تحليلات - شئون دولية

قمة الـ "ناتو": تداعيات انضمام السويد وفنلندا للحلف الأطلسي

طباعة

طموحات حلف الناتو آخذة في الازدياد بشكل واضح: هذا أهمّ ما كشفت عنه قمة الحلف المنعقدة في العاصمة الإسبانية مدريد يومي 28 و29 يونيو، حيث أعلن البيان الختامي أنه من المقرر أن تنضم السويد وفنلندا لحلف الناتو رسمياً ليعزِّزَ التحالفُ جناحه الشرقي بمزيد من القوات والعتاد. جاء ذلك بعد أن أبرمت تركيا اتفاقاً مع الدولتين الإسكندنافيتين لرفع اعتراضها على عضويتهما، كما تمت الموافقة على توقيع بروتوكولات الانضمام والكشف عن "مفهوم استراتيجي" جديد يتعامل مع الصين أيضاً. فكيف ستؤثر قمة مدريد وقراراتها على تطورات الأوضاع إقليميا وعالمياً، وهل رسم أعضاء حلف الناتو خلال قمتهم سيناريوهات معركة جديدة يمكن أن تستمر لشهور أخرى أو سنوات؟

قمة مدريد وما اتخذته من قرارات لتوسيع عضوية حلف الناتو وتعزيز قوتها الردعية والدفاعية اعتبرها العديد من المراقبين الأوروبيين "النهج الصحيح" أو "التصحيحي" ضد روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين بعد احتدام الصراع بين موسكو والمعسكر الغربي للشهر الخامس على التوالي. بوتين في المقابل، يجد نفسه في مواجهة تحالف يتّسعُ على نحوٍ سريعٍ ويعزِّزُ قوته العسكرية، وهو الذي أعلن من قبل أنَّ دافع بلاده للحرب على أوكرانيا جاء كردٍّ حاسم على احتمالات انضمامها ودول أخرى للناتو مما يشكِّلُ تهديداً لحدوده ومصالحه.

توسيع حلف الناتو:

حلف الناتو هو تحالف دفاعي أوروبي وأمريكي شمالي تم إنشاؤه لتعزيز السلام والاستقرار وحماية أمن أعضائه، حيث وقعت 12 دولة مؤسسة، هي الولايات المتحدة، وكندا، والمملكة المتحدة، وفرنسا، و8 دول أوروبية أخرى، معاهدة شمال الأطلسي (ناتو) عام 1949،متعهّدين بحماية بعضهم بعضا بالوسائل السياسية والعسكرية. وقد نما الحلف على مر العقود منذ ذاك الحين ليضمَّ إجمالي 30 عضوا، ويقع مقره في العاصمة البلجيكية بروكسل.

ويبدو الآن بعد قمة مدريد أن السويد وفنلندا جاهزتان للانضمام بسرعة قياسية. علاوة على ذلك، سيظل باب الناتو مفتوحًا - كما وعد عام 2008 - لأوكرانيا وجورجيا، فضلاً عن الدول الأوروبية الأخرى. ويرى قادة الحلف أنَّ  هجمات بوتين على أوكرانيا أدّتْ إلى هدف "عكسي" هو تحقيق تماسك حلف الناتو بشكل أقوى من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة. وقال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينسستولتنبرج للصحفيين في بداية قمة الناتو في مدريد: "هذا يشكل أكبر إصلاح وتصحيح لردعنا الجماعي والدفاعي منذ الحرب الباردة". كما وصف عدد من زعماء الدول الأعضاء في الحلف القمة في مدريد بأنها نقطة تحول فارقة وتاريخية في مساره وأكبر تحول دفاعي له منذ الحرب الباردة. لكنّ ذلك لم يكن موقف آلاف المتظاهرين في شوارع مدريد خارج قاعة المؤتمرات الذين عبّروا عن احتجاجهم وهم يحملون أعلام الاتحاد السوفيتي السابق وينشدون أغاني مناهضة للقمة، رافضين زيادة عدد القوات والإنفاق الدفاعي في أوروبا التي حث عليها الناتو معتبرين أنها تهديدٌ للسلام وتشجيعٌ على الحرب وتجارة السلاحِ التي يدفعُ ثمنها المواطنون دائما.

كان الناتو قد أعلن بالفعل خلال قمته عن خطط لتوسيع عدد القوات التي لديه في حالة تأهب قصوى من 40 ألف إلى 300 - أي أكثر من سبعة أضعاف ما كان عليه -كما ذكر موقع فورين بوليسى - وهذا يعني أن التحالف لن يصبحَ أكبر (عدداً وعتاداً) فحسب، بل يتبنّى أيضًا استراتيجية جديدة تصنف روسيا على أنها أكبر تهديد لأمن أعضائه ولم تعد شريكًا محتملاً. أمَّا الصين فمن المقرر أيضًا أن يكشف الحلف النقاب عن "مفهوم استراتيجي" جديد يتعامل مع الصين مستقبلاً كما أعلن عن ذلك الحالف في بيانه للقمة.

عواقب الانتشار العسكري في أوروبا:

يرى محلّلون غربيّون أن بوتين يُجبِرُ أوروبا والولايات المتحدة وكندا على إعادة التركيز على الدفاع الإقليمي على طول الجناح الشرقي لحلف الناتو. ويستشعر بعض المحللين والسياسيين الأوروبيين الخطر من جرّاء هذا الانتشار، حيث يشيرون إلى احتمالات وجود عواقب بعيدة المدى على الجيوش والمجتمعات في أوروبا التي استطاعت عبر عقودٍ تحقيق استقلالية عن القرار الأمريكي، رغم الصداقة والمصالح المشتركة، وكان هناك طيلة السنوات الماضية حديث لا ينقطع بين النخبة في أوروبا عن تبعية القرار البريطاني على سبيل المثال للولايات المتّحدة في سير عكس الاتجاه مع بقية دول الاتحاد الأوروبيّ وتابع العالم الدعم الأمريكي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وما تضمنه من وعود بتعزيز الشراكة اقتصادية والاتفاقات التجارية. كما حاولت فرنسا، في السنوات الأخيرة، إطلاق مبادرات لتعزيز السيادة الأوروبية، خاصة خلال مواجهة أزمات التدخل الأجنبي في دول الصراع.

وتعود المخاوف حاليا لتغيّم سماء أوروبا من جديد ومعها يعلو صوت مطالبات من النخبة دعاة القومية الأوروبية واستقلالية القرار الأوروبي لتفكير استراتيجيّ جديد من أجل التعامل مع عودة ما يُطلقُ عليه بالحرب الإمبريالية إلى أوروبا والحاجة إلى المزيد من المال، والمزيد من الأفراد والأسلحة، خاصة أن تعبئة 300 ألف جندي أوروبي ليكونوا على أهبة الاستعداد في المستقبل، مثلما جاء في محادثات قمة الناتو بمدريد، ليست سوى البداية. وستكون عمليات النشر الدائمة للقوات على الجانب الشرقي الأوروبي، بمن في ذلك جنود الجيش الألماني، ضرورية وفقاً لخطة الناتو إذا استمر بوتين في الحرب على أوكرانيا.

كان مؤتمر قمة الناتو في مدريد قد سبقه اجتماع دبلوماسي آخر رفيع المستوى، هو قمة مجموعة السبع في جبال الألب البافارية بألمانيا، والذي نسق مواقف الدول الكبرى تجاه الأزمة الأوكرانية وتداعياتها على دول الحلف والعالم بأسره ونتج عن قمة مجموعة السبع سلسلة من الإجراءات الجديدة التي تستهدف صناعة الأسلحة واحتياطيات الذهب في روسيا، وهو ما يعكس الترتيبات المستقبلية في حال إطالة أمد الحرب.

وكانت أنقرة قد أسقطت حق النقض ضد انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف في الوقت المناسب للقمة. وكان أعضاء الحلف يرون أنّ رفضها للمتقدمين من بلدان الشمال الأوروبي من شأنه أن يرسل إشارة خاطئة، ويضعف وحدة الناتو، ويمنح بوتين الهدية المثالية. في نهاية المطاف، قامت،  بدعم قوي من الولايات المتحدة، بما يمكن توقّعه مسبقاً من حليفٍ استراتيجيّ للولايات المتحدة وأوروبا معاً، في خضم واحدة من أخطر الأزمات منذ تأسيس الناتو، وتوصلت إلى اتفاق لمصلحة القضية الأكبر التي استخدمت لتحقيق المصالح.

في غضون ذلك، يمكن للسويد وفنلندا أن يخطوا خطواتهما بسهولة في التعهدات التي قطعاها على نفسيهما لها. وسيبحث ثلاثتهم في إمكانية تسليم مشتبهين أكراد بالضلوع في عمليّاتٍ. في المقابل، ستحصل السويد وفنلندا على مزيد من الأمن والتضامن كأعضاء في التحالف. وستتم إضافة 1300 كيلومتر أخرى إلى الجناح الشرقي لحلف الناتو بسبب حدود فنلندا المباشرة مع روسيا. وهي مساحة ممتدة يجب حمايتها بأي ثمن. هذا ما وعد به أعضاء الناتو الآخرون فنلندا، والتي في المقابل تجلب جيشًا مدربا ومجهزا بشكل احترافيّ إلى الحلف الذي يلتزم بمنعِ أي طموحات روسية للهجوم في الشمال. سيكون الجيشان الفنلندي والسويدي إضافة قيمة إلى الناتو، وهذا ما أكدته الأمانة العامة للحلف. وقريباً سيلعب جنود من فنلندا والسويد دورًا أكبر في الدفاع عن دول بحر البلطيق والسيطرة عليه.

التطورات المستقبلية:

المسار المستقبلي لحلف الناتو أصبح واضحا: توفير دفاع موحد ضد التهديد الروسي بكل الوسائل التقليدية والردع وبوحدات عسكرية ضخمة. ستُحدِّدُ نتيجة الحرب الروسية في أوكرانيا التحديات التالية التي يواجهها الناتو. إذا سقطت أوكرانيا، فقد تكون دول البلطيق أومولدوفا أوجورجيا هي الأهداف التالية لروسيا التي لا يبدو أن التحالفات الغربية وتوطيدها رادعاً لاستمرار حربها في أوكرانيا وتوطيد تحالفاتها هي أيضاً، خاصة مع الصين لوقف التهديدات المحتملة لحدودها مع مولدوفا وجورجيا. أما إذا تمت هزيمة روسيا وفقاً لما يخطط له تحالف الناتو ويهدف لتحقيقه، فسيتعيّنُ على الناتو آنذاك إتباع سياسات احتواء واسعة النطاق. ويعتمد نجاح استراتيجية الناتو المستقبلية بشكل كبير، أكثر من قبل، على أقوى وأهم حليف لها، الولايات المتحدة. وأعربت إدارة بايدن التزامها بشدة بالتحالف، لذلك ليس هناك ما يدعو للقلق في الولايات المتحدة. لكن إذا فاز المرشح الجمهوري، أو حتى دونالد ترامب الذي ينوي الترشح في انتخابات عام 2024، فقد يواجه الناتو الأزمة التالية: من المشكوك فيه ما إذا كان الأوروبيون سيتبعون الاقتراح الفرنسي وسيصبحون "سياديين" ومستقلين في قرارهم بما يكفي للدفاع عن أنفسهم.

ختاما، في الوقت الحالي لا يزال الحلف على قيد الحياة و"يركل" و"يلكم" بشراسة، لكن تعليقات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2019 حول تجربة الناتو "للموت الدماغي" يجب أن تكون بمنزلة تحذير. فبعد كل شيء، ربما سيكون "ترامب ورفاقه" على استعداد للتضحية بأوكرانيا لاستيعاب حكام روسيا. ولحين اتّضاحِ مسار هذه التطوّرات المتشعّبة، سيبقى العالمُ ينزفُ يومياً مليارات الدولارات على حساب قوت شعوبه ومواردها واستقرارها ورفاهيتها.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    ألفة السلامي

    ألفة السلامي

    صحفية متخصصة في الشئون الدولية