تحليلات

السيناريوهات المستقبلية للأحداث فى فرنسا

طباعة

    تشهد فرنسا احتجاجات وتظاهرات عدة من وقت لآخر، ولكن كان من أبرز هذه الاحتجاجات تلك التى بدأت أكتوبر ٢٠١٨، وسميت احتجاجات "السترات الصفر"، التى بدأت بدعوة للتوقيع على عريضة قدمتها امرأة فرنسية على صفحتها على الفيسبوك وتسمى السيدة (Perscillia Ludosky) تطالب بتخفيض أسعار الوقود التى ازدادت بنسبة 23% فى عام واحد، وكانت هذه هى الشرارة والبداية لانطلاق حراك السترات الصفر فى فرنسا، فسريعا ما حصلت هذه العريضة على أكثر من مليون توقيع بنهاية شهر نوفمبر، فانطلقت حركة السترات الصفر التى كانت السبب الرئيسى للنزول فى نوفمبر بحضور نحو 300 ألف شخص غير منتمين إلى أى حزب أو جماعة سياسية رافضين الضريبة الجديدة على الوقود فى احتجاجات لرفض غلاء المعيشة المستمر. ولكن سريعا ما تحولت من تظاهرات سلمية إلى احتجاجات شعبية غير مسبوقة واشتباكات عنيفة بين الشرطة والمحتجين، وقامت الشرطة بإطلاق الغاز المسيل للدموع واستخدام مدافع المياه لإخلاء الشوارع وبذلك زادت وتيرة الأوضاع وتزايدت مطالب السترات الصفر لتشمل خفض الضرائب ومعالجة النظام الضريبى بالكامل وتحسين الرعاية الصحية والاجتماعية مع تحسين الدخول ورفع قيمة المعاشات، ثم بدأت الشرطة باعتقال العشرات فى باريس ومناطق أخرى من البلاد.

 وتزامنا مع ذلك اشتعلت مدن فرنسية عدة بآلاف المحتجين، مثل بوردو ومرسيليا وغيرهما، ولإيصال رسالتهم تظاهر المحتجون عند المصافى النفطية وأغلقوا طرقا رئيسية بحواجز مشتعلة، وأسفر ذلك عن وجود عشرات الجرحى ومئات المعتقلين، وفى محاولة بائسة من ماكرون لتصحيح الأوضاع حاول مع الحكومة تصحيح الزيادة الضريبية على المحروقات وأعطى الوعود بخفض الإنفاق العام، وتجميد رسوم الغاز والكهرباء فى أثناء فصل الشتاء، لكن لم ينجح ماكرون بإقناع المتظاهرين واستمروا فى ديسمبر بالتخريب للمحال والشوارع والمبانى، وكان من أبرز أعمال الشغب تشويه قوس النصر، فانصاعت قليلا الحكومة لتعمل على زيادة المرتبات لبعض القطاعات المتدنية أجورها، ثم أطلق ماكرون ما يسمى "الحوار الوطنى الكبير" لمناقشة أربع قضايا مهمة وهى (البيئة، والديمقراطية، والخدمات العامة، والضرائب والإنفاق العام)، وعلى الرغم من مطالبة البعض بتوقف تلك المظاهرات فإن الأغلبية العظمى كانت فى إصرار على النزول للشوارع لإحداث تغيير سياسى واقتصادى شامل، ولكن مع فشل الحوار قرر البرلمان الفرنسى تمرير قوانين أكثر صرامة لتحجيم الاحتجاجات.

إلى أين تتجه فرنسا؟

بعد أربع سنوات وبعد محاولات حثيثة من ماكرون لتعديل سن التقاعد، أعلن الرئيس الفرنسى أن رفع سن التقاعد ضرورى لاستقرار نظام المعاشات والميزانية فى البلاد، وأن تطبيق هذا القرار سيكون بمنزلة هدنة، حيث سيقلل عدد المتقاعدين لمدة سنتين بأقل تقدير، ومن ثم سيخف الضغط على صندوق المعاشات وسيقلل ذلك أيضا من شدة الأزمة الاقتصادية. وتتمثل خطته فى رفع السن من 62 إلى 64، حيث على المتقاعدين العمل لمدة 43 عاما لتلقى معاشهم الكامل.

 وأشار إلى أن سن التقاعد سوف يرتفع ببطء حتى يتم تطبيقه بالكامل بحلول عام 2030 ليصل حتى سن أقصاه 67 لأن فرنسا تختلف عن باقى الدول الأوروبية حيث يتمتع المتقاعدون بسن تقاعد أقل: 62 عاما. وكانت النتيجة تظاهر الآلاف فى الشوارع فى الأسابيع الأخيرة فى تضامن مع حركة السترات الصفر، احتجاجا على هذه الخطوة، فيما أضرب عمال النقل العام والمعلمون وجامعو القمامة بشكل جماعى للتعبير عن عدم موافقتهم أيضا، وبناء على ذلك اضطر الجيش للنزول لشوارع العاصمة المهددة بكارثة بيئية وقام بجمع القمامة التى تركها عمال النظافة المضربون.

 ويرى الرئس الفرنسى أن رفع سن التقاعد سوف يساعد على حل الأزمة الاقتصادية الراهنة والمشكلات الديموغرافية حتى ولو لم يعجب العمال، ويرى أيضا أنه مع ازدياد أرقام المتقاعدين من كبار السن عن أرقام الشباب الذين يعملون، ومع ازدياد الأشخاص الذين يعيشون لفترة أطول بشكل عام، فإنه من المنطقى أن ترفع الحكومات فى جميع أنحاء العالم سن التقاعد. وقد حاول جاك شيراك عام 1995 تطبيق القانون نفسه ولكنه قوبل بالاحتجاجات ذاتها، ولكنه انصاع لرغبة الشعب ومن بعده جاء نيكولا ساركوزى وحقق نجاحا فى رفع سن المعاش لـ ٦٢ ولكن كان ذلك من أهم الأسباب التى أطاحت بساركوزى من الحكم. ولكن ماكرون أصر على أن يستمر فى مواجهة النقابة العمالية بشراسة حيث اختار تفعيل المادة رقم 3-49 من الدستور التى ستمنح الحكومة سلطة تجاوز البرلمان لتمرير مشروع قانون التقاعد المثير للجدل بدون عرضه على التصويت فى الجمعية الوطنية (مجلس النواب) ما أشعل الشارع من جديد وهددت النقابات العمالية بزيادة الإضرابات والتظاهرات فى الشوارع عن اعتقاد راسخ منهم بأن "فرض القانون هو ازدراء صريح لإرادة الشعب وهو بمنزلة إنكار للديمقراطية وفرض القوانين بالقوة". وبناء عليه، تدخلت الشرطة بقوة لتفريق المتظاهرين الذين اجتمعوا فى ساحة الكونكورد بالقرب من البرلمان.

ومن المتوقع كما صرحت مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف بفرنسا مقترحة: أنه إذا أصر ماكرون على استخدام المادة 49 البند 3 لتمرير مشروع القانون بدون تصويت مجلس النواب، فستقوم بطلب سحب الثقة من الحكومة و(سحب الثقة Impeachmentهى خطوة تقوم بها الهيئات التشريعية لتوجيه الاتهام لشخص أو أشخاص رفيعى المستوى فى الحكومة ولا تعنى بالضرورة الإقالة من المنصب، فهى أقرب ما يكون إلى اتهام رسمى كخطوة أولى للإطاحة بالمسئول)، كما صرحت لوبان أيضا أن هذا القرار هو "فشل ذريع"، وأن رئيسة الوزراء إليزابيث بورن الداعمة لماكرون وقراره لا بد أن ترحل من منصبها.

وفى الوقت ذاته من أقصى اليسار قدمت ماتيلدا بانو رئيسة حزب "فرنسا الأبية" مذكرة أخرى بسحب الثقة قائلة إن الحكومة خدعت الفرنسيين، وإن ماكرون جلب العار لفرنسا. ولكن رُفضت المذكرتان، ومن ثم بدأت حملة من الاعتقالات فى شوارع العاصمة بداعى أن المظاهرات كانت عشوائية وبدأت بدون تقديم على تراخيص مسبقة. وبذلك فإن ماكرون أدخل نفسه فى عش الدبابير ويراهن على وضعه وتاريخه السياسى عندما أصر على تمرير مشروع القانون ذاك مع العلم أن 70% من الشعب الفرنسى يرفض المشروع، كما أعلنت واشنطن بوست فى تقرير لها منذ يومين؛ حيث ذهب الشعب للاحتجاج والتظاهر منذ يناير حتى الآن ثمانى مرات للتعبير عن الرفض التام لأنه أكثر تعسفا بالنسبة للنساء وأصحاب المهن الشاقة. وليس مستبعدا أن يتعرض منصب ماكرون ذاته للخطر خاصة بعد تصاعد الغضب النقابى والمعارضة والشارع معا. كذلك أنه بعد مقابلة ماكرون التلفزيونية يوم ٢٤ مارس الماضى، لم يكسب تعاطف الشعب حيث لم يقدم حلولا مقنعة ولم يشر فى حديثه إلى التراجع عن القانون بعد إقراره بسبل يعدها الكثير ملتوية وتنطوى على الخداع باسم القانون (مادة 49.3).

ولكن المحتجون عزموا على إجبار ماكرون على التراجع عن قراره بتعطيل وشل الحركة فى البلاد ابتداء من ٢٣ مارس وغلق جميع الهيئات والقطاعات مثل النقل العام والمدارس ومحطات الطاقة ومصافى النفط ما تسبب فى نقص الوقود، والاستمرار فى الإضراب حتى يتم إلغاء القانون كما أُجبر شراك سابقا. وقررت هيئة الطيران المدنى الفرنسية تخفيف رحلات الطيران فى المطارات الأكثر ازدحاما حتى تهدأ الأمور، وقام وزير الداخلية بالتحذير من تصاعد العنف وأعمال الشغب فى العاصمة وضواحيها وذلك بعد انتشار ما يسمى أصحاب السترات السوداء، وهؤلاء أشد وبالا وشراسة من أى متظاهرين آخرين؛ حيث كانت البلطجة والتخريب هى أسلوبهم المعتمد لإيصال الرسالة؛ حيث خربوا المحال وحطموا النوافذ التجارية والمصارف واندلعت حالات النهب وحتى الوحدات الخاصة من الشرطة المدربة لتلك الظروف خاصة لم تقدر على استيعاب وتهدئة الوضع وأصيب أكثر من 400 شرطى، ونتيجة ذلك قبض على 750 شخصا من أصحاب السترات السوداء وسمى الخميس ٢٣ مارس "الخميس الأسود" .

وأوضح ماكرون قائلا إن الاحتجاجات لن توقف تعديل نظام التقاعد أو أى تغييرات أخرى فى السياسة، وذلك قبل أن يكشف عن خطة من خمسين إجراء تهدف إلى تجنب حدوث أزمة مالية خلال هذا الصيف أو فى السنوات القادمة. ويتطلع ماكرون من خلال هذه الخطة إلى تمرير قوانين أخرى غير تعديل قانون التقاعد الذى أثار احتجاجات عارمة فى جميع أنحاء البلاد على مدى شهرين. ومن ناحيتها، أعلنت الحكومة الفرنسية أن الرئيس على استعداد للحوار مع النقابات بعد أن تحسم المحكمة الدستورية موقفها من تعديل نظام التقاعد.

إصرار ماكرون وتعنت حكومته بعد كل هذه الاحتجاجات والتظاهرات، وبعد عنف الشرطة ضد المتظاهرين واعتقال المئات بل الآلاف، وتضييق الخناق من أجل تمرير قرار يرفضه الأغلبية ولا يراه مناسبا فى وضع ينذر بالفوضى، يطرح تساؤلات عن ممارسة الديمقراطية وحق التظاهر وحقوق الإنسان وحرية التعبير، أم أن هذه الأسئلة تكون مشروعة فقط ويجوز التشدق بها لدول الشرق الأوسط دون غيرها؟! إن كلا من حركة السترات الصفر والتظاهرات الحالية هى دليل على وجود مشكلة أعمق وتصدع مؤسساتى وديموجرافى وديمقراطى واجتماعى وسياسى وأوروبى.

خيارات ماكرون لتهدئة الأوضاع:

مع توقف المفاوضات وازدياد الاحتدام مع الشرطة واستمرار الاحتجاجات، يبقى السؤال المهم: كيف سيتمكن ماكرون من التغلب على الانقسامات السياسية وفى الوقت نفسه يقدم للشعب الفرنسى مبتغاه من حلول. ويرى البعض أنه يجب على ماكرون فى الوقت الحالى التنازل عن تمرير القانون والجلوس للتفاوض مع النقابات للعمل على الوصول إلى أرض مشتركة فيما يخص إصلاح نظام التقاعد، لأن ما نراه اليوم أن فرنسا فى أزمة، ويوما بعد يوم وأسبوعا بعد الآخر نرى المشهد يتكرر دون بادرة أمل حيث أصبح العنف شيئا متداولا وطبيعيا ينطوى عن أزمة سياسية أشبه بالشلل السياسى الذى بالضرورة يهوى بالبلد انحدارا ولا يساعد على حل الأزمة الاقتصادية والتضخم الذى تمر به البلاد خاصة مع انخفاض الناتج المحلى الإجمالى، وزيادة ديون فرنسا التى تقترب من الوصول إلى مستويات حرجة، وازدياد نسبة الدين للناتج المحلى الإجمالى فى فرنسا التى وصلت إلى 113% ما يؤثر فى الوضع الائتمانى لفرنسا وهو مرشح للانخفاض فى أى لحظة، ما سبب ضغطا على الميزانية الفرنسية.

 ويرى ماكرون أن قانون المعاشات سيخفف من الأزمة الاقتصادية ولا يأبه بشعبيته التى فى انخفاض مستمر علما منه أن الدورة الحالية هى الأخيرة له، ولكن بعض المحللين يرون بديلا آخر عن هذا القانون وهو رفع الضرائب لزيادة الإيرادات لسد العجز الذى يسببه نظام المعاشات التقاعدية، ولكن ماكرون لن يلجأ لهذا الحل لأن فرنسا بالفعل وصلت إلى الحد الأقصى من الحصيلة الضريبة بما يوازى 45% من الناتج المحلى الإجمالى لها.

الآن وقد أصبح الوضع فى الشارع أشبه بالمستنقع الذى يؤثر فى الروح المعنوية لأفراد المجتمع، وعلى الرغم من انخفاض أعداد المتظاهرين، ووجود صدع بين المعارضة، وظهور الحكومة، أخيرا، قلقة بشأن وضعها؛ حيث قامت رئيسة الوزراء بدعوة جميع النقابات للاجتماع الأسبوع المقبل فى إشارة إلى حسن النية - فإن ماكرون مازال عازما على الاستمرار فى الاتجاه نفسه. فهل ينجح فى إقرار خطته للإصلاح، وما تبعات هذه الخطوة حال نجاحه فيها؟ وهو ما يعود بنا لخطة الإصلاح.. وهل تعد خطة عادلة أم بها ظلم للمتقاعدين؟ سؤال لايزال يطرح نفسه على الأذهان.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    ريهام المغربى

    ريهام المغربى

    محاضر بالجامعة الأمريكية