تحليلات

القوة الإعلامية والمعلوماتية فى النظام العالمى الجديد

طباعة

يقترن مصطلح القوة الناعمة ومفهومها بجوزيف ناى فى التسعينيات، فالقوة الصلبة يتم اللجوء إليها للإرغام أو العقاب على القيام بفعل أو العدول عنه بما يرضى الطرف الآخر. فى حين أن القوة الناعمة تغرى وتقنع وتحث على الاستجابة والتوافق مع أجندة صاحب القوة الناعمة.

وتشمل القوة الناعمة العناصر المستخدمة من قبل فاعل سياسى (دولة، منظمة دولية، شركة، شبكة للمجتمع المدنى) من أجل التأثير بشكل غير مباشر فى فاعل آخر بغرض حمله على تبنى وجهة نظره، وتحقيق مراميه دون الشعور بالطابع الإجبارى لهذه العلاقة. إنها مجموعة قوى نافذة تتسلل إلى  البنيات، وتتمركز أساسا فى المجال الثقافى: فنون وأنماط حياة وصور ذهنية.

تسعى الدول الكبرى إلى غزو العالم والسيطرة على الشعوب من خلال عدد من الخيارات التى تمثل الأخطر والأسهل والأكثر تأثيرا لتحقيق مصالحها من خلال ما يعرف باسم "القوة الناعمة" التى تمثل القوة الروحية والمعنوية للدولة، تمتد هذه القوة إلى خارج حدود الدولة.

وعلى عكس ما يعتقد كثيرون فإن مفهوم "القوة الناعمة" بات يخضع لمؤشرات عدة لقياسه وتعيينه تعيينا منضبطا، وبعض هذه المؤشرات يتضمن عناصر مختلفة. ويصل عدد هذه العناصر، وفق ناى، إلى 75 عنصرا ضمن ست مجموعات، هى: الثقافة (متضمنة الإعلام)، والتكنولوجيا، والتعليم، والدبلوماسية، والاقتصاد، والسياسة.

وبين المحاولات الجادة التى حاولت أن ترسى معايير لقياس "القوة الناعمة" تلك المحاولة التى أثمرت "مؤشر بورتلاند"، وهو مؤشر طوّرته مؤسسة بحثية أمريكية معروفة بمساعدة عدد من الباحثين فى أهم الجامعات الغربية. ويحدد المؤشر ستة عناصر لقياس "القوة الناعمة" فى أى دولة، ويبرز بينها مفهوم "النفاذية الثقافية" التى تتضمن الإنتاج الإعلامى، والتواصل الرقمى للدولة.

يتضح لنا إذن أن الإعلام يحتل مكانة مميزة فى قلب مفهوم "القوة الناعمة"، بسبب قدرته الفائقة على صناعة الرأى العام وتشكيله. وقد حاول "ناى" أن يصوغ العلاقة بين الإعلام والرأى العام، فقال إن "المعارك لا يمكن أن تربح فقط فى ميادين القتال، بل إن الكاسب فى الحرب هو ذلك الذى تربح قصته فى الإعلام". وببساطة شديدة، فإن هذه العبارة تعنى أن تصورات الجمهور عن الأحداث كثيرا ما تقوم مقام "الحقيقة" مهما كانت بعيدة عنها؛ وهو ما جعل كثرة من الناس يؤمنون بالقول الغربى السائر"Perception Is Reality"أى "التصور هو الواقع".

تطور النظام الاتصالى والاعلامى الدولى:

تعد فترة الحرب الباردة مرحلة جوهرية فى تطور النظام الاتصالى والإعلامى الدولى، لأنها شهدت اندماج مكونات النظام الأساسية: التكنولوجية والسياسة الاقتصادية والثقافية والنفسية فى كتلة واحدة وظفتها الأطراف المتصارعة لخدمة أهدافها الاستراتيجية فى الصراع . فقد ساعدت تكنولوجيات الاتصال، التى كانت فى حد ذاتها أحد مجالات التنافس والصراع بين الدول الكبرى، على تدويل الاقتصاد، وظهور الاقتصاد العالمى، وإلى تحول النظم الرأسمالية من مرحلة المجتمعات الصناعية إلى مرحلة ما بعد التصنيع، وظهور مجتمعات المعلومات، أو المجتمعات المتقدمة ذات الاقتصادات القائمة على "صناعة المعلومات والخدمات" وأدى الاندماج التكنولوجى/الاقتصادى، والاندماج التكنولوجى/العسكرى، والتكنولوجى/السياسى فى مجالات الاتصالات المختلفة إلى إصرار الدول المتقدمة على عدم المساس بأوضاع النظام الاتصالى الاعلامى الدولى فى جوانبه السياسية والقانونية والثقافية، وعدم قبول فكرة التعديل والإصلاح لجعله نظاما دوليا أكثر عدالة وتوازنا لمصلحة دول الشمال والجنوب، وهو ما حول أوضاع هذا النظام إلى إحدى قضايا الصراع الأساسية فى النظام الدولى فى عقدى السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، كما شهدت هذه الحقبة ذروة عمليات الضبط الاجتماعى والسيطرة على العقول، والاختراق المباشر وغير المباشر لتوجهات الدول النامية السياسية والاقتصادية والثقافية لدمجها كتوابع فى النظام الرأسمالى العالمى.

إعادة هيكلة النظام الاتصالى:

عندما انتهت الحرب العالمية، سعت الدول إلى إعادة بناء شبكاتها الاتصالية التى دمرتها الحرب، وشملت عملية إعادة البناء ربط الشبكات الوطنية بالشبكات الدولية، التى شرع فى تطويرها فى ضوء التقنيات الحديثة التى ولدتها الحرب العالمية الثانية. وكان ذلك دليلا على بداية اندماج النظام الاتصالى الدولى تكنولوجيا، وقد شهدت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ظهور اتجاهين، الأول: يسعى إلى تفكيك النظام الاتصالى القائم لإعادة بنائه على أسس جديدة من العدل والمساوة بين الدول، أما الاتجاه الثانى، فقد تمثل فى اتجاه النظام الدولى إلى إنشاء منظمات وهيئات اتصالية وإعلامية دولية تحت مظلة الأمم المتحدة لترشيد النظام الاتصالى والإعلامى الدولى.

مكانة الدولة فى سلم القوة:

لدى كل الدول إدراك لمكانتها فى سلم القوة بالنسبة لغيرها من الدول، ويتجه هذا الإدراك جزئيا لأشكال تدفق المعلومات وحجمه واتجاهاته، فالمعلومات الواردة من دولة قوية أو من دولة عدوانية قد تكون معلومات مهمة وحيوية إلى حد كبير بالنسبة لجيرانها من الدول الصغرى التى تضطر لتقرير ما إذا كان يتعين عليها الاستعداد لعدوان محتمل، أو تسعى للدخول فى تحالف مع جارتها الأكثر قوة. بيد أن ما تفعله الدول الصغرى يحتمل أن يكون أقل أهمية لدى الدول الأقوى. وعلى هذا يرى "هستر" أن كم المعلومات الذى يتدفق من الدول الأقوى إلى الدول التى تليها فى سلم القوة يفوق كم المعلومات المتدفق فى الاتجاه العكسى. وبالطبع فإن العوامل ذاتها التى تجعل من القوة عاملا محددا فى هذا الصدد والأكثر تعقيدا ينتج معلومات أكثر من غيره. وتشمل المكونات التى تحدد مكانة الدولة فى سلم القوة: حجمها الجغرافى، وعدد سكانها، ودرجة نموها الاقتصادى، وعمرها كدولة ذات سيادة.

الضبط الاجتماعى والسيادة السياسية للدول:

ترتبط عملية الضبط الاجتماعى والسيطرة على تدفق المعلومات من وإلى الدول ارتباطا مباشرا بمفهوم السيادة السياسية للدول. فمهموم السيادة السياسية يمكن أن يتسع وينكمش عن طريق المعلومات. فالدول التى تقل سيطرتها على المعلومات التى تتدفق عبر حدودها وتخل بأمنها الوطنى والاجتماعى تنكمش سيادتها الفعلية وتدرك كل الحكومات والقوى المعارضة لها هذه الحقيقة؛ ولهذا تسعى كل الأطراف إلى السيطرة على المعلومات.

النظام العالمى الجديد للمعلومات والاتصالات (NWICO):

تكمن فكرة هذا النظام فى محاولة العديد من الدول مواجهة المشكلات المرتبطة بما أطلق عليه بعضهم (الاستعمار المعلوماتى) (Information Imperialism).

فالاتصال نشاط محورى لجميع الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويدعو النظام العالمى الجديد إلى إجراء تغييرات هيكلية فى الاتصال على المستوى العالمى وصولا إلى عدالة أكثر ومساواة أكثر وتفاعل أكثر بالنسبة إلى تبادل المعلومات، فضلا عن ضرورة مزيد من الاعتماد على الذات والحفاظ على الهوية الثقافية.

ومن أبرز خصائص النظام الدولى للمعلومات هى:

1- التسارع: تتسم التغييرات فى المجتمعات تزايد سرعتها باستمرار وما يخلق فجوة كبيرة تتزايد باستمرار بينها وبين الدول النامية.

2- الانفجار المعرفى: وتمثل الإفرازات البارزة بالدعوة الصارخة إلى (نظام إعلامى عالمى جديد).

الظواهر المرتبطة بالنظام الإعلامي الدولى:

لقد أصبح العالم يواجه ظاهرتين تحدثان فى وقت واحد، إحداهما: تطور النظام الإعلامى الدولى من طابع الثنائى إلى طابع النظام الواحد، حيث أصبح القطب الواحد هو المهيمن على النظام العالمى مع وجود مراكز إعلامية أقل قدرة وأضعف نفوذا مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان، وتكمن مشكلة هذا النظام فى أن الطاقة العقلية التى تولدها تقنيات الإعلام تملك، أو تدير، غالبيتها العظمى مؤسسات إعلامية تعمل عبر الدول وتتحكم هذه المؤسسات عبر الدول فى قنوات الاتصال فى الدول الساعية للنمو، فتنساب الرسائل الإعلامية والثقافية من المركز (الدول المتقدمة) إلى الأطراف (الدول الساعية للنمو).

الفاعلون فى السياسة الخارجية:

1- الرأى العام: حيث إن قدرة الجمهور على الحصول على المعلومات واستخدامها فى تشكيل الرأى العام جزء من الوظيفة الديمقراطية، لكن حصول الجمهور على المعلومات يعد حاسما فى تشكيل الرأى العام فى قضايا السياسة الخارجية، ولذلك هناك علاقة قوية بين وسائل الإعلام والرأى العام.

2- صناع القرار: كيف يستجيب صناع القرار للرأى العام؟ لابد من أن يحصل صناع القرار على المعرفة عن الرأى العام فى القضية، لكن خطابهم يؤثر أيضا فى الرأى العام، وهم يميلون إلى قراءة استطلاعات الرأى العام. بما يتفق مع رؤيتهم، ولكن هناك فجوة معرفة أو فجوة معلومات Information gapبين القادة والجمهور، وفى الصراعات الكبرى يكون التحدى هو: كيف يمكن تقليل هذه الفجوة، وهذا يفتح المجال لدور وسائل الإعلام لصنع العلاقة بين الرأى العام وقيادة السياسة الخارجية.

3- وسائل الإعلام: إن وسائل الإعلام فاعل استراتيجى فى عملية صنع السياسة الخارجية؛ فهى تقدم للجمهور خطاب النخبة، وتقدم القصص الخبرية فى أطر تستجيب لتفضيلات القادة. ولذلك فإن دور وسائل الإعلام فى السياسة الخارجية يرتبط باستقلالها، ومدى التزامها بالأطر التى حددها خطاب القادة للصراع. ويتضح ذلك من دور وسائل الإعلام فى تشكيل الرأى العام عقب 11 سبتمبر والتزامها بالأطر التى حددها الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش.

الصورة الذهنية كمتغير فى العلاقات الدولية:

تكمن سياسات القوة فى العالم فى القدرة على صنع صورة الدولة، وهو ما يطلق عليه القوة الناعمة Soft Power. فمع تزايد أهمية الجماهير فى الشئون الدولية ازدادت أهمية عملية صنع صور الدول، ما يصعب أن نرى شيئا يتعلق بالسياسة الخارجية ولا يرتبط بالدعاية والعلاقات العامة. وأن العملية الدبلوماسية تتحول من الدبلوماسية التقليدية إلى الدبلوماسية العامة، ما يتطلب ألا تقتصر ممارسة الدبلوماسية العامة على الدبلوماسيين فقط، وإنما تمتد إلى مختلف الأفراد والجماعات والمؤسسات التى تنخرط فى أنشطة الاتصال الدولى، التى تتصل بالعلاقات السياسية.

نشر إدوارد بيرنيز أحد أهم رواد العلاقات العامة  Edward Bernaysأول مقالة علمية له عن هندسة الجمهور عام 1947. وقد استخدم فى سبيل ذلك الدعاية السياسية (البروبوجاندا) وحملات العلاقات العامة، والتدفق الإعلامى،وغيرها من الاستراتيجيات والوسائل الإعلامية التى تؤثر فى اتجاهات الجمهور، ما زاد من أهمية القوة المرنة بالاعتماد على طرق الإقناع والتأثير فى الرأى العام العالمى، والقدرة على التعبئة والحشد والحصول على المساندة، وأدى ذلك إلى وجود زخم كبير من حجم الفاعلين فى العلاقات الدولية والتأثير فى عملية صنع السياسة الخارجية للدول والسياسة الدولية بصفة عامة، وأصبح لتلك القوة الجديدة تأثيرات فى جميع المجالات وأنماط الحياة على مستوى العالم وذلك من خلال التأثير فى المجال السياسى عن طريق "تدفق المعلومات"؛ حيث تتحول المعرفة إلى قوة أساسية أقوى من قوى الإنتاج.

وتعد فكرة صناعة الرأى العام التى تحدث عنها وولتر ليبمان عام 1922إحدى وسائل هندسة الجمهور، حيث يفترض فيها قدرة النخب على تشكيل الرأى العام للجمهور والهيمنة عليهم دون استخدام القوة، من خلال إقناع قادة الرأى العام والنخب بآراء معينة.

القوة الإعلامية وفرض السيطرة:

تتميز القوة الإعلامية بأنها يمكن أن تستخدم فى فرض الاستعمار الثقافى، ولا يقتصر استخدامها على تحقيق جاذبية الدولة، وبناء سمعتها وصورتها كما يتضمن مفهوم القوة الناعمة.

هذا لا يعنى أننا يمكن أن نفصل تماما بين هذه المفاهيم الحديثة، فوسائل الإعلام من أهم مصادر القوة التى تستخدمها الدول فى بناء قوتها الناعمة، وتحقيق أهداف سياستها الخارجية، وبناء علاقاتها الطويلة المدى مع الشعوب.

مراحل التطور التكنولوجى للمعلومات:

شهدت الخريطة الاتصالية قفزات تكنولوجية وإعلامية هائلة ومتسارعة، فمنذ منتصف الستينيات عندما وضع أول قمر صناعى للاتصالات فى مدار قريب من الأرض والدخول فى الألفية الثالثة،فإن تكنولوجيا الاتصال أصبحت عنصرا ملازما لكل مظاهر الحياة العصرية، كما أن "مصطلح تقانة الاتصال" يعنى التقنيات والمؤسسات والأساليب التى بواسطتها تتيح المعلومات وتعلب وتوزع على مستقبلين متفرقين فوق رقعة جغرافية.

ويمكن تعريف التكنولوجيا بأنها: مجموعة من النظم والقواعد التطبيقية وأساليب العمل التى تستقر لتطبيق المعطيات المستحدثة لبحوث أو دراسات مبتكرة فى مجالات الإنتاج والخدمات كونها التطبيق المنظم للمعرفة والخبرات المكتسبة التى تمثل مجموعات الوسائل والأساليب الفنية التى يستعملها الإنسان فى مختلف نواحى حياته العملية ومن ثم فهى مركب قواه المعدات والمعرفة الإنسانية. كذلك فإن التكنولوجيا: هى مجموعة المعارف والخبرات المكتسبة التى تحقق إنتاج سلعة أو تقديم خدمة وفى إطار نظام اجتماعى واقتصادى معين.

ومن منظور اتصالى، يمكن القول إن تكنولوجيا الاتصال هى مجموع التقنيات والأدوات أو الوسائل أو النظم المختلفة، التى توظف "لمعالجة المضمون أو المحتوى" الذى يراد توصيله بعملية الاتصال الجماهيرى أو الشخصى أو التنظيمى أو الجمعى، التى بها تجمع المعلومات والبيانات المسموعة أو المكتوبة أو المصورة أو الإلكترونية، ثم تخزين هذه البيانات والمعلومات، ثم استرجاعها فى الوقت المناسب، ومن ثم عملية نشر هذه المواد الاتصالية أو الرسائل أو المضامين.

أما تكنولوجيا الاتصال والمعلومات فهى كل ما ترتب على الاندماج بين تكنولوجيا الحاسب الآلى والتكنولوجيا السلكية واللاسلكية والإلكترونيات الدقيقة والوسائط المتعددة من أشكال جديدة لتكنولوجيا ذات قدرات فائقة على إنتاج المعلومات وجمعها وتخزينها ومعالجتها ونشرها، وقد مهدت تكنولوجيا الاتصال والمعلومات الطريق للانتقال من المجتمع الصناعى الى مجتمع المعلومات.

مجتمع المعلومات Information Society:

كان أول ظهور لمصطلح "مجتمع المعلومات" فى اليابان فى الستينيات من القرن الماضي، وذلك فى كتاب بعنوان:"مجتمع المعلومات:من المجتمع الصلب إلى الناعم" "TheInformation Society: From Hard to Soft Society"، الصادر عام 1969 لـ "ujiro Hayashi"، وكتاب "مقدمة لمجتمع المعلومات" "Introduction to an Information Society"، الصادر عام 1968 لـ "Yoneji Masuda and KonichiKohyma"وقد ارتبط المفهوم فى البداية بوصف التغيرات الاقتصادية والاجتماعية السريعة فى المجتمع الناجمة عن عملية التحديث فى "المجتمعات ما بعد الصناعية" Post  Industrial Societies(١)، لكن منذ منتصف التسعينيات ارتبط المفهوم بصورة أكثر بالتطورات التكنولوجية داخل المجتمع الناجمة عن الموجة الثالثة المتمثلة فى الثورة المعلوماتية، ورغم استخدامه فى البداية بقصد تحرير جميع أشكال الاتصالات، فإنه توسع تدريجيا ليشمل كل الأبعاد المادية والبرمجية Hardware and Softwareالخاصة بالإنترنت، ثم توسع أيضا ليشمل جميع الأدوات المتعلقة بالتعامل مع المعلومات، سواء كانت جمع أو تخزين أو تداول أو استرجاع أو تحليل المعلومات (٢).

أُطلق مصطلح "اقتصاد المعرفة Knowledge Economy" للمرة  الاولى  على النظام الاقتصادى القائم فى الولايات المتحدة وذلك عوضا عن مصطلح "الاقتصاد الصناعى industrial Ecnomy" التقليدى. الأمر الذى يعبر بدوره عن بدء مرحلة جديدة من مراحل التحول فى المجتمع الإنسانى، غير أن ذلك لا يعنى بالضرورة انتقال جميع دول العالم إلى "اقتصاد المعرفة" نتيجة صعوبة توفير المقومات الضرورية لإقامة النظام الاقتصادى الجديد.

لكن مجتمع المعلومات ذاته لم يكن وليد العقدين أو الثلاثة الأخيرة، وإن كان مفهوم مجتمع المعلومات قد تبلور وأخذ منحى عالميا من الانتشار خلال العقد الأخير فقط وخاصة بعد قمة جنيف للمعلومات 2003، ومن ثم فإن إرهاصات مجتمع المعلومات تمثلت فى عدة ابتكارات حديثة وقديمة انتشر بعضها فى القرن التاسع عشر: كالهاتف، والتلغراف، أو القرن العشرين كالتلكس، والفاكس،والراديو، والتلفزيون،والكمبيوتر؛ وهى الأدوات التكنولوجية التى أحدثت طفرة فى عالم المعلومات والتواصل الإنسانى. غير أن هذه الإرهاصات جميعا قد توجت مع أواخر القرن العشرين بظهور الإنترنت وانتشاره عالميا محدثة طفرة هائلة فى عالم التواصل الإنسانى وموجدة خضما هائلا من المعلومات والمعرفة.

فمجتمع المعلومات هو نتاج عملية تطور بعيدة الأمد وليست حديثة العهد بينما تمتد جذورها إلى أكثر من مائة عام، وهى عملية التطور التى أدت إلى ظاهرة الانفجار المعلوماتى الناتج عن التطور التكنولوجى الهائل والتكنولوجيات الحديثة المحيطة بنا، وهو الانفجار المعلوماتى الذى يعد سببا رئيسيا للعديد من التغيرات الهائلة التى من بينها بزوغ نجم مجتمع المعلومات.

ومن ثم نخلص إلى أن مجتمع المعلومات عبارة عن مزيج متجانس من ثلاثة محتويات رئيسية هى: المعلومات، والاتصالات، والتكنولوجيا؛ وهى المقومات الثلاثة الرئيسية التى تعتمد عليها مجتمع المعلومات المعاصر لاستحداث معرفة ذات قيمة مضافة فى إطار مقومات بيئة الابتكار والابداع.

بيئة المعلومات Information Environment:

يشير مصطلح بيئة المعلومات إلى المعلومات السياسية المتدفقة فى وسائل الإعلام، وتشمل: التقارير الإخبارية والتعليقات والمفاتيح المتضمنة فى خطابات الصفوة.

وتحدد المعلومات طبيعة التأثير الذى تحدثه وسائل الإعلام، وقد فرق جون زيلر بين نوعين من البيئات المعلوماتية، أحدهما يتضمن رسائل أحادية الاتجاه، والثانى يتضمن رسائل مختلفة الاتجاه، ولا يشترط أن يكون كل اتجاه مساويا للاتجاه الآخر فى القوة.

ويشير الباحثون إلى بيئة الرسائل المتعددة الاتجاهات أكثر تعقيدا من الناحية المعرفية، وتدفع بالمتلقين إلى البحث عن مفاتيح، تدلهم على الرسائل التى يجب أن يتبعوها، حيث إنها تقدم لهم ثروة من المعلومات والمفاتيح التقييمة المتنوعة، ويترتب على صعوبة وصول هذه الرسائل إلى التلقين، على عكس البيئة المعلوماتية الأكثر بساطة وصفاء، التى تقتصر على الرسائل الأحادية الاتجاه التى يسهل وصولها إلى المتلقين.

الحرب فى العصر الرقمى:

إن الإسهامات التى اقترحها "جيمس ديران" منظر العلاقات الدلية، تكشف عن وضع التكنولوجيا فى ظهور شكل عالمى من أشكال "العنف الافتراضى" "Virtual violence"،وما يمثله من خوض الحروب من مسافة بعيدة؛ حيث إن العنف العسكرى هو أكثر الوسائل فعالية لحل المشكلات السياسية التى تبدو صعبة الحل. ويضيف "Deer Derain" أن الحرب تستغل التكنولوجيات الرقمية لإظهار أخلاقيات القتل فى صورة متناقضة بنحو حاد مع أشكال الحرب السابقة، فالحقيقة تتداخل مع الخيال، مع دمج الجانب الإفتراضى للجانب الواقعى فى عمليات المحاكاة بالحاسوب، فتحجب هوية المسئول، ومن ثمهوية من يجيب أن يحاسب.

إن الإشارة إلى ظهور التكنولوجيات الرقمية قد أعاد صياغة الفروق المألوفة بين الحروب "القديمة" والحروب "الجديدة" التى تؤدى إلى إثارة الجدل حول عدد من القضايا المثيرة للاهتمام.

وفى ضوء ذلك، هناك حزمة من أنوع الحروب، كل واحد منها يتوافق مع نماذج مختلفة من التحولات التى تشهدها الدول التى تتكشف وضوحها داخل بيئة ما بعد الحرب الباردة. ويكون وصف تلك الأنواع على النحو التالى:

حروب الشبكات Network Warfare:

يستخدم هذا المصلح لوصف الشبكات المسلحة للدولة والفاعلين من غير الدول non-stat actorsمثل وحدات القوات النظامية، أو غيرها من أجهزة الأمن، وكذلك الجماعات شبه العسكرية، وأمراء الحرب، والخلايا الإرهاربية، والجماعات الإجرامية المنظمة والمرتزقة، وما إلى ذلك. وتتألف هذه الشبكات من تحالفات أفقية غير متماسكة، وتخوض شكلا من أشكال الحرب التى تعبر بوجه عام عن "الحروب الجديدة"، وتلجأ هذه الشبكات إلى سردية مشتركة- تعتمد فى الأغلب على أيديولوجية سياسية متطرفة- وتتمثل "الاستراتيجية" فى كسب القوة السياسية.

الحرب المشاهدة Spectacle Warfare:

إن السمة المميزة لهذا النوع هى إدارة الحرب على "مسافة طويلة"، إما من خلال استخدام تكنولوجيا الطائرات والصواريخ، وإما عن طريق وكلاء، لمنع وقوع خسائر بشرية. وتعد حرب الخليج (1990- 1991) نموذجا لهذا النوع من الحروب على نطاق واسع؛ حيث مارست إدارة الإعلام بالمثل دورا فى ضمان التقليل من تأثير الأضرار الجانبية، فيما يتعلق بالرأى العام الغربى.

حرب الحداثة الجديدة New-Modern Warfare:

وهذا النوع من الحروب يحتوى على "تطور القوات العسكرية الكلاسيكية فى الدول التى تمر بمرحلة انتقالية كبيرة" التى تشير من خلالها إلى بلدان مثل روسيا والهند والصين؛ حيث تحدث عملية تحويل الاقتصاد المركزية إلى نظام دولى أكثر توجها نحو السوق.

وقد أصبحت وسائل الإعلام الإخبارية بمنزلة المنصة الحاسمة أو سيناريو الإنتاج الذى تأخذ منه استراتيجيات العمليات العسكرية توجيهاتها، وذلك إلى درجة أن الحروب البعيدة تقدم بوصفها "رياضة مشاهدة" بالنسبة إلى المجتمعات الغربية، وهذا يستتبع أن أهمية التغطية الإخبارية تستحق اهتماما وثيقا عند تتبع كيف كان ينظر إلى الحروب القديمة والجديدة الافتراضية، إلى جانب توقع هجمات سيبرانية فى ضوء الصراعات العسكرية.

الحرب من أجل الرأى العام:

إن أهمية كسب "قلوب وعقول" الرأى العام، وهى حملة يشير إليها أحيانا المخططون العسكريون باسم "ساحة المعركة الثانية" Second battlefield، التى اعترف بها منذ فترة طويلة بوصفها مصلحة حيوية فى حد ذاتها. وعلى مدى العقد الماضى تطورت أساليب "إدارة الإدراك" Perception managementبنحو متزايد، وفى الوقت الذى جرى فيه التدخل فى كوسوفو بقيادة الولايات المتحدة على سبيل المثال، كان المسئولون العسكريون يسعون جاهدين إلى إعادة صياغة العلاقة العسكرية والإعلامية فى ضوء الدروس المستفادة من النزاعات السابقة فى ذلك العقد، وقد ساعد ظهور خدمات الأخبار التلفزيونية العالمية فى الوقت الحقيقى على مدى 24 ساعة، بقيادة شبكة "CNN" فى تحويل الصراع إلى مشهد إعلامى متسلسل، فضلا عن الدور المؤثرالذى مارسته CNNفى مجال الدبلوماسية التلفزيونية telediplomacy.

إن الممارسات الصحفية دفعت غرف الأخبار إلى وضع مفهوم "حروب المعلومات" لمعالجة الأحداث والتحولات السياسية من مسرح الحرب إلى الجمهور فى أماكن بعيدة، فى ظل بيئة المعلومات الواسعة التى تستند إليها عملية تفسير الأحداث غير المتوقعة.

ما تنشره وسائل الإعلام الجماهيرية عن الشئون الدولية، هو الذى يحدد صورة الدولة وسمعتها. وأظهرت دراسات عدة أو وسائل الاتصال تختار الأنباء الدولية التى تنشرها طبقا لمعايير تشبه إلى حد كبير المعايير التى تختار بها الأنباء المحلية. فالدول التى تتبوأ مكانة عالية فى المجتمع الدولى غالبا ما تحظى بالاهتمام فى صحف الدول المعنية. وتؤدى المصالح الاقتصادية والعلاقات الأيديولوجية دورا فى أن تحظى دول معينة بتغطية كبيرة واهتمام كبير فى وسائل اتصال الدول الأخرى.

حرب المعلومات:

إن ثورة المعلومات كانت الركيزة الأساسية للعولمة فى اتجاهاتها المختلفة إعلاميا واقتصاديا وسياسيا؛ فقد أتاحت المعلومات وتقنياتها للشركات المتعددة الجنسية والكيانات الإعلامية الكبيرة أن تبرمج خططا باتجاه اختراق الحدود الوطنية للدول الأخرى وفرض علاقات جديدة بدأت انتهاكا لسيادة البلدان الأخرى، لاسيما عندما تستعمل فى الاتجاه الذى يخدم مصالح وسياسات البلدان الأخرى. وقد تكون المعلوماتية العنصر الأهم والسلاح الأهم ضمن أسلحة العولمة. فالمعلوماتية تمتلك خاصية تنفرد بها عن باقى التغيرات الجديدة، تلك هى إمكاناتها فى التأثير وتجاوز الثقافات وحتى الاشتراك فى صناعتها.

ويطلق على الأسلوب الجديد الذى يحظى باهتمام المؤسسة العسكرية الأمريكية اصطلاح "عقيدة المعلومات" (Information Doctrine) حيث توصف المعلومات بأنها رصيد استراتيجى، وأن مجال المعلوماتية هو سبيلها لسيطرة الولايات المتحدة العالمية. إن السيطرة الإعلامية تتم عبر التحكم فى تدفق المعلومات الذى تقوم به وكالات الأنباء والصحف الدولية، فى معظم الدول النامية دون أى عوائق أو حواجز، مستعينة فى عملها هذا بتكنولوجيا العصر المتقدمة المتمثلة بالتوابع الفضائية لشبكات الإعلام التى تسيطر عليها الاحتكارات الدولية الكبرى.

إدارة المعرفة كمحرك للقوة:

تعمل معظم الدول، فى عالم يتسم بالتغير المتسارع فى أنساق القوة وموازينها، وغلبة المصالح على التفاعلات الدولية، على إيجاد صيغ جديدة للرفع من قدرتها التنافسية والتعزيز من مصادر قوتها فى إدارتها للصراع. ذلك أن الحفاظ على مصالحها يعد الضابط الرئيسى لقواعد اللعبة، إلى جانب القوة وموازين القوى. ويبرز دور المعرفة، كقوة ناعمة تسهم فى تغيير التفاعلات الدولية فى مجال الصراع، بحسبانها ميزة تنافسية حقيقية يمكن للدولة من الاستفادة الكاملة من المعارف الواضحة، والمعارف الضمنية التى تعمم داخل بيئتها الداخلية والخارجية.

فدون مثل هذه الإجراءات التى تهدف لإدارة المعرفة، سيضطر صناع القرار تجديد دورة الحياة(السياسية، والمدنية، والحقوقية، والاقتصادية، والاجتماعية،والثقافية) باستمرار، عبر اللجوء إلى الخبراء والتجارب الخارجية التى لا يمكن تحمل تكلفتها، وانعكاساتها على الوعى الاجتماعى للشعوب، والمسار التاريخى للأحداث التى تتبنى المعرفة، كمحرك للقوة الناعمة، على ثلاث ركائز أساسية، الأولى: المعلومات كمصدر رئيسى للسلطة،الثانية:طبيعة التفاعل تجاه المعلومات،الثالثة والأخيرة:القدرة على الابتكار عبر استخراج عناصر للقوة من هذه المعلومات.

ختاما: إن علماء الاتصال أدركوا أن وسائل الاتصال التى اندمجت وتفاعلت مع التطور التكنولوجى المتسارع، أضحت سلاحا خطيرا ومؤثرا فى إطار العلاقات الدولية، وفى المساهمة بصياغة محيط المصالح والغايات لجميع الدول،بينما الأسلحة المعلوماتية تعكس عدم تكافؤ هائل بين الفواعل، فى شن حرب المعلومات. ففى عصر الكاميرا الرقمية والموقع الإلكترونى، قد يتمكن الطرف الأضعف (الذى يدرك تماما أن وسائل الإعلام هى ظواهر معولمة) من عرقلة الادعاءات المزيفة للطرف الأقوى وتفنيدها والرد عليها فى كثير من الأحيان، فقد أعاد التطور التكنولوجى والمعلوماتى تشكيل مفهوم القوة، وأعد ظهور فواعل جديدة.

وبات جليا أن من يمتلك آليات توظيف القوة الإعلامية والمعلوماتية يصبح أكثر قدرة على تحقيق أهدافه والتأثير فى أداء الفاعلين المستخدمين لهذه البيئة، فكان لثورة المعلومات والاتصالات انعكاساتها فى ربط المصالح القومية للدول بالبنية التحتية الحيوية لها.

لذا، تتطلب القوة الإعلامية مضاعفة قوتها المعلوماتية وتطوير الإمكانات بما يتناسب وتوظيف التقنية المستحدثة بشكل محترف،ما يتطلب توفير الآليات اللازمة لمواجهة تلك التحديات، فضلا عن التنسيق بين مصادر القوة لتحقيق أهداف الدولة، والسعى لتحقيق التوازن بين مصادر القوة المختلفة.

قائمة المراجع:

إيهاب خليفة – مجتمع ما بعد المعلومات، دار العربى للنشر والتوزيع 2019.

حسن عماد مكاوى، تكنولوجيا الاتصال الحديثة فى عصر المعلومات، الدار المصرية اللبنانية 1993 ص 96.

راسم محمد الجمال، العلاقات العامة الدولية والاتصال بين الثقافات، الدار المصرية اللبنانية، 2009.

راسم محمد الجمال، نظام الاتصال والإعلام، الضبط والسيطرة، الدار المصرية اللبنانية، ط4،2014.

سامى السلامى، البيانات الضخمة وتغير مفهوم القوة فى النظام العالمى، ملحق اتجاهات نظرية، مجلة السياسة الدولية، العدد 2019 يناير 2022 المجلد 55 ، ص 22.

سليمانسالم صالح، وسائل الإعلام والرأى العام ، نظريات جديدة لتشكيل الرأى العام فى القرن الحادى والعشرين، مفكرون الدولية للنشر والتوزيع، 2019، ص 162.

سهام الشجيرى، وكالات الأنباء والتحكم الإخبارى، دار أسامة للنشر والتوزيع، 2014.

شريف درويش اللبان، تكنولوجيا الاتصال، المخاطر والتحديات والتأثيرت الاجتماعية، الدار المصرية اللبنانية، ط1 ، 2000، ص ص 102 :103.

شيماء ذو الفقار زغيب، نظريات فى تشكيل اتجاهات الرأى العام، الدار المصرية اللبنانية، ط22،2009، ص 102.

عادل عبد الصادق، الإرهاب الإلكترونى، القوة فى العلاقات الدولية، مركز الدراسات السياسية  والاستراتيجية، الأهرام، 2009.

على فرجانى، التقنيات الرقمية وتطبيقاتها فى الإعلام، الذكاء الاصطناعى وإدارة المحتوى، الدار المصرية اللبنانية، 2021.

على فرجانى، محددات القوة الناعمة واستراتيجيات الترويج السياحى، مجلة رؤى مصرية، مركز الأهرام للدراسات الاجتماعية والتاريخية، نوفمبر 2017.

كيت أورتون، جونسون، علم الإجتماع الآلى، سلسة عالم المعرفة، 2021.

ياسر عبد العزيز، كيف تربح معركة نصفها فى الإعلام؟ موقع العربية الإلكترونى، متاح على

https://bitly.is/3Z5B23Z

Mody,First World Communcation Technologies in Third World Contexts p 135

سليمان سالم صالح، مفهوم القوة الإعلامية: كيف تستخدم الدول وسائل الإعلام لبناء قوتها؟ موقع الجزيرة الإلكترونى،متاح على: https://bit.ly/3LIfBTl

 


 

 


 

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    علي فرجاني

    علي فرجاني

    باحث في صحافة الذكاء الاصطناعي والفضاء السيبراني