من المجلة - ملف العدد

إجراءات التكيف ومعضلات التمويل أمام الاقتصادات النامية: المشروطية المناخية

طباعة

تواجه دول العالم النامي تحديات اجتماعية واقتصادية وبيئية تفاقمها الآثار السلبية لتغيّر المناخ الواضحة جلياً فى مختلف القطاعات كالمياه والزراعة، والبنية التحتية، والصحة، والسياحة. وتسهم هذه الآثار فى زيادة هشاشة اقتصادات الدول النامية وانكشافها أمام مواجهة أخطار الكوارث. يتطلب التعامل مع هذه الأخطار والكوارث اتخاذ إجراءات للتكيف مع التغيرات المناخية من خلال تبني مجموعة من السياسات والممارسات والمشاريع التي تهدف إلى إحداث تحسين ورفع كفاءة البنى الاجتماعية والاقتصادية والأنظمة البيئية، لزيادة مرونةِ هذه النظم وجعلها أكثر قدرة على مجابهة الآثار المحتملة لتغير المناخِ والاستفادة من الفرص المتاحة. غير أن تنفيذ هذه السياسات والمشروعات فى الدول النامية يتطلب توافر تمويلات ضخمة تفوق القدرات المالية لتلك الدول، وتحتاج إلى اللجوء إلى الصناديق ومؤسسات التمويل الدولية. بيد أن اللجوء إلى هذا الخيار يمثل تحديا كبيرا خاصة مع اتجاه مؤسسات التمويل الدولية إلى تقييد منح التمويل للأنشطة والمشروعات التنموية بالدول النامية ما لم تلتزم بمجموعة معايير متعلقة بخفض الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية فى إطار ما بات يعرف بالمشروطية المناخية.

نتناول بالتحليل، هنا، تنامى احتياجات التكيف مع تغيرات المناخ فى الدول النامية مع ما يقابلها من قيود على التمويل الموجه لمشروعات التكيف من جانب مؤسسات وصناديق التمويل الدولية، والحاجة إلى تطبيق العدالة المناخية بين دول العالمين النامى والمتقدم.

أولا- ارتفاع تكاليف التكيف مع التغيرات المناخية:

تتصاعد مخاطر التغير المناخى بشكل كبير لدرجة أنها قد تطغى على قدرة كل من الطبيعة والبشر على التكيف، ما لم يتم اتخاذ إجراءات حاسمة وسريعة لتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وفقا لمؤشر اقتصادات المناخ الصادر عن معهد «Swiss Re Institute»، من المتوقع أن يخسر الاقتصاد العالمى نحو 10% من الناتج المحلى الإجمالى بحلول عام 2050، إذا ظل تغير المناخ على المسار المتوقع حاليًا بمقدار 2-2.6 درجة مئوية بحلول منتصف القرن الحالي، ولم يتم الوفاء بتعهدات اتفاق باريس للمناخ للإبقاء على ارتفاع درجات الحرارة بأقل من درجتين مئويتين. أما فى السيناريو الحاد لارتفاع درجات الحرارة بمقدار 3.2 درجة مئوية، فيمكن أن تكون خسارة الناتج المحلى الإجمالى العالمى أعلى وقد تصل إلى 18%. وستكون اقتصادات دول جنوب شرق آسيا (الآسيان) الأكثر تضررا، يليها دور إفريقيا والشرق الأوسط، ودول أمريكيا اللاتينية(1).

لا شك فى أن التغيرات المناخية تؤثر فى دول العالمين المتقدم والنامى على السواء، إلا أن الدول الفقيرة أكثر تعرضاً لمخاطر المناخ من الدول الغنية. فقد تسببت موجات الجفاف والفيضانات والعواصف فى مقتل 15 ضعفا بالدول النامية -فى إفريقيا وآسيا- مقارنة بالدول الأكثر غنى، وذلك خلال الفترة 2010 إلى 2020(2). فقد تعهدت الدول الغنية -المسئولة عن النصيب الأكبر من الانبعاثات الكربونية- فى مؤتمر بالعاصمة الدنماركية كوبنهاجن عام 2009 بتقديم مساعدات مالية للدول النامية لموجهة التهديدات المستقبلية الناجمة عن التغيرات المناخية وللتعويض عن الأضرار التى لم تستطع تجنبها، وقُدرت التعهدات المالية بنحو 100 مليار دولار سنوياً، إلا أن هذه التعهدات لم يتم الوفاء بها. وقد وصلت مساعدات الدول المتقدمة لتمويل العمل المناخى إلى نحو 79.6 مليار دولار عام 2019(3). وتمثل قضية تحويل التعهدات إلى التنفيذ محور اهتمام اجتماع قمة المناخ المقبلة (cop27) للأمم المتحدة فى مصر فى نوفمبر 2022. من جهة أخرى، ذهبت تقديرات منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية (OECD) إلى وفاء الدول المتقدمة بتعهدات كوبنهاجن بحلول عام 2023، شكل رقم (1) وفقاً لسيناريو طموح لتقديم المساعدات المالية للدول النامية المُعرضة بشكل كبير لمخاطر المناخ.


-


-

وفقاً لما أُشير إليه أعلاه، تقدم الدول المتقدمة مساعدات مالية للدول النامية، وهناك هيئات ومؤسسات عالمية متنوعة معنية بأمور البيئة وهى التى تمول المشروعات الخاصة بتغيير المناخ، وعلى رأس هذه المؤسسات صندوق التمويل الاخضر (Green Climate Fund GCF) والذى أُنشئ فى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخى لمساعدة الدول النامية فى ممارسة سياسات التكيف والتخفيف لمواجهة التغير المناخي. ويلاحظ أن 79% من إجمالى التمويل تأتى عن طريق صندوق التكنولوجيا النظيفة (وهو أحد الممولين الرئيسيين التابع لصندوق الاستثمار المناخي) وصندوق المناخ الأخضر، إلا أن التمويل المقدم أقل مما هو مطلوب للدول النامية، كما أنه لا يوجد توازن فى التمويل ما بين مشروعات التخفيف والتكيف، حيث نص اتفاق باريس للمناخ عام 2015 على أنه يجب أن يكون هناك توازن فى التمويل فيما بينهما(4).


توزيع تمويل المناخ (2019) / صندوق النقد العربى وآخرون (2020)، التقرير الاقتصادى العربى الموحد.

ومع ذلك، فإن الشكل رقم (2) يظهر أن 79٪ من توزيع تمويل المناخ تذهب إلى المشاريع المرتبطة بالتخفيف فقط مقارنة بالمشاريع المرتبطة بالتكيف، كما أن المخصصات المالية غير كافية. ففى سعيها للوصول إلى أهداف خفض الانبعاثات، تخلط الدول المتقدمة بين شيئين، وكلاهما ضرورى لتجنب أسوأ آثار لتغير المناخ. فالتخفيف Mitigationيعنى خفض الانبعاثات، ويجب أن يأتى تخفيف الانبعاثات بشكل أكبر من الدول الغنية والدول متوسطة الدخل، المسئولة عن الغالبية العظمى من انبعاثات الكربون. بينما يعنى التكيف Adaptationتحسين القدرة على الصمود مع تغير المناخ، هذا التكيف ضرورى لإنقاذ الأرواح فى البلدان الأكثر فقرا والأكثر ضعفا. ويتطلب التكيف استثمارات فى تحسين الإسكان، والنقل، والتعليم، والبنية التحتية، وإدارة المياه، والتكنولوجيا الزراعية(5).

كما خلص تقرير فجوة التكيف Adaptation Gap Report 2021إلى أن هناك حاجة ملحة لزيادة تمويل تكيف المناخ ما بعد جائحة كوفيد-19، وأن هناك زيادة فى تكاليف التكيف المقدرة بالدول النامية بمقدار خمسة إلى عشرة أضعاف التدفقات الحالية لتمويل التكيف، علاوة على أن الفجوة فى تمويل التكيف آخذة فى الاتساع بالدول النامية. وأظهرت تقديرات تقرير التكيف 2021 أن الدول النامية تحتاج سنوياً لنحو 70 مليار دولار من أجل تحقيق التكيف. كما أن عدم الالتزام بمعايير اتفاقية باريس للمناخ والسياسات المناخية من شأنها أن تزيد التكاليف السنوية للتكيف مع تغير المناخ فى الدول النامية وقد تصل إلى 300 مليار دولار عام 2030، ونحو 500 مليار دولار بحلول عام 2050(6).

ثانيا- التكيف والعدالة المناخية بين العالمين النامى والمتقدم:

تؤدى التغيرات المناخية إلى تفاقم المشكلات المتعلقة بالنمو السكانى السريع والفقر الحالى والاعتماد الشديد على الزراعة والبيئة، لاسيما فى الدول النامية التى لديها قدرة محدودة للغاية للتعامل مع المشكلات التى يسببها تغير المناخ. فمع بدء اهتمام الدول النامية بقضايا المناخ، برز مفهوم العدالة المناخية كموضوع وإطار أخلاقى وقانوني. يسلط مفهوم العدالة المناخية الضوء على الآثار غير المتناسبة للتغيرات المناخية على السكان الأكثر ضعفاً وتهميشاً، فضلاً عن قيود الاستجابات السياسية التقليدية لتفاقم عدم الاستقرار المناخى والحاجة الملحة إلى حلول منهجية(7).

وقد ظهرت أفكار ومنهجيات عديدة لتطبيق مفهوم العدالة المناخية بحسب تعدد الإيديولوجيات والفاعلين والمنتفعين، فمنها المدخل الأيديولوجى الذى يحصرهم فى منظورين متناقضين، إما المنظور الليبرالى أو المنظور التنموي. وهناك المدخل المكانى الذى يهدف للوصول لسياسات مناخية عادلة بين الشمال والجنوب، حيث اهتم سكان الجنوب بشكل عام بتوزيع الأعباء والعدالة الإجرائية من خلال إشراك جميع الأطراف المعنية للوصول لاتفاق، بما فى ذلك نقل الموارد من الدول ذات الانبعاثات العالية إلى المنخفضة للتكفير عن الانبعاثات التاريخية الزائدة، بمعنى أنه ينبغى السماح للعديد من الدول الأكثر فقراً بالانبعاث أكثر مع خفض أغنى الدول لانبعاثاتها إلى مستويات آمنة، وهو ما يعرف باسم «الانكماش والتقارب» وتتحمل الدول الغنية نسبياً الانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون، بحسب مؤشر المسئولية والقدرة. فالولايات المتحدة يجب أن تتحمل ثلث العبء العالمى للتخفيف، ويأتى الاتحاد الأوروبى بنسبة 25.7%، والصين بنسبة 5.5% (أقل بكثير من حصتها من الانبعاثات الحالية) والهند فقط 0.5%  وفقاً لحساب الانبعاثات التاريخية(8).

أدى تنوع المنهجيات المختلفة لتناول مفهوم العدالة المناخية إلى تنوع استجابة الدول وفقاً لمكانة الدولة «الشمال-الجنوب». فدول الشمال تدافع عن حماية مصالحها الاقتصادية وأمنها القومي، وترى أن المسئولية البيئية مشتركة بين الدول كافة ما دامت انعكاسات التغيرات البيئية عالمية، كما أنها ترى أن المرجع للتعاون البيئى بين دول الشمال والجنوب هو تفعيل بروتوكول كيوتو(9). أما دول الجنوب «الدول النامية»، فتتمسك بالمسئولية التاريخية للدول الرأسمالية عن الأضرار البيئية التى لحقت بالبشرية كلها منذ الثورة الصناعية الأولى. كما ترى أنه من حق الدول النامية أن ترفض كل رقابة دولية بيئية على صناعاتها الناشئة، وأنه يجب أن تُمنح للدول النامية الفرص والإمكانيات نفسها لتعزيز التطوير الاقتصادى وتكثيف التصنيع وفق مبدأ الحق فى التنمية. وتدافع عن هذه الرؤية مجموعة الـ 77 والصين كإحدى أهم مجموعات الدول النامية(10).

لكن مع تعدد المنهجيات، زادت المخاطر البيئية فى ظل عدم وجود أى عدالة مناخية فى تناول إشكاليات التغيرات المناخية. فدول الجنوب تتأثر أكثر من غيرها، كما أنها تحتاج إلى إمكانيات أكثر من غيرها. وبالمقارنة الاستثمار المطلوب لتجنب المستويات الخطيرة لتغير المناخ، فإن التعهد البالغ 100 مليار دولار يعد ضئيلا للغاية، وستكون هناك حاجة إلى تريليونات الدولارات كل عام لتحقيق هدف اتفاقية باريس لعام 2015 المتمثل فى تقييد الاحترار العالمى إلى «أقل بكثير» من درجتين مئويتين، إن لم يكن 1.5 درجة مئوية، فوق درجات حرارة ما قبل الثورة الصناعية. وستحتاج الدول النامية (كما يطلق عليها فى تعهد كوبنهاجن) إلى مئات المليارات من الدولارات سنويًا للتكيف مع الاحتباس الحرارى الذى لا مفر منه(11).

ثالثا- معضلات التكيف المناخى بالدول النامية:

 تحاول الدول النامية أن تضع لنفسها خططا مستقلة وصورة وطنية للتكيف مع التغيرات المناخية. إلا أن هناك العديد من الإشكاليات التى تواجه الدول النامية نتيجة ضعف الموارد وضعف الميزانيات إلى جانب ضعف الخبرات العلمية والبيانات الوطنية المتاحة عن تداعيات وتأثيرات التغيرات المناخية.

فعلى الرغم من أن الدول الغنية كان لها دور بارز فى حدوث التغيرات المناخية التى يشهدها العالم، فإن الدول الفقيرة هى التى تتحمل معظم آثاره وتداعياته، وفق ما توصلت إليه دراسة حديثة، أجراها فريق من الباحثين الدوليين فى جامعات «إكستير» البريطانية و«فاجينينجين» الهولندية و«مونبلييه» الفرنسية، مشيرةً إلى أن «الدول الاستوائية، التى تميل إلى أن تكون أكثر فقرًا وأقل إسهاما فى انبعاثات الغازات الدفيئة، مقارنةً بدول نصف الكرة الأرضية الشمالى الأكثر ثراءً، ستعانى تقلبات كبيرة فى درجات الحرارة، ما يزيد من ظاهرة عدم المساواة المتصلة بالمناخ»(12). وقد حذر تقرير للبنك الدولى من أن التغيرات المناخية قد تؤدى إلى غرق نحو 100 مليون شخص فى الدول الفقيرة بحلول عام 2030. وأوضح أن ارتفاع درجات الحرارة يمكن أن يؤدى إلى تدهور 5% من إنتاجية المحاصيل بحلول عام 2030. وفى إفريقيا، قد يصل هذا المستوى إلى 12%(13)، إلى جانب أن ارتفاع درجة الحرارة بين درجتين إلى 3 درجات مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية سوف يضع 150 مليون شخص آخرين فى دائرة الإصابة بالملاريا وحدها فى الهند، كما يمكن أن يؤدى إلى دخول 45 مليون شخص دائرة الفقر بحلول عام 2030 من جراء الصدمات الزراعية والأمراض الناجمة عن التغيرات المناخية. وأشار التقرير إلى أن نحو 702 مليون شخص -يمثلون نحو 9.6% من سكان العالم- يعيشون فى فقر مدقع بسبب التغيرات المناخية(14).

وفى تقرير آخر، حذر البنك الدولى من أن منطقة إفريقيا جنوب الصحراء ستشهد نوبات جفاف وحر شديد بحلول ثلاثينيات هذا القرن، ما قد يؤدى إلى عدم صلاحية 40% من الأراضى المستخدمة الآن فى زراعة الذرة، وقد يتسبب فى إلحاق خسائر جسيمة بأراضى السافانا العشبية، الأمر الذى يهدد سبل الرزق القائمة على الرعي. وبحلول خمسينيات هذا القرن، من المتوقع أن تزيد نسبة السكان الذين يعانون نقص التغذية بنسب تتراوح بين 25 و90%(15).

وشدد التقريران على ضرورة اتباع سياسات صارمة لحماية أشد الفئات ضعفًا فى العالم من تدهور إنتاجية المحاصيل والكوارث الطبيعية والأمراض التى تنقلها المياه والآثار الأخرى المترتبة على تغير المناخ. فى هذا الإطار، يمكن حصر إشكاليات التكيف للدول النامية فى:

1- التأثيرات الاقتصادية: إذ تعتمد أغلب الدول النامية على قطاعات اقتصادية تقليدية كالقطاعين الزراعى والخدمي، خاصة القطاع السياحى والفندقي، علاوة على الصناعات الاستخراجية، التى تتأثر أكثر من غيرها بالتغيرات المناخية. فعلى سبيل المثال، حذر عدد من الباحثين من أن التغيرات المناخية قد تؤدى إلى خفض متوسط معدل النمو السنوى فى المناطق الفقيرة من 2.6% إلى 3.2%، ما يعنى أنه بحلول عام 2100، سيكون نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى أقل من الوضع الحالى بنسبة 40%(16)، ما سيؤثر بدرجة كبيرة فى إنفاق هذه الدول على خطط التنمية والتكيف مع الظروف المناخية الجديدة للحد من التداعيات الأكثر خطورة.

2- ارتفاع تكاليف التحول من الطاقة التقليدية للطاقة المتجددة: ترتفع تكلفة التكيف مع المناخ، خاصة إذا علمنا أن الهيئة الدولية المعنية بالتغيرات المناخية (IPCC) قدرت حجم الاستثمارات المطلوبة من أجل التحول نحو الطاقة النظيفة فقط بنحو 850 مليار دولار أمريكى سنويا من أجل الوفاء بهدف 1.5 درجة مئوية حتى عام 2050(17).

يحتاج العالم إلى استثمار قرابة 90 تريليون دولار فى العمل المناخى من أجل بناء اقتصاد مستدام وللتغلب على الآثار المدمرة للتغيرات المناخية بحلول عام 2030. ومن ثم، تحتاج دول العالم كافة والدول النامية على وجه الخصوص إلى استثمارات كبيرة والتوجه التدريجى نحو الاقتصاد الأخضر، الذى من شأنه أن يدر عوائد تقدر بنحو 26 تريليون دولار حتى عام 2030(18).

3- ذوبان الأنهار الجليدية: حيث سيؤدى ارتفاع درجات الحرارة إلى ذوبان الأنهار الجليدية، ما سيؤدى إلى زيادة مخاطر الفيضانات خلال موسم الأمطار ويقلل بشدة من إمدادات المياه فى موسم الجفاف إلى ما يقرب من سدس سكان العالم، الأمر الذى سيعيق أى خطط للتكيف(19).

4- انتشار الفقر والجوع: مع ارتفاع درجات الحرارة، ستتأثر بعض المحاصيل الزراعية. فعلى سبيل المثال ستؤدى التغيرات المناخية فى إفريقيا إلى ترك مئات الملايين بدون القدرة على إنتاج أو شراء غذاء كاف، خاصة إذا كان تأثير التسميد بالكربون أضعف مما كان يُعتقد سابقًا.

5- تحمض المحيطات: كنتيجة مباشرة لارتفاع مستويات ثانى أكسيد الكربون، ستكون له آثار كبيرة على النظم الإيكولوجية البحرية، مع ما قد يترتب على ذلك من عواقب ضارة على الأرصدة السمكية(20).

رابعا- تمويل التنمية أم تمويل المناخ؟:

رغم أن الدول النامية تحتاج إلى تمويل التنمية لإخراج الملايين من الفقر، إذ إن هناك نحو ثلاثة مليارات نسمة يعيشون تحت مستوى 5.5 دولار فى اليوم(21)، علاوة على انزلاق الملايين إلى الفقر نتيجة الكوارث المناخية وجائحة كوفيد-19، من خلال الاعتماد على المشروعات التقليدية والتى تعتمد على مصادر الطاقة التقليدية الرخيصة، فإن الدول النامية فى الوقت الراهن تصطدم بإجراءات صارمة ومقيدة لعمليات التمويل من قِبل المؤسسات الدولية المنوط بها تحقيق التنمية، وتضع شروطا ومعايير بيئية من أجل تحقيق أهداف حياد الكربون بحلول منتصف القرن الحالي. لا يمكن إنكار حقيقة أهمية تحقيق أهداف مؤتمر قمة المناخ باريس 2015، إلا أن ذلك يجب ألا يكون على حساب الدول النامية فقط، خاصة أنها لم تشارك إلا بالقليل فى الانبعاثات الكربونية. علاوة على ذلك، تتكبد موازنات الدول النامية خسائر هائلة، من جراء تمويل التخفيف والتكيف من الآثار السلبية للتغيرات المناخية. ومن ثم، يجب على الدول الغنية الوفاء بالتزاماتها والتمسك بمبدأ المسئولية المشتركة المتباينة الأعباء (Common-But-Differentiated-Responsibilities CBDR) وتوفير التمويل ونقل التكنولوجيا للدول النامية لمساعدتها فى مساعيها للتغلب على الآثار السلبية للتغيرات المناخية.

ينبغى أن تكون مهمة الحد من الفقر من المهام الرئيسية لمؤسستى التمويل الدوليتين المكلفتين بالحد من الفقر وتعزيز التنمية: البنك الدولي، الذى يقدم القروض والمنح لمشاريع التنمية الاقتصادية، وصندوق النقد الدولي، الذى يساعد الدول الفقيرة فى التغلب على أزمات العملة والحفاظ على استقرار مواردها المالية. مع ذلك، تتعرض كلتا المؤسستين لضغوط من الحكومات المانحة الغنية لتهميش التنمية الاقتصادية والحد من الفقر، ​​وتحويل التركيز إلى الحد من انبعاثات الكربون. وبالفعل، اقترح صندوق النقد الدولى إنشاء صندوق للمرونة والاستدامة بقيمة 50 مليار دولار لمساعدة الدول فى معالجة آثار تغير المناخ، ولكن الدعم سيكون مرهونًا بخطط الدول المتلقية للحد من الانبعاثات. وبالمثل، كشف البنك الدولى عن خطة عمل بشأن المناخ تتعهد بمواءمة جميع المشروعات المستقبلية مع اتفاقية باريس لخفض الانبعاثات. وقد قّيد البنك الدولى بشدة الاستثمارات فى مشروعات الغاز الطبيعي، ولم يعد يمول استكشاف الغاز أو تطويره أو إنتاجه أو نقله فى العالم النامي(22).

وتتحمل الدول الغنية -غالبية المساهمين فى كلتا مؤسستى التمويل- مسئولية دفع التحول بعيدًا عن التخفيف من حدة الفقر. على سبيل المثال، ترى الإدارة الأمريكية أن البنك الدولى يجب أن يكون فى طليعة جهود خفض الانبعاثات وتقليل دعم الوقود الأحفوري. وتجادل ألمانيا بأنه يجب زيادة الفوائد المناخية المشتركة لمشاريع التنمية. وتريد السويد أن يضطلع البنك الدولى بدور تحولى لمواءمة الدول النامية مع درجات الحرارة العالمية وأهداف الصفر لصافى الانبعاثات(23).

كان الأمين العام للأمم المتحدة قد حدد ستة إجراءات من أجل مكافحة تغير المناخ وتحقيق الحياد الكربوني، منها الاستثمار فى الوظائف اللائقة، وعدم إنقاذ الشركات الملوِّثة، والتخلى عن دعم الوقود الأحفوري، وإنهاء الاستثمار فى محطات الطاقة التى تعمل بالفحم والتخلى عن إنشائها، ومراعاة المخاطر والفرص المتعلقة بالمناخ فى جميع القرارات المالية والسياساتية، وتنمية التعاون الدولي، وضمان انتقال عادل لا يترك أى أحد خلف الركب(24). إلا أن هذه السياسات قد لا يتوافق الكثير منها مع الدول النامية التى تعتمد بشكل كبير على هذه القطاعات.

الخلاصة:

إن توجه الدول الغنية فى اتجاه تحول التركيز من أولويات الحد من الفقر لمصلحة الحد من الانبعاثات الكربونية، يعنى تخليها عن مسئولياتها فى مساعدة الدول الفقيرة للخروج من دائرة الفقر، وكذلك ستكون هذه الدول هشة وضعيفة ولن تستطيع الصمود فى مواجهة آثار التغيرات المناخية. أى أن الدول الفقيرة ستستمر وحدها فى تحمل آثار التغيرات المناخية التى أحدثتها الدول الغنية. لذا، كان لزاما وقوف الدول النامية أمام هذه الدعوات والمطالبة بالمزيد من التمويل التنموي، لكى تستطيع تحمُّل الصدمات المناخية، فلا ينبغى إجبار أفقر الدول المؤهلة للحصول على تمويل بشروط ميسرة على التركيز على خفض الانبعاثات للتأهل للحصول على قروض.

الهوامش:

1- Guo, Jessie, Daniel Kubli, and Patrick Saner. The economics of climate change: no action not an option. (Swiss Re Institute, 2021), p.2, available at: https://cutt.ly/tXwx1e9.

2- Brad, P., and Raymond Zhong. «Climate Change Is Harming the Planet Faster available at: Than We Can Adapt, UN Warns,» The New York Times , available at:   https://cutt.ly/qXwcsDk, Accessed  on 11 august 2022.

3- Statement by the OECD Secretary-General on future levels of climate finance, OECD, Oct. 25, 2021, available at:  https://cutt.ly/hXwcEbi, Accessed on  August 10, 2022.

4- United nations, Paris Agreement, 2015, available at: https://cutt.ly/WXwcOOG, Accessed on 9 august 2022.

5- Vijaya Ramachandra,The World Bank and IMF Are Getting It Wrong on Climate Change, foreignpolicy,11 april 2022, available at: https://cutt.ly/pXwcMZy, Accessed on 10 august 2022.

6- Neufeldt, Henry, Lars Christiansen and Thomas William Dale. Adaptation Gap Report 2021-The Gathering Storm: Adapting to climate change in a post-pandemic world. (UNDE, 2021). p.30.

7- المرجع السابق.

8- شيماء الشرقاوى وشروق الحريري، للعدالة وجوه متعددة: ما بين العدالة المناخية والعدالة الاجتماعية دليل للمنطقة العربية، منتدى البدائل العربى للدراسات بالتعاون مع مؤسسة جرينبيس.

9- شكرانى الحسين، نحو مقاربة جيلية للعدالة المناخية، مركز دراسات الوحدة العربية: مجلة المستقبل العربي، العدد 454، ديسمبر 2016.

10- المرجع السابق.

11- Jocelyn Timperley,The broken $100-billion promise of climate finance — and how to fix it,nature, 20 October 2021, available at:  https://cutt.ly/LXwvbVg,  Accessed on 5 august 2022.

12- مروة صالح، التغيرات المناخية تهدد الدول الأكثر فقرًا، العلم، 26 يوليو 2018، متاح على الرابط: https://cutt.ly/iZCx3sU

13- Lisa Friedman, Climate Change Threatens to Make More People Poor, scientific American, 9 November 2015, available at: https://cutt.ly/fZCvr8r, Accessed on 8 august 2022,

14- IBID.

15- Warmer World Will Keep Millions of People Trapped in Poverty, Says New Report, world bank, 19 June 2013, available at: https://cutt.ly/1ZCv66u, Accessed on 10 august 2022.

16- Melissa Dell; Benjamin F. Jones; Benjamin A. Olken, Temperature Shocks and Economic Growth: Evidence from the Last Half Century, AMERICAN ECONOMIC JOURNAL: MACROECONOMICS, VOL. 4, NO. 3,( JULY 2012), pp. 66- 95.

17- Jaspal, Mannat, and Terri B. Chapman. «Exploring the Inequities of Climate Finance». RAISINA FILES (2022): 128. available at:https://cutt.ly/dXwvFp7, Accessed on August 6, 2022.

18- الأمم المتحدة، تمويل إجراءات مواجهة التغيرات المناخية، UN، متاح على الرابط:

 https://cutt.ly/oXwv7Sz، تاريخ الدخول 7 أغسطس 2022.

19- Stern Review: The Economics of Climate Change, Centro de Previsão de Tempo e Estudos Climáticos, available at:  https://cutt.ly/7ZCG23W, Accessed  on 5 august 2022.

20- Ibid.

21- البنك الدولي، نصف سكان العالم تقريباً يعيشون على أقل من 5.50 دولار للفرد فى اليوم، تاريخ الدخول 11 أغسطس 2022، متاح على:https://cutt.ly/WXwvNns

22- Vijaya Ramachandran, Arthur Baker, The World Bank and IMF Are Getting It Wrong on Climate Change, foreign policy, 11 april 2022, available at:  https://cutt.ly/aXwbkAp, Accessed on 9 august 2022.

23- المرجع السابق.

24- الأمم المتحدة، تمويل إجراءات مواجهة التغيرات المناخية، UN، تاريخ الدخول 7 أغسطس 2022، متاح على الرابط:

 https://cutt.ly/oXwv7Szljhp

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. محمود فتح الله

    د. محمود فتح الله

    اقتصادى مصرى، مدير إدارة شئون البيئة بجامعة الدول العربية