تحليلات - شئون دولية

محددات الفرص والمعوقات في المفاوضات الروسية - الأوكرانية

طباعة

تعد منطقة أوراسيا، وفقا لأحد أهم مؤسسي علم الجغرافيا السياسية (هالفورد ماكندر) قلب العالم، ومن ثم تتسم بأهمية جيو-استراتيجية وجيو-سياسية بالغة ليس فقط للدول التي تقبع في تلك المنطقة، بل على للعالم بأسره، كون أن أي أزمة فى تلك المنطقة يكون لها ارتدادات وانعكاسات علي المشهد الدولي في ضوء ديناميكية الصراع والتنافس الدولي بين القوي العظمي التي تهيمن بشكل كبير علي مجريات الأزمات التي من شأنها تغيير أو التأثير علي النظام الدولي الراهن.

لم يكن اندلاع الصراع الروسي-الأوكراني وليد اللحظة، بل بدأ مع توجه الإدارة الأوكرانية عقب احتجاجات كييف عام 2014 التي أطاحت بنظام مؤيد لموسكو وجاءت بإدارة لها توجه مؤيد للمعسكر الغربي والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، الأمر الذي بدا لموسكو تهديدا لأمنها القومي في مجالها الحيوي وبات عبئا جيو-سياسيا علي صناع القرار في موسكو، حيث إن حلف الناتو قد يمتد شرقا عند حدودها الوطنية والسياسية، وبالتالي قد تضحي أوكرانيا تهديدا مباشرا بدلا من كونها منطقة عازلة بين معسكرين متنافسين.

وفي ضوء ما تقدم، تأتي العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في ضوء توجه روسي بتوظيف قدراتها العسكرية لردع التهديدات المحتملة وخلق واقع جيو-سياسي جديد من أجل الحفاظ علي أمنها القومي في مجالها الحيوي والحفاظ علي التوازن الاستراتيجي بينها وبين المعسكر الأورو-متوسطي بقيادة الولايات المتحدة. وفي هذا الإطار، توجهت جهود موسكو بناء علي ما سبقت الإشارة إليه نحو السيطرة علي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بجورجيا عام 2008 والسيطرة علي شبه جزيرة القرم في أوكرانيا عام 2014، فضلا عن تعزيز نفوذها في القوقاز عبر نشر قوات حفظ سلام في إقليم ناجورنو كاراباخ، وكذلك توجهها في خلق، ومن ثم دعم حكومات موالية لموسكو في كازاخستان وبيلاروسيا. وإشارة إلى ما سبق، نري أن موسكو تعمل علي خلق حاضنة جيو-سياسية لها، فضلا عن رغبتها في فرض واقع جيو-سياسي يساهم في تعزيز نفوذها غربا وجنوبا بهدف توسيع عمقها الاستراتيجي وخلق مناطق عازلة بين قلب روسيا وحلف الناتو.

وفي هذا السياق، تدخلت روسيا عسكريا في أوكرانيا عام 2022 في خطة لتغيير واقع جيو-سياسي قائم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث يعتقد أن الهدف وراء العملية العسكرية الروسية هو العودة إلي الحدود التاريخية التي أقرها الزعيم الروسى ستالين لإقليم دونباس وإعلان حياد كييف والاعتراف بجمهوريتي لوجانسك ودونيتسك اللتين أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استقلالهما عن أوكرانيا قبل بدء العملية العسكرية مباشرة، فضلا عن اعتراف كييف بضم القرم لروسيا.

وتدخل العملية العسكرية الروسية شهرها الثالث في ظل مقاومة أوكرانية شرسة بدعم أوروبي وأمريكي، بالتوازي مع فرض عقوبات مالية واقتصادية ودبلوماسية كبيرة علي موسكو إلا أن روسيا تبدو عازمة علي تحقيق أهدافها. غير أن ما تم مؤخرا من فتح باب المحادثات السياسية عبر قنوات دبلوماسية مختلفة قد يشير إلي إمكانية حل الأزمة بطرق سياسية تعطي لموسكو ضمانات أمنية، بيد أنه تظل العديد من النقاط الخلافية التي لا تزال في طور المناقشة ولم تتحول بعد إلي رؤية مشتركة لمعالجة الأزمة الراهنة.

وفي هذا السياق، صرح المتحدث باسم الكرملين أن العملية العسكرية الروسية ستتوقف في حال استوفت كييف عده شروط أولها ضمان حياد كييف وعدم انضمامها إلي حلف الناتو والاعتراف بتبعية القرم لروسيا، فضلا عن إيقاف جميع الأعمال العسكرية. في حين تطالب أوكرانيا القوات الروسية بالانسحاب من جميع الأراضي التي تجري فيها عمليات عسكرية لا سيما مدينة ماريبول الساحلية الاستراتيجية جنوبي أوكرانيا وإقليم دونباس. ومن هنا، تتبني أطراف الأزمة مقاربات شبه صفرية في إطار حفظ ماء الوجه وإعلان الانتصار ما بعد انتهاء الأزمة. ومن هنا تتبلور عدة سيناريوهات متوقعة على النحو التالى:

- السيناريو الأول: انهيار المفاوضات بشكل كامل وتصاعد العنف وانتظار ما قد تئول إليه مجريات العمليات العسكرية لمصلحة أحد أطراف الصراع وهذا قد ينتج عنه تدخل أطراف أخرى وإمكانية توسع نطاق الحرب لتشمل حلف الناتو وهذا سيناريو غير مرجح إلا إذا استمرت العملية العسكرية الروسية مع إصرار صناع القرار في موسكو علي تحقيق كافة الأهداف وهذا بالطبع معتمد بشكل كبير علي مدي صمود القوات الأوكرانية.

- السيناريو الثاني: بالتوازي مع العملية العسكرية الروسية، تتجه أطراف الأزمة إلي عقد جولات مفاوضات لبحث إمكانية حل الأزمة سياسيا. وقد عقد حتي تاريخه أربع جولات بين أطراف الأزمة. نتج عن الجولة الأولي في المفاوضات التي عقدت علي الحدود بين بولندا وبيلاروسيا، بعض النقاط التي قد تؤدي إلي موقف مشترك،  فتبدو التسوية ممكنة إذا تم وضع المصالح الروسية الأمنية في الاعتبار، وفيما يخص الجولة الثانية والثالثة، تم الاتفاق علي حل مسألة الممرات الإنسانية في حين ظلت باقي النقاط الخلافية الأبرز كما هي. ولعل التطور الأهم كان في الجولة الرابعة، حيث تم مناقشة إمكانية التوصل لوقف إطلاق النار، وسحب القوات، والضمانات الأمنية لأطراف الأزمة. وعلي الرغم من أنها لم تسفر عن نتائج إيجابية لكنها فتحت الباب لحل متعدد الجوانب، خاصة مع استعداد الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي للقاء نظيره الروسي.

- السيناريو الثالث: قد تؤدي المحادثات السياسية إلي بلورة اتفاق يفضي إلي إعطاء موسكو ضمانات أمنية وإعلان حياد كييف، بالإضافة إلي الاعتراف بضمها لشبه جزيرة القرم مقابل انسحاب القوات الروسية من المدن التي تسيطر عليها وهذا الأمر وارد، خاصة مع اشتداد العقوبات الاقتصادية علي روسيا وصمود القوات الأوكرانية علي أكثر من جبهة. وفي هذا السياق، قد تفضي المحادثات والمفاوضات إلي صياغة اتفاق من عدة نقاط ولا يخلو من تنازلات من الجانبين يؤدي إلي مكاسب مشتركة ويقضي علي أي تحركات تهدد الأمن القومي الروسي في مجالها الحيوي كون تلك النقطة كانت سببا رئيسيا في اشتعال الأزمة.

- السيناريو الرابع: مع اشتداد المعارك، وكذلك الموقف الدولي الرافض للعملية العسكرية الروسية فضلا عن ورود تقارير تفيد بصعوبات لوجيستية لإمداد القوات الروسية المنتشرة في أنحاء أوكرانيا، وانسحاب القوات الروسية من الشمال والاتجاه إلي شرقي وجنوبي البلاد، مما ينذر بتغيير أهداف العملية العسكرية، وفقا لمجريات الأحداث في مسرح العمليات العسكرية التى لم تحسم حتي هذه اللحظة من قبل أحد الأطراف. ومن ثم، قد تطرأ علي ساحة الأزمة سيناريو عسير لروسيا، لا يتضمن فقط فشل العملية العسكرية فى تحقيق أهدافها، بل هزيمة قواتها، وهو الأمر الذي يضع موسكو في موقف صعب علي مختلف الأصعدة، نظرا لإعطاء الفرصة لحلف الناتو بالتوغل شرقا وتهديد الأمن القومي الروسي وخلق واقع جيو-سياسي تميل الكفة فيه للمعسكر الغربي. وداخليا، قد تضع هزيمة القوات الروسية نهاية للحياة السياسية  للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. إلا أنه من المؤكد وجود إدراك لدى صناع القرار في روسيا بضرورة عدم الوصول إلي أي سيناريو قد يؤدي إلي تهديد أمنها القومي بمفهومه الواسع والشامل. وفي هذا الإطار، من المرجح أن القوات الروسية لن تنسحب من المدن التي احتلتها أو التي تحاصرها كماريبول، كما تنوي التوصل إلي اتفاق سلام إلا بعد أن تحقق في أسوأ تقدير بعض المكاسب التي تحافظ علي أكبر قدر ممكن من نفوذها وأمنها القومي، ولهذا فإن إطالة أمد الحرب لا يصب في مصلحه روسيا وهذه الحقيقة قد تفسر انسحاب القوات الروسية إلي الأجزاء الواقعة شرقي وجنوبي البلاد من أجل المعركة الكبري التي سوف تحدد مصير أي جولة مفاوضات قادمة.

ختاما، تعد الأزمة الأوكرانية–الروسية انعكاسا للتنافس الأمريكي-الروسي علي النفوذ في الفضاء الأوراسي، حيث تسعي الولايات المتحدة إلي حصار روسيا استراتيجيا داخل حدودها الجغرافية الفعلية ومنع تطلعات موسكو حيال مجالها الحيوي التقليدي، وذلك بتوظيف القوة الاقتصادية ليس فقط كأداة ضغط، ولكن أداة تقويض لمقدرات الطرف الروسي. ومن ثم، وقعت كييف ضحية سياسة جذب الأطراف بين الجانبين الروسي والأمريكي. وفي هذا السياق، تتجه أطراف الأزمة إلي عقد عدة جولات جديدة من المفاوضات، وإن كان يبدو أن مسار تلك المفاوضات مرهون بالعمليات العسكرية الجارية وميلها لمصلحة أحد أطراف الأزمة، وكذلك علي طول أمد العملية العسكرية الروسية وما ينتج عنها من تداعيات علي المشهد السياسي والعسكرى.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    يوسف مهاب

    يوسف مهاب

    باحث فى العلوم السياسية