تحليلات - شرق أوسط

مسارات واتجاهات التحركات المصرية في قطاع غزة.. كيف نجحت في وقف إطلاق النار وبدء تنفيذ التفاهمات؟

طباعة

· جهد متراكم وخبرات متعددة مكنت مصر من بناء التفاهمات في توقيت مناسب.

· التحرك المصري في القطاع والضفة يمضي في مسارات واتجاهات محكمة ومنضبطة.

· سيناريوهات  متطورة للدور المصري  في غزة.

· توجهات مصر تمضي في إطار تثبيت الهدنة وبناء تفاهمات مستقرة وآمنة وتحجيم المواجهات المتصاعدة.

نجحت مصر في ثلاثة أيام متصلة في تحقيق وقف إطلاق النار بين حركة الجهاد الفلسطيني وإسرائيل بعد الهجوم الإسرائيلي علي عدة أهداف فلسطينية داخل القطاع، وهو ما كان سيمثل إشكالية حقيقية في حال تمدد العمليات لعدة أيام أخري مقارنة بالمواجهة قبل الأخيرة التي شهدت مواجهة شاملة امتدت لعدة أيام وصلت إلي 11 يوما. وقد جاء نجاح الجانب المصري في ظل ظروف صعبة، وتحديات ترتبط بالكثير من التفاعلات، سواء داخل القطاع، أو في إسرائيل، حيث تدير حكومة إسرائيلية مؤقتة انتظارا لإجراء الانتخابات البرلمانية وسط تنازع المهام والصراع  بين القوي السياسية والحزبية.

مهارة محسوبة:

نجح الجانب المصري في تحقيق الاستقرار الأمني لعدة أسباب  يمكن الإشارة إليها علي النحو التالي:

‌أ- خبرة الوفد المصري المتراكمة، التي نجحت في تفكيك عناصر الأزمة الطارئة، والتي  نشبت خلال عدة أيام وسبقها اتصالات ولقاءات مكثفة تجاه كل الأطراف المعنية، وقد تم الإعلان عنها لاحقا من قبل الطرف الإسرائيلي، ومن قبل حركة حماس.

‌ب- تشابك وتفاعل التحرك المصري من خلال توفير مظلة سياسية ضمت اتصالات مع الطرف المعني في إدارة الأمن في قطاع غزة، والمقصود حركة حماس التي أدارت الاتصالات السياسية والأمنية مع الجانب المصري بهدف وقف العدوان الإسرائيلي الذي برز في توجيه ضربات مكثفة علي القطاع.

‌ج- التحرك المصري المدروس في اتجاه وقف سياسة الاغتيالات والحفاظ علي أرواح القيادات الأمنية من قيادة حركة الجهاد الفلسطيني، خاصة الميدانية، ونقل رسالة إلي الجانب الإسرائيلي بضرورة العمل علي مسار محدد وعدم فتح بنك الأهداف من قبل إسرائيل.

‌د- إقناع حركة الجهاد الفلسطيني بضرورة وقف إطلاق الصواريخ منعا لتمدد المواجهات الأمنية، وتخوفا من تطوير القوات الإسرائيلية لمسارات حركتها لتشمل أهداف في محددة في القطاع ومناطق التماس المحددة سلفا.

‌ه- توسيع دائرة الحوار السياسي والأمني مع الحكومة الإسرائيلية المؤقتة، ودفعها لتبني استراتيجية محددة تقوم علي فكرة الأمن مقابل الأمن والتهدئة مقابل التهدئة، وهو ما تم من خلال تحرك مصري متعدد الاتجاهات، وأسفر عن التوصل لحالة التهدئة والعودة للتفاهمات الراهنة والقابلة للتطوير وفقا لتوافر الإرادة السياسية لكل طرف.

‌و- التخطيط للانتقال من وقف إطلاق النار إلي تثبيت حالة التهدئة والدخول الي مسار جديد يقوم علي توفير الضمانات الكافية للطرفين، ومن خلال مقاربة تقوم علي معادلة محكمة ومنضبطة بالفعل رغم توقع حدوث بعض الخروقات من كل جانب لحين استقرار التهدئة.

مظاهر التحرك:

استمرار التنسيق مع بعض الأطراف والمبعوث الأممي، إضافة للسلطة الفلسطينية، وهو ما مكن الجانب المصري من الانتقال بالتهدئة الي مرحلة جديدة تقوم علي مسار مكمل، وقد برز ذلك فيما يلي:

‌أ- العمل علي المسار الثاني/الرئيسي في الضفة الغربية تحسبا لنشوب مواجهة في الضفة قد تلقي بتأثيراتها في استقرار الأوضاع في قطاع غزة، وهو ما تضع فيه مصر الكثير من السيناريوهات المرتبطة بتطوير وتنمية الدور المصري المتعدد المسارات والاتجاهات وفي القطاع إلي الضفة الغربية معا، خاصة في ظل استمرار المواجهات في بعض المناطق.

‌ب-  دعوة مصر للتهدئة الأمنية والسياسية في القدس ونابلس وجنين ورام الله،  وهو ما يعطي الدلالات علي عدم تمركز مصر في مساحة محددة والانتقال التدريجي والمباشر إلي بؤر المواجهات مباشرة.

‌ج-  تحسب التحرك المصري واللافت تجاه الجانب الإسرائيلي، مع التحسب المستمر لما يجري من مزايدات إسرائيلية رسمية يقودها وزير الدفاع بيني جانتس ورئيس الأركان وكلاهما يتبني الخيار العسكري لحسابات سياسية وحزبية محددة.

‌د-  التحرك في اتجاه الإدارة الأمريكية والرباعية الدولية لاستئناف الاتصالات السياسية المعطلة، وقد دعت مصر إلي ضرورة إحياء التفاوض حول مرجعيات أوسلو ومدريد، إضافة  لتطبيق نص قراري 242 و338.

‌ه-العمل علي تنفيذ بعض المحفزات المنشودة من قبل الطرفين برغم تصلب كل طرف وتصميمه علي موقفه، ومنها إتمام صفقة الأسري المطروحة منذ سنوات وبذلت فيها القاهرة الكثير من الخطوات الحقيقية، والتي تحتاج إلي إرادة سياسية لتنفيذها واتمامها بدلا من الاستمرار في حلقة فراغ، وإن كانت الأوضاع في إسرائيل والمرتبطة بعدم وجود حكومة مستقرة ومنتخبة قد يعطل إتمام هذا الأمر علي الأقل في المدي المتوسط.

المسارات الواردة:

يمكن تكشف أهم المسارات الواردة  للتحرك المصري للتعامل مع تطورات الأوضاع في القطاع والضفة علي النحو التالي:

المسار الأول: استمرار التحرك المصري في التحرك من القطاع إلي الضفة مع استئناف الاتصالات المتعددة، وفي اتجاهات عدة بهدف التوصل إلي استراتيجية محددة ترتبط بوقف إطلاق النار والبناء علي المشهد الراهن، الذي يحتاج إلي تماسك وقبول من الأطراف المختلفة، وليس الجانب الفلسطيني فقط، وهو ما يؤكد علي أن مصر ستستمر في لعب دور مهم ومتراكم، وسيرتبط ذلك بالعمل من داخل القطاع، واستمرار إتمام مشروع إعمار القطاع، خاصة أن الوضع الراهن داخل القطاع في حاجة حقيقية للتغيير مع العمل المستمر والدائم لإتمام مشروعات إعادة تهدئة الأوضاع وإتمام المشروعات المرحلة منذ سنوات نتيجة للممارسات  الإسرائيلية في القطاع، ما سيتطلب تحركا مصريا كبيرا ومتعددا والعمل علي إقناع الشركاء في القطاع وخارجه بالعمل وإفساح المجال أمام سكان القطاع وتفويت الفرصة أمام الفصائل غير المنضبطة التي تسعي لدفع القطاع للمواجهة مع إسرائيل، وفي ظل تصعيد إسرائيلي مقابل يدفع به إلي الواجهة اليمين الإسرائيلي المتطرف والساعي للعمل وفق مقاربة أمنية وعسكرية في المقام الأول.

المسار الثاني: تحرك مصر مع التطورات المفصلية بإقناع حركة حماس باستمرار حالة التهدئة والانتقال الي مرحلة لاحقة من الاستقرار السياسي والأمني، مع إقناع حركة الجهاد الفلسطيني بأن الاستمرار في إعادة تهدئة الأوضاع في القطاع مهم ومطلوب لإعاشة المواطن في القطاع مع توفير الخدمات المطلوبة، والتي سبق أن طرحتها إسرائيل عقب المواجهة قبل الأخيرة وسوف تقوم مصر في هذا المسار بتسويق منظومة التسهيلات الاقتصادية المنشودة، والتي يحتاج إليها القطاع مع إقناع إسرائيل بأن من مصلحة الجميع العمل علي أرضية من الخيارات المتسعة مع عدم الصدام والدخول دوريا في مواجهات أمنية.

 المسار الثالث والأخير: سعي مصر لتطويق كافة الإشكاليات الراهنة والمحتملة، خاصة أن مصر لديها اتصالاتها الكبيرة والمتعددة مع الأردن، ومع كل القوي الفلسطينية في الضفة والقطاع، ما يمكن أن ينقل رسالة مصرية استباقية إلي إسرائيل بقدرة مصر علي تحقيق الاستقرار، حتي مع عدم اتمام استئناف الاتصالات السياسية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل نتيجة لاعتبارات سياسية متعلقة بالوضع في إسرائيل، وعدم القدرة علي الدخول في مفاوضات حقيقية، إذ إن الوضع الراهن قد لا يخدم أي طرف في الوقت الذي تتحدث فيه إسرائيل عن البدائل المحددة.

الخلاصة:

ستظل القاهرة قريبة من المشهد الفلسطيني، سواء في قطاع غزة، أو في الضفة الغربية، ما سيسهل الكثير من تنفيذ الإجراءات السياسية والأمنية التي قد تمنع أية صدامات واردة ومحتملة في المدى المنظور، خاصة في القدس المرشحة للتصعيد المتبادل في أي توقيت، مع استمرار ممارسات الجانب الإسرائيلي، وتحرش قطعان المستوطنين بسكان القدس واستمرار أعمال الحفر والهدم في المسجد الأقصى، والتي قد تفجر المشهد الأمني في أي لحظة، وهو ما تتحسب له مصر جيدا. وإلي حين تستقر التهدئة بالكامل، فإن مصر ماضية في مسارها لتحقيق  الهدوء بالكامل، مع الاستمرار في تنمية دورها في اتمام المشروعات المخطط لها وتنفيذ مبادرة الرئيس عبدالفتاح السيسي بتوافر 500 مليون دولار لدعم القطاع، وإعادة تأهيله، وهو ما يؤكد علي أن مصر ستمضي في إطارها دفاعا عن سكان القطاع ولدعم القضية الفلسطينية، والحفاظ علي أرواح الفلسطينيين، وهو ما يؤكد علي أن القضية الفلسطينية ستبقي قضية مصرية بالأساس، وستظل تمثل ركنا ركينا من أركان السياسة الخارجية المصرية.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. طارق فهمي

    د. طارق فهمي

    أستاذ العلوم السياسية، رئيس وحدة الدراسات الفلسطينية والإسرائيلية، المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط.