تحليلات - شرق أوسط

سيناريوهات المشهد التونسي على ضوء الانتخابات البلدية "الجزئية"

طباعة

 

بعد مرور أكثر من عشرة أعوام على الثورة التونسية ومحاولة وضع الركائز الأساسية لنظام سياسي ديمقراطي، وصلت تونس إلى حالة من الاضطراب والصراع السياسي بين القوى السياسية المختلفة في انتظار تحقق المشروع السياسي للرئيس قيس سعيد.

نسلط الضوء على الانتخابات البلدية الجزئية التي عقدت مؤخرا في بضع بلديات تونسية، وذلك من خلال طرح عدة تساؤلات بحثية، هي: لماذا تجرى الانتخابات الجزئية في بعض الولايات؟ وهل يمكن اعتبارها "تجربة انتخابية" بالنسبة للقوى التي خاضت هذه الانتخابات -خاصة حزب حركة النهضة- للمشاركة في الانتخابات العامة المبكرة المزمع عقدها في نهاية العام الحالي؟ وما دلالات المشاركة فيها ونتائجها بالنسبة لمشروع الرئيس التونسي قيس سعيد في تفكيك المؤسسات الموجودة وإعادة تشكيل مؤسسات جديدة وبناء نظام وهيكل حكم جديدين وفق تصورات الرئيس سعيد؟. ومن خلال استعراض موجز لدوافع وأسباب الإجراءات الاستثنائية كمقدمات للمشروع السياسي لرئيس الدولة، والإجابة عن التساؤلات المطروحة بخصوص الانتخابات البلدية "الجزئية"، سنجتهد في تقديم السيناريوهات المختلفة لمستقبل تونس والمشروع السياسي لقيس سعيد. لذا، ويقوم التقرير على قراءة تحليلية في المشهد التونسي على ضوء الانتخابات البلدية "الجزئية" التي تم عقدها، ومحاولة استنتاج أبرز دلالاتها، وبناء السيناريوهات المحتملة.

أولا- الإجراءات الاستثنائية وقرارات 25 يوليو الرئاسية:

في 25 يوليو 2021، أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد حالة الطوارئ في البلاد مصحوبة بعدد من الاجراءات الاستثنائية كتجميد مجلس النواب لمدة 30 يوما، ورفع الحصانة عن أعضائه، وركزت أيضا علي جعل السلطة التشريعية وجزء من السلطة القضائية في أيدي الرئيس وترأس النيابة العامة، وحل حكومة هشام المشيشى، وتعطيل العمل بعدة مؤسسات في الدولة، وفقا للمادة 80 من الدستور التونسي الصادر عام  2014. جاءت هذه الإجراءات نتيجة تعمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والصحية، خصوصا بعد الانتشار الواسع لوباء "كوفيد-19"، وعدم الاستقرار السياسي في تونس، وظهرت هذه الأزمات بسبب تراجع أداء حكومة المشيشي، وانتشار الفساد في قطاعات حيوية، والاستقطاب الحاد داخل البرلمان، وتزايد الغضب الشعبي ضد أداء البرلمان والأحزاب السياسية كعملية تغيير تنحاز لمصلحة المواطنين ورفع مستوى المعيشة لديهم.

وحدثت انقسامات بين الأحزاب والقوى السياسية حول تأييد أو رفض قرارات الرئيس، وفي الوقت التي طالبت فيه قوى اجتماعية مهمة، مثل الاتحاد العام للشغل الرئيس بوضع جدول زمنى لإنهاء الحالة الاستثنائية لم تقدم نفس هذه القوى الدعم لموقف حزب حركة النهضة، وتميز موقف الجيش التونسي بالحيادية وحرصه على حماية مقدرات الدولة لاستكمال التغيير السياسى المنشود بدون أن يكون للمؤسسة العسكرية تأثير وتدخل في هذه العملية. كما أن المواقف الدولية والإقليمية والعربية اتسمت بالدبلوماسية والترقب بدون أن تمارس أي منها تدخلا مباشرا في مسار عملية التغيير فى تونس.

تبع هذه القرارات الاستثنائية ممارسة الرئيس للصلاحيات التنفيذية والتشريعية، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة نجلاء بودن، واستمرار تجميد عمل البرلمان وإيقاف جلساته وعدم الاعتراف حتى بالجلسات الافتراضية التي عقدها برلمان "الغنوشي".

ثانيا- الانتخابات البلدية الجزئية وانعكاساتها على الأزمة السياسية في تونس:

أسباب وتوقيت إجراء الانتخابات:

كان المفترض أن تجرى الانتخابات البلدية الجزئية يومى 15 و16 يناير لبلديات طبرقة وأزمور والقلعة الكبرى وساقية الزيت، وأيضا يوم 29 و30 من الشهر نفسه تجري انتخابات الشيحية، ولكن لم تتم بسبب فيروس كورونا، حيث واجهت أغلب المجالس البلدية المنتخبة صعوبات في توفير احتياجات السكان بسبب صعوبات هيكلية قانونية وأخري مادية، بالإضافة إلي التداخل في الصلاحيات بين الولاية والمعتمدية والبلدية.

منذ الانتخابات البلدية عام 2018 قدم أكثر من رئيس ومستشار لثلاثين بلدية استقالتهم، بالإضافة إلي ثمانين بلدية في حالة عطل شبه تام، ودخلت أغلب المجالس البلدية صراعات سياسية أدت إلي عدم قدرتها علي الاستجابة لمطالب المنطقة البلدية وعلي تحقيق وعودها الانتخابية في الرفاهية وتحسين البنية التحتية. وبحسب الفصل 303 من مجلة الجماعات المحلية، ينحل المجلس الجهوي بالاستقالة الجماعية أو بالاستقالة المتزامنة لأغلبية أعضائه التي توجه إلي الوالي (المحافظ) المختص، ويعد المجلس محلولا بانقضاء 15 يوما من تاريخ إعلام الوالي الذي يتولي إعلام كل من الهيئة العليا المستقلة الشغور والانحلال، وبعد إعلام الهيئة تنظم انتخابات حزبية خلال 30 يوما من هذا الإعلام.

بلديات إجراء الانتخابات المحلية:

في يوم الثلاثاء 1/3/2022 صدر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية في عدده الأخير أمر رئاسي يتعلق بدعوة الناخبين لانتخابات بلدية جزئية في خمس بلديات لانتخاب أعضاء المجالس البلدية في يوم الأحد 27 /3 /2022، وهي (طبرقة من ولاية جندوبة، وأزمور من ولاية نابل، والقلعة الكبرى من ولاية سوسة، وساقية الزيت والشيحية من ولاية صفاقس)، كما يدعو الناخبين من العسكريين وأعوان قوات الأمن الداخلي المسجلين بالدوائر المذكورة لانتخاب أعضاء هذه المجالس.

التنافس والقوي السياسية المشاركة في الانتخابات البلدية:

أعلن عادل البرينصي، نائب رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، ترشح 13 قائمة انتخابية  بصفة قانونية ونهائية موزعة بين تسع قوائم مستقلة وأربع قوائم حزبية من حزبي حركة النهضة وحركة الشعب القومية، تتنافس علي 120 مقعدا من المقاعد في البلديات الخمس.

مشاركة الناخبين التونسيين في البلديات:

أكد نائب رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، فاروق بوعسكر، على جاهزية 58 مركز اقتراع تحتوي علي 229 مكتبا لقبول نحو 120 ألف ناخب مسجلين في البلديات المعنية. وفي يوم الأحد 27/3/2022 توجة الناخبون التونسيون في البلديات الخمس لاختيار أعضاء مجالس هذه البلديات، وبحسب الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أن النسبة العامة للإقبال علي مكاتب الاقتراع لم تتجاوز 5% في جميع البلديات، ما يعني امتناع التونسيين عن المشاركة.

بلغت نسبة الإقبال الخاصة بالمدنيين للانتخابات البلدية الجزئية ببلدية أزمور التابعة للدائرة الانتخابية نابل 1 إلي حدود الساعة 18:00، بعد غلق مراكز الاقتراع 4.47%، وبلغت نسبة الإقبال علي صناديق الاقتراع لانتخاب مجلس بلدي جديد في القلعة الكبرى من ولاية سوسة 8:08%، وبلغت نسبة الإقبال علي مكاتب الاقتراع الخاصة بانتخابات ببلدية طبرقة (جندوبة) 4.60%، وبلغت نسبة الإقبال الخاصة بالمدنيين للانتخابات البلدية الجزئية ببلدية ساقية الزيت (صفاقس 1) بعد غلق مراكز الاقتراع 8.32%. أما الانتخابات البلدية الجزئية ببلدية الشيحية (صفاقس 1)، فبلغت نسبة إقبال المدنيين فيها إلي حدود الساعة 18:00 بعد غلق مراكز الاقتراع 10.07%.

المؤشرات الأولية لنتائج الانتخابات البلدية:

جاءت المؤشرات الأولية لبعض البلديات التي تمت فيها الانتخابات الجزئية على النحو التالى:

-                     بلدية طبرقة:

أظهرت نتائج الانتخابات الجزئية ببلدية طبرقة فوز قائمة حركة النهضة بـ 7 مقاعد وحركة الشعب بـ 6 مقاعد و11 مقعدا إلي القائمة المستقلة الازدهار بـ 7 مقاعد والقائمة المستقلة الثانية المرجانة بـ 4 مقاعد.

-                     بلدية أزمور:

وفق النتائج الاولية لعملية الفرز التي جرت يوم الأحد 27/3/2022 بمقر الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن فوز القائمة المستقلة الوحيدة المترشحة للانتخابات البلدية الجزئية ببلدية أزمور الدخلة نابل.

-                     بلدية شيحية وساقية:

أظهرت النتائج الاولية للانتخابات ببلدية الشيحية بعد عملية التجميع والفرز اليدوى والآلي التي أجرت يوم الاحد الساعة الثامنة 27/3/2022 بالإدارة الفرعية للانتخابات بولاية صفاقس إلي فوز قائمة "الشيحية تجمعنا" عن بلدية الشيحية وقائمة "اليد في اليد" عن بلدية ساقية الزيت في الانتخابات البلدية الجزئية.

نستخلص مما سبق أن هناك عدة دلالات لإجراء الانتخابات البلدية في تونس. أولاها؛ وجود أفق لحل الخلاقات السياسية بالآليات الديمقراطية وعدم اللجوء إلي العنف السياسي أو الاستقطاب الحاد لأي طرف. ثاني الدلالات يتعلق أيضا بحزب حركة النهضة؛ ووجوده علي الساحة الانتخابية يدل علي إمكانية محتملة للحزب فى تجميع قواه ولعب دور فى سباق الانتخابات التشريعية والرئاسية المبكرة القادمة لو اعتبرنا أن هذه الانتخابات "بروفة" لهما. وأخيرا؛ تعكس النسبة الضئيلة لمشاركة الشعب التونسي في الانتخابات البلدية علي عدم رضاء الشعب التونسي -في البلديات التي شهدت الانتخابات على الأقل- علي أداء البلديات والوضع السياسي، وبالتالي امتنعت نسبة كبيرة من الشعب عن المشاركة في الانتخابات البلدية.

ثالثا- السيناريوهات والرؤية المستقبلية:

1.               السيناريو الأول.. استمرار الصراع :

يفترض هذا السيناريو استكمال الرئيس تنفيذ ما بدأه من إجراءات، واستمرار تعنت حزب حركة النهضة فى الإجراءات والقرارات الرئاسية. وما يدعمه: رغبة الرئيس في إعادة إصلاحدستور 2014، وهذه الإجراءات قد تساعد في تنفيذ ذلك، وبحث المجتمع الدولي عن ضمانات تحد من الانعكاس السلبي للإجراءات علي الوضع في تونس والدول المجاورة، وقبول رئيس الحكومة لإجراءات الرئيس، مما أدي إلي إضعاف القوى المعارضة، ومشاركة حزب حركة النهضة في الانتخابات البلدية الجزئية، ما يبرز أن الحركة ما زالت موجودة في المشهد السياسى والاجتماعي التونسي.أما ما يعوقه، فهو خوف الأطراف السياسية من غياب مؤسسات الدولة والتفرد بالقرار، ودعوة المجتمع الدولي والإقليمي إلي استقرار الوضع السياسي في تونس.

2.               السيناريو الثاني.. تراجع الرئيس في إجراءاته:

يفترض هذا السيناريو تراجع الرئيس قيس سعيد عن قراراته، وما يدعمه: ضعف تأييد الشعب التونسي لهذه القرارات والضغط للتراجع عنها، وتراجع بعض الأحزاب عن تأييد قيس سعيد، مثل حزب التيار الديمقراطي، وعودة الرئيس لتحديد الفترة بـ 30 يوما، عدم ضمان تأييد المؤسسة العسكرية لتدعيم هذه الإجراءات. أما ما يعوقه: استمرار الرئيس في تنفيذ هذه الإجراءات، وحظر التجوال الجزئي، وحظر التجمع فوق ثلاثة أشخاص.

3.               السيناريو الثالث.. العودة إلي الحوار الوطني والوصول إلي حلول توافقية:

يفترض هذا السيناريو تغليب لغة الحوار والخروج بصيغة توافقية جديدة، وما يدعمه: الخوف من امتداد فترة الأزمة وعدم وضوح الخطوات العملية المستقبلية، وضغط المنظمات الداخلية والخارجية لضبط المرحلة القادمة، ودعوة المنظمات الدولية الكبرى كالاتحاد الأوروبي إلي استمرار عمل البرلمان في أقرب وقت، ورفض المجلس الأعلى للقضاء تولي الرئيس للنيابة العمومية، ووجود دول إقليمية كالجزائر من أجل العمل كوسيط، وانخفاض حدة الخطاب بين رئيس البرلمان ورئيس الجمهورية.

المصادر:

- الأزمة السياسية في تونس تتصاعد.. أي دور يلعبه الجيش؟، DWعربي،21 سبتمبر 2021، على الموقع التالي :https://M.dw.com

- تقدير موقف: المشهد السياسي التونسي بعد إقالة الحكومة وتجميد البرلمان، (مركز الفكر الاستراتجي للدراسات)،  ص9.

- تونس في أزمة :تفسير معمق، مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية، 12 أغسطس 2021 علي الموقع التالي :https://africacenter.org/ar/spotlight.

- السيناريو المرجح: ماذا يحدث في تونس بعد القرارات الاستثنائية للرئيس سعيد؟"، ملفات المستقبل، العدد 1، أغسطس 2021، أبوظبي: المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، ص6-8.

- حمادي معمرى، الانتخابات البلدية في تونس.. هل من مشارك؟، إندبندنت عربية، 27 مارس 2022 علي الموقع التالي:https://www.independentarabia.com/node/315176

- صدور أمر رئاسي لدعوة الناخبين للتصويت في انتخابات بلدية جزئية في 5 بلديات، ألترا تونس، 2 مارس 2022 علي الموقع التالي:https://ultratunisia.ultrasawt.com

- تونس: انطلاق الانتخابات البلدية وتنافس بين "النهضة" و"حركة الشعب"، 27 مارس 2022، جريدة الشرق الأوسط، رقم العدد (15825)، علي الموقع التالي:  https://aawsat.com/hom/artide/355595

- الهيئة العليا المستقلة للانتخابات : هذه نسب الإقبال علي الانتخابات البلدية الجزئية ، 28 مارس 2022، علي الموقع التالي:  https://nabd.com

- طبرقة: حركة النهضة في صدارة نتائج الانتخابات البلدية، تليفزيون نسمة التونسي، 27 مارس 2022 علي الموقع التالي:https://www.nessma.tv/ar

- نابل: القائمة الوحيدة المستقلة المترشحة للانتخابات البلدية الجزئية ببلدية أزمور "الدخلة" تفوز وتحصل علي 12 مقعدا، 28 مارس 2022 علي الموقع التالي :https://ar.webmanagercenter.com

- القوائم المستقلة تفوز في بلدية الشيحية وساقبة الزيت، شبكة تونس-إفريقيا للأنباء، 28 مارس 2022، علي الموقع التالي:  https://www.tap.info.tn/ar

- اليوم انتخابات جزئية بـ 5 بلديات، جريدة الفجر التونسية، 26 مارس 2022 علي الموقع التالي:  https://www.jaridatelfejr.com

-  بعد 25 يوليو: المجتمع المدني التونسي بين سياسة الصمت والترقب وانتظار النتائج، مبادرة الإصلاح العربي علي الموقع التالي:www.reform.net

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    رانيا طلعت عبدالمحسن

    رانيا طلعت عبدالمحسن

    باحثة دكتوراه في العلوم السياسة، كلية التجارة، جامعة أسيوط