تحليلات - شئون دولية

حرب "نفاد الخيارات": مظاهرات المدن الأوروبية وغضب يسبق الغليان

طباعة

هل يؤدي تفاقم الأوضاع الاجتماعية إلى إيقاف تدفق الأسلحة الغربية نحو أوكرانيا ورفع العقوبات عن روسيا؟

اجتاحت مظاهرات احتجاجية في الأسابيع الأخيرة عدة مدن أوروبية أعربت عن غضبها تجاه الأوضاع الاقتصادية المتدهورة وطالبت بوقف العقوبات ضد روسيا بعد الضرر الفادح الذي لحق بحياة المواطنين. وقد أصبح لزاماً عليهم التضحية وتغيير نمط حياتهم، نتيجة التبعات الاقتصادية الصعبة للحرب، بينما لا شيء يعادل تلك التضحيات، كما أن قادتهم مندفعون في دعم أوكرانيا بلا سقف زمني أو مالي مع استمرارهم في دفع فواتير الحرب الاقتصادية والعسكرية التي يتحمل عبئها المواطنون. فهل يكون صوت المواطن الأوروبي هو المحرك خلال الأيام والشهور المقبلة في إيقاف الدعم الأوروبي إلى أوكرانيا ورفع العقوبات عن روسيا، ليس لمصلحة الأخيرة، وإنما من أجل عودة الاستقرار داخل الدول الأوروبية ؟

تتجه أزمات الطاقة والتضخم والركود التي تضرب بقوة اقتصادات الدول الغربية إلى إحداث شللٍ تامٍّ غير مسبوق في عدة دول وهو ما ينبئ بأن الأوضاع الاجتماعية لن تبقى على حالها بل إنها تتجه للتفاقم مع قدوم الشتاء تأثرا بارتدادات الحربِ حيث بدأت تلوح الاضطرابات في عدة عواصم أوروبية. ويتوقع مراقبون أن تكون مظاهرات براغ وبروكسل وفيينا ومدن أخرى في إيطاليا وإسبانيا وألمانيا خلال الأسابيع الماضية مقدمات تسبق الغليان الأكبر مع بدء الشتاء الأصعب. وفي ضوء ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية أصبح الأوروبيون يتخلون تدريجيا عن السلع ذات الجودة وسلع الرفاهية التي تعودوا عليها في السابق واقتصروا في طعامهم على الأساسيات بل إن الغالبية أصبحوا يميلون إلى شراء أكلهم الضروري جاهزاً من محلات الطعام، خاصة بعد ارتفاع أسعار الكهرباء والغاز في المنازل حيث من المعروف أن المطابخ تعمل جلها بالكهرباء والغاز.

غضب شعبي في ألمانيا:

في ألمانيا على سبيل المثال، ذكر لي مهندس مصري، يعمل في شركة عالمية متنقلا بين عواصم أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا، أنه لاحظ خلال زيارته الأخيرة مطلع سبتمبر 2022 لعدة مدن ألمانية أن بعض الشركات الصناعية صغيرة ومتوسطة الحجم سرَّحتْ عمالها وموظفيها بعد أن قلصت إنتاجها جراء نقص إمدادات الطاقة التي تعتمد عليها في التصنيع. كما وصف ما أصاب حياة المواطنين الألمان من ضرر فادح لحق بهم بأنه "كارثة"، حيث يسود الحزن نفوس الألمان لخوفهم الشديد من قرب قدوم الشتاء؛ حددت الحكومات المحلية عدد ساعات التدفئة في أماكن العمل بثلاث ساعات تبدأ بعد الساعة الثانية عشر ظهرا، على الرغم من انخفاض درجات الحرارة لتصل إلى خمس درجات في بعض الأيام منذ بدء فصل الخريف، ويتوقعون أن يتضرر الناس، خاصة كبار السن والأطفال وأصحاب الأمراض، نتيجة نقص التدفئة في المنازل أيضاً والتي لن يستطيعوا توفير تكلفتها مع قدوم الشتاء القارص. وقد أقدمت روسيا على إغلاق أنبوب غاز طبيعي رئيس يوفّر الإمدادات إلى ألمانيا لعدة أيام بغرض الصيانة، وحذرت موسكو من أنها لن تستأنف تصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر "نورد ستريم 1" أو "خط السيل الشمالي 1 " حتى يتم رفع العقوبات. لذلك تطالب المظاهرات في الشوارع الألمانية باستئناف مشروع "السيل الشمالي 2" لنقل الغاز من روسيا إلى أوروبا وإعادة تشغيل خط أنابيب الغاز "السيل الشمالي1"، كما طالبوا بإلغاء العقوبات أحادية الجانب ضد روسيا. ويصف محدثي ما شاهده في طريقه بالقطار من فرانكفورت مروراً بعدة مدن ألمانية حتى وصل إلى (هالي) حيث توجد تجمعات احتجاجية للمواطنين ضد سياسة بلادهم بخصوص الأزمة الأوكرانية ورفعوا لافتات تطالب بوقف العقوبات ضد روسيا وأخرى تطالب بوقف صادرات السلاح الألماني لأوكرانيا. كما لاحظ قوات الشرطة التي تحاصر المتظاهرين وتفرقهم بالعصي والغاز المسيّل للدموع.

وقال شاهد العيان أيضاً إنه التقى أشخاصَ عاديين وعمال ومهندسين، جميعهم يشتكون ارتفاع فاتورة الغاز والكهرباء المنزلية والتي زادت أكثر من سبعة أضعاف- على حد قولهم- وكان متوسط ما كانوا يدفعونه شهريا في حدود 150 يورو بينما يصل حاليّاً إلى 800 يورو، وهو ما يعادل نحو ربع متوسط دخل الموظف العادي أو العامل في ألمانيا. ويشعر المتظاهرون بالظلم حيال حكومتهم التي تتركهم يتحملون عبء حرب لا طائل من ورائها بينما تدعم برلين كييف وتمنحها 200 مليون يورو لصالح النازحين الأوكرانيين وتوفير السكن لهم، وكذلك التدفئة والملابس والطعام والمستلزمات الطبية. وبدلاً من دعم المصانع والشركات التي تغلق أبوابها وتسرّحُ عمالها والمخابز التي أوقف بعضها صنع الخبز لنقص الغاز لديها، تستخدم الشرطة المحلية الغاز المسيّل للدموع والهراوات ضد المتظاهرين الذين يدافعون عن حقوقهم في العيش الكريم ويعترضون على صادرات السلاح التي يتحملها دافعو الضرائب من جيوبهم.

مسار الارتدادات:

يتّضِحُ أن عقوبات الغرب ضد روسيا انقلبت ضد البلدان الأوروبية بل والعالم بأسره. ولا أحد يستطيع أن يفهم كيف يقدم قادة الاتحاد الأوروبي والدول الغربية الأخرى على فرض حزم متتالية من العقوبات على الدب الروسي رغم كونها تؤدي في نهاية الأمر إلى ارتباك في اقتصادات بلدانهم، حيث خانتهم حساباتهم وانقلب السحر على الساحر، لكنها مع ذلك لا تزال ماضية في هذه الحرب بالوكالة دون أي ملمح يدلُّ على احتمال تغيير استراتيجيتها. وأظهرت المواقف الأوروبية أنها مغامرة لم تكن انتصارًا سياسياً على روسيا كما اعتقدت بل مجرد فخٍّ وقعت فيه.

لكنَّ القادة الأوروبيين يدافعون عن موقفهم ويعلنون أنهم يعملون بنشاط على الاستفادة من مصادر أخرى للطاقة، غير أنها ستكون ذات تكلفة مرتفعة للغاية بلا شك، وسيتحملها في النهاية المواطنون مرة أخرى. ورغم أن غالبية سكان دول الاتحاد الأوروبي (80%) سبق لهم في مايو الماضي تأييد العقوبات المفروضة على روسيا، إلا أن هذا الدعم الشعبي يتجه للتراجع وبقوة كلما زادت المعاناة اليومية وارتفعت تكلفة المعيشة وفاتورة استهلاك الطاقة كما أن هذه المعاناة مرشحة للتفاقم كلما اقترب فصل الشتاء، ومن غير المستبعد أن يراجع بعض الحكومات الأوروبية موقفه إذا ما زاد غضب الناخبين خوفاً من أن يطيح ببعض القادة والأحزاب الحاكمة ويقوّض أيضاً العقوبات. ومن المحتمل أن يلجأ القادة الأوروبيون إلى تخفيف العقوبات المفروضة على روسيا نتيجة أزمة الطاقة وأزمة الثقة مع الناخبين أيضاً، لكنهم قد يحاولون أوَّلاً اللجوء إلى مصادر أخرى للطاقة على الصعيد الدولي، بدلا من الاستسلام لما يرونه ابتزازاً من طرف بوتين.

نفاد خيارات بوتين.. وصبر أوروبا:

على صعيد المعارك في الجبهات الأوكرانية، تتّجه الأوضاع إلى المزيد من التردي، خاصة مع استمرار روسيا في ضرباتها العنيفة لتصفية الجيش الأوكرانى عتاداً وجنوداً. في المقابل تضاعف الدول الغربية في تدفق أسلحتها المتطورة إلى أوكرانيا، كما تتسابق عواصم أوروبية في تدريب قوات أوكرانية، خاصة من المتطوعين، على أحدث خطط الحرب. وتخطى الدعم الأمريكي بمفرده مبلغ 15 مليار دولار خلال تسعة أشهر منذ بدء الحرب ضد أوكرانيا في فبراير الماضي، وهو التمويل الأكبر من نوعه في تاريخ المساعدات الأمريكية الخارجية. هذا الدعم بدوره يدفع القادة في أوكرانيا إلى التصميم على تحقيق انتصار يتناسب مع تلك التمويلات غير المسبوقة. في المقابل ترتفع أصوات داخل قيادات الجيش والسياسيين وأعضاء مجلس الدوما بإعلان حرب شاملة ضد أوكرانيا وضرب المنشآت الحيوية وإلحاق خسائر جسيمة للضغط على كييف والتعجيل باستسلامها. في إطار هذه الضغوط أيضاً، أعلن الانفصاليون في جمهورية لوجانسك الشعبية المعلنة من جانب واحد في أوكرانيا تمريرَ قانونٍ بشأن إجراء استفتاء للانضمام إلى روسيا ونقلت وسائل إعلام محلية أن استفتاءً في لوجانسك وأيضاً في دونيتسك الانفصالية سيتم ما بين 23 و 27 سبتمبر. وهو تكرار لسيناريو استفتاء القرم عندما تدخلت روسيا في شبه الجزيرة في فبراير 2014 وأسفرت نتيجة الاستفتاء الذي أقيم في مارس من العام نفسه عن تأييد 95.5 % من الناخبين انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا. ولعلَّ الوصف الذي ضمّنته مجلة نيوزويك الأمريكية في عنوان تقريرها مؤخراً على موقعها الإلكتروني يعكس إلى حدٍّ كبيرٍ الواقع على الأرض حيث ذكرت أنه "مع نفاد خيارات بوتين في أوكرانيا ، نفد صبر أوروبا". وأشارت بذلك إلى أن هناك نفاداً للخيارات على الجانبين. وقالت إنه في الوقت الذي تنفد فيه الخيارات أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حربه ضد أوكرانيا في ظل الانتكاسات العسكرية الأخيرة التي تعرضت لها قواته مع تقدم الأوكرانيين على عدة جبهات، فإن أزمة الطاقة تجعل الأوروبيين في حالة إحباط شديد ومتصاعد مع نفاد خياراتهم أيضاً. ونقلت المجلة الأمريكية عن تحليل لاستشارية المخاطر، فيريسك مابليكروفت، قولها: "إن الدول الأكثر ثراءً في أوروبا تواجه خطر حدوث اضطرابات اجتماعية، من بينها مظاهرات في الشوارع، على خلفية ارتفاع أسعار الطاقة وزيادة تكاليف المعيشة". كما حذرت المجلة على لسان إليزابيث كارتر، أستاذة العلوم السياسية بجامعة نيوهامبشير، بشأن التحديات التي ستواجه حكومات الدول الأوروبية خلال الشتاء، ومنها "أن يظل الناخبون سعداء، من خلال تأكيد استمرار تدفئة منازلهم". وألمحت كارتر إلى إمكانية أن يلجأ بعض القادة الأوروبيين إلى تخفيف العقوبات المفروضة على روسيا نتيجة أزمة الطاقة، في محاولة لإنقاذ الأوضاع داخل بلدانهم. ولا تزال هذه التوقعات لسيناريوهات محتملة تراوحُ مكانها منذ ما يزيد على ثلاثة أشهر، ولا أحدَ يدري إلى أي مدى ستسمرُّ أيضاً دون حراك نحو الانفراجة أو نحو حرب شاملة حتى في ضوء تصاعد الضغط الشعبيّ في العواصم الأوروبية لرفع العقوبات عن روسيا، ووقف تدفق الأسلحة الغربية نحو أوكرانيا.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    ألفة السلامي

    ألفة السلامي

    صحفية متخصصة في الشئون الدولية