تحليلات - شئون اقتصادية

التكنولوجيا ... السلاح الجديد في مواجهة التضخم العالمي

طباعة

منذ اندلاع الأزمة الروسية - الأوكرانية في أواخر فبراير 2022، والعالم يعيش في حالة ضبابية. فالمشهد الحالي قد يكون تكراراً لسيناريو 1939، الذي فجر الحرب العالمية الثانية، التي خلفت الدمار في عشرات الدول حول العالم وعشرات الملايين من القتلى والجرحى والمشردين. ولكن سيناريو 2022 قد يكون كارثياً، بما تحمل الكلمة من معني ولا يقاس بما حدث في أربعينيات القرن الماضي، لسبب بسيط هو أن الكثير ممن هم في وسط الأزمة يملكون السلاح النووي؛ هذا السلاح المدمر للأرض والحرث والنسل.

وكل يوم يمر في الأزمة ترتفع أسعار السلع الضرورية للبشر حول العالم. فلقد قفز سعر توريد طن القمح خلال أسبوع من 287 دولارا في 23 فبراير 2022، قبيل بدء العمليات العسكرية الروسية على الأراضي الأوكرانية، إلى 395 دولارا في 4 مارس 2022، أي بنسبة 41% تقريباً، وهذا طبقاً للمنشور على موقع Markets Insiderالمتخصص، وهذا يعتبر أكبر ارتفاع يشهده سعر توريد القمح منذ 2008، كون طرفي الأزمة من أكبر منتجي القمح في العالم، فروسيا تحتل المركز الثالث في الإنتاج السنوي للقمح (86 مليون طن)، وأوكرانيا في المركز التاسع (26 مليون طن).

كذلك، ارتفع سعر برميل البترول بنفس الطريقة، حيث بلغ سعر برميل خام برنت إلى 118 دولارا في الرابع من مارس 2022، بعد أن كان 72 دولارا في السادس من سبتمبر 2021، محققاً نسبة زيادة قدرها 64%. سعر لم تشهده الأسواق منذ أكثر من ثماني سنوات. ونفس الأمر بالنسبة للغاز الطبيعي، بتسجيله ارتفاعات قياسية، كون الاتحاد الروسي من أكبر مصدريه في العالم، بالإضافة أن الغاز الروسي يمثل نحو 60% من إمدادات القارة الأوروبية. هذا بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف الشحن حول العالم منذ انتشار جائحة كورونا في مارس 2020، وحتى الآن.

إذاً، نحن أمام موجة من التضخم غير مسبوقة؛ موجة من التضخم لم يشهدها العالم من أكثر من سبع عقود، ولن تقارن حتى بما شهده العالم، إبان الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008، أو مع انتشار فيروس كوفيد-19 المستجد.

وبالتالي كل شيء سيرتفع سعره فى عالمنا بسبب هذه الأزمة الكبيرة، والتي تتطور يوماً بعد يوم بين الشرق بقيادة روسيا وحلفائها، وعلى رأسهم بيلاروسيا، من جانب والغرب بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها من دول حلف الناتو، وعلى رأسهم بريطانيا وألمانيا وفرنسا، على الجانب الآخر.

وهنا يظهر تساؤل: "هل للتكنولوجيا والتحول الرقمي دور في تقليل أثر هذه الموجة من التضخم على المواطن العادي والبسيط؟"

قبل أن نجيب عن هذا السؤال، لابد من الرجوع لتعريف ما هو "التحول الرقمي". فالتحول الرقمي ليس تقديم الخدمات، سواء الحكومية منها، أو الخاصة عن بعد، أو ميكنة منظومة عمل في مؤسسة عامة أو خاصة، أو توفير آليات للدفع عن بعد من خلال محافظ الهاتف المحمول المالية، بل هو منظومة متكاملة قائمة على توطين التكنولوجيا في جميع القطاعات الاقتصادية، الزراعية والصناعية والتجارية، نحو مزيد من ضبط إيقاع منظومة الأعمال، وجعلها أكثر قدرة على التوقع واتخاذ القرارات بشكل لحظي، بحيث تكون منظومة تتميز بالمرونة والقابلية لامتصاص الصدمات. ولعل ما حدث فى أثناء التصدي للأزمة الصحية العالمية التي أصابت الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، خلال عامي 2020 و2021، خير مثال على كيفية استخدام التطبيقات التكنولوجية بشكل متكامل ومترابط للحد من آثار جائحة كورونا، والتعافي على المستويين الاقتصادي والمجتمعي. وهذا بالطبع قبل أن تبدأ أزمة أكبر وأخطر، وهي الأزمة الروسية - الأوكرانية.

وبالعودة للسؤال الأساسي، نري أن دور التكنولوجيا هو دور فعال إذا تم تطبيق مفاهيم التحول الرقمي بالصورة الأعم والأشمل.

فأي منظومة اقتصادية لديها سلسلة إمداد، تبدأ من المادة الخام وتنتهي بالمنتج النهائي الذي يقوم بشرائه العميل النهائي. وفي كل حلقة من حلقات تلك السلسلة للتكنولوجيا دور مهم.

فالتكنولوجيا لها دور في تقليل عدد حلقات التداول داخل سلسلة الإمداد، وبالتالي المساعدة في خفض تكلفة المنتج النهائي على المواطن، لأنها تلغي دور الوسطاء بشكل رئيسي. كذلك، فإن التكنولوجيا حجر أساس لجعل تلك الحلقات متناغمة ومترابطة، بحيث تري كل حلقة منها ما قبلها وما بعدها، نحو مزيد من الكفاءة والتنافسية، مما يجعل تكلفة الإنتاج أقل وأكثر وفرة، وفي الوقت ذاته يحقق الربحية العادلة للصانع والتاجر ومقدم الخدمة داخل سلسلة الإمداد. وهذا أمر مشروع، بل محبذ لسرعة دوران عجلة الإنتاج وخلق فرص عمل جديدة، أو على أقل تقدير الاحتفاظ بنفس معدلات التشغيل الحالية.

فلو نظرنا إلى سلسلة إمداد السلع الغذائية، كمثال على ما سبق، ونطبق عليها مفهوم التحول الرقمي الشامل، سوف نري التأثير المتوقع على خفض الأسعار، في الظروف الطبيعية، أو الحد من ارتفاع الأسعار بصورة غير مبررة، في الظروف غير الطبيعية، التي تعيشها العالم الآن في شرقه وغربه وشماله وجنوبه: فالأمر يبدأ عند المزارع، والذي بدون أن يوطن التكنولوجيا في زراعته، مثل تكنولوجيا الزراعة الدقيقة، ومجسات التربة والهواء والطائرات بدون طيار لمراقبة نمو المحصول، والمرتبطة جميعها لحظياً بمراكز دعم القرار من خلال شبكة الإنترنت، وتقنيات مقاومة الآفات وإعادة تدوير المخلفات والري والحصاد والتخزين المتقدمة، وإمداده بالنشرات الزراعية، وتوقعات الطقس اللحظية، وغيرها من التكنولوجيا التي يطول شرحها، لن يحقق أي تطور لمستوي إنتاج محصوله كماً وكيفياً. وبالتالي كلما زاد معدل توطين التكنولوجيا في هذه المرحلة، نمت ربحية المزارع لزيادة محصوله، الذي يمثل المادة الخام في هذا الخصوص، وارتفاع جودته، بالإضافة إلى أن توطين تكنولوجيا إعادة التدوير ستساهم في توفير مصدر دخل جديد ومستحدث للمزارع.

وفور قيام المزارع بالحصاد، يتم تحديد كمية المحصول بصورة فورية، ومن ثم يتم توجيه أقرب سيارة له، من خلال تطبيقات النقل الذكي، ودفع قيمة المحصول من خلال منظومة المدفوعات اللانقدية فور التأكد من الكميات الفعلية وجودتها، لنقل المحصول إلى مراكز لوجيستية ذكية. توطن التطبيقات التكنولوجية ذات الصلة بها، مثل نظم المعلومات الجغرافية، ونظم إدارة المخزون، والروبوتات المخصصة للشحن والتفريغ، والمخازن المجهزة بالمجسات لقياس درجات الحرارة والرطوبة، وغيرها، لتجميع وتجهيز وتخزين المحاصيل، وتكون موزعة جغرافياً ومرتبطة بشبكات الطرق والنقل، لتحقيق توازن بين العرض والطلب على مستوي الدولة ككل، ليتم التعامل مع هذا المحصول، إما بالحفظ أو المعالجة لتحويله لمنتج غذائي تام أو شبه تام. وهنا يتم تقليل الهادر، الناجم عن سوء النقل والتخزين، بالإضافة لحصر الكميات الفعلية على مستوي الدولة. كما أن تلك المراكز اللوجيستية ستعمل على توفير المحاصيل والمنتجات الغذائية التامة أو شبة التامة، لحلقة التداول التالية، وهي إما تجار الجملة أو المصنعين، وفقاً للكميات المطلوبة منهم وبأسعار أكثر تنافسية من خلال بورصة سلعية، تفصح عن السعر الحقيقي والعادل لتلك المحاصيل والمنتجات التامة وشبة التامة وبصورة لحظية. وهذا لن يتحقق إلا بوجود منظومة تكنولوجية تنظم هذا الأمر، بدءاً من طلب المنتجات وتجهيزها وتسلمها، ومروراً بالتخزين ودفع القيمة المالية إلكترونياً وانتهاءً بتسليم المنتج الخام أو التام أو شبة التام لحلقة التداول التالية. بالتالي، سيكون هناك وفر في التكلفة مع تقليل الفاقد أيضاً في هذه المرحلة، مع زيادة فعالية التسلم والطلب والتوزيع المقرون بالقدرة على التنبؤ بمستويات العرض والطلب المستقبلية.

ثم تأتي مرحلة تاجر التجزئة، والذي لابد أن يكون مرتبطاً بهذه المنظومة تكنولوجياً أيضاً. فمن خلال تلك المنظومة يتمكن تاجر التجزئة التعرف على الأسعار الخاصة بالمنتجات لحظياً، وكذلك يمكنه طلب ما يحتاجه من المصنع أو تاجر الجملة من خلال تطبيق رقمي، طبقاً لما يحتاجه من المنتجات، بصورة تلقائية بناءً على البيانات المتوافرة له من خلال تطبيق إدارة المخزون والمبيعات لديه. وفور وصول الطلب إلى المصنع أو تاجر الجملة، يتم تجهيزه ووضعه في سيارات نقل البضائع بطريقة مخططة تساعد على تقليل التكلفة والاستفادة القصوى من مساحات التخزين بسيارات نقل البضائع التابعة للمصنع أو تاجر الجملة، من خلال تطبيقات النقل الذكي وإدارة أساطيل النقل. وفور تسلم تاجر التجزئة للمنتج النهائي يتم توريد قيمته المالية للمصنع أو تاجر الجملة من خلال تطبيقات الدفع الإلكترونية اللانقدية. مع الأخذ في الاعتبار أن يتم وضع سعر المنتج النهائي بطريقة واضحة عليه لمنع أي تلاعب في الأسعار خلال حلقات التداول المختلفة، وتخفيف آثار التضخم على المواطن العادي بإغلاق أي ثغرات من الممكن استغلالها من ضعاف النفوس لتحقيق مكسب غير مبرر، مع زيادة كفاءة المنظومة لتحقيق معدلات ربح أفضل لأطراف سلسلة الإمداد، بدءاً من منتج المادة الخام ووصولاً لتاجر التجزئة.

وما سبق ليس تنظيراً من متخصص في إدارة التكنولوجيا، ولكنه العلم المحقق، فالعالم منذ أزمة فيروس كورونا وما سببتها من اضطراب في سلاسل الإمداد العالمية، والتي ترتب عليها زيادة في أسعار الشحن والنقل، وبالتالي ارتفاع في أسعار السلع حول العالم، وهو يفكر في استخدام وتوطين التكنولوجيا بصورة أكثر كثافة في سلاسل الإمداد، للوصول بها إلى منظومة أكثر قدرة على التنبؤ وأخذ القرارات بصورة لحظية لتصل لمرحلة سلاسل الإمداد ذاتية التفكير Self-Thinking Supply Chain، بحيث تكون تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات والتعلم العميق للآلات والمجسات والروبوتات وإنترنت الأشياء في قلب المنظومة، والتي ترتبط بنظم التصنيع والنقل والتوزيع الذكية، وأنظمة إدارة المخزون والمبيعات والموردين والعملاء بصفة آنية، وهذا للتعامل المرن مع أي مستجدات فيما يخص العرض والطلب، وإدارة أي أزمة تنشأ عن خلل في هذا الخصوص، بصورة فعالة وقادرة على امتصاص الصدمات.

وهنا أتذكر مقولة كررها الرئيس السيسي في العديد من اللقاءات، مفادها أن التحول الرقمي هو مسألة أمن قومي. ونظن أن ما تعرضت له مصر والعالم أجمع منذ مارس 2020 كنتيجة للأزمة الصحية العالمية، ثم الأزمة الروسية - الأوكرانية أثبتت صحة رؤية القيادة السياسية المصرية، فالدول التي استثمرت في مشروعات التحول الرقمي، كانت الأكثر قدرة وقابلية للتعافي بسرعة تتناسب طردياً مع حجم الاستثمار التكنولوجي بها.

والوصول لمفهوم "التحول الرقمي الشامل" لن يتأتى إلا بتوحيد الرؤي والجهود بين الدولة ومنظمات الأعمال الرسمية الممثلة لمجتمع التجارة والصناعة والخدمات، مثل اتحادات الغرف التجارية والصناعة، لتنفيذ هذا التحول، الذي أصبح أمراً ليس في نطاق الرفاهية، وكذلك تفهم القطاع الخاص لتلك الظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم في وقتنا الراهن.

التكنولوجيا دوماً هي السبيل الوحيد للتطور، وبدونها الكل يرجع إلى المربع الأول، وما أحوجنا للتكنولوجيا الآن لعبور هذه الأزمة العالمية ومساعدة المواطن البسيط في التصدي لها بأقل خسائر ممكنة. كما علينا أن نتذكر أن في كل محنة منحة. والدولة المصرية لديها الإرادة الحقيقية لجعل المستحيل حقيقة.

طباعة

    تعريف الكاتب

    م. محمد عزام

    م. محمد عزام

    استشاري التحول الرقمي، وعضو مجلس إدارة الجمعية الدولية لإدارة التكنولوجيا