنتس وبحر البلطيق، كما لو كانت الولايات المتحدة الأمريكية والغرب يستهدفان عمدا تفاقم الوضع، وزيادة خطر وقوع حوادث عسكرية مُحتملة، يمكن أن تؤدى - فى نهاية المطاف- إلى عواقب مأساوية على أوروبا.

ختاما، يرجح أن ترد روسيا على الغرب من خلال إجراء مناورات عسكرية وسيبرانية بالقرب من حدود الناتو بما يتضمنه ذلك من تفعيل صوامع الصواريخ النووية الاستراتيجية، كما تبقى احتمالات وقوع صدام بين الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا واردة سواء كان ذلك بعمد أو بغير عمد، وفى ذلك الحين يصعب احتواء النزاع الذى قد يتصاعد إلى حرب عالمية ثالثة، أو لربما تعمل روسيا على تغيير استراتيجيتها بالرد المحدود وعدم الاستجابة للاستفزازات الغربية فى مقابل المراهنة على قرب الانتخابات الأمريكية وعدم استمرار الدعم الأمريكى لأوكرانيا.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. محمد منير غازى

    د. محمد منير غازى

    باحث فى الدراسات السياسية والاتصال السياسى