تحليلات - شرق أوسط

الهلال الداعشى الجديد... أهم آليات البقاء على ساحة الإرهاب

طباعة

على الرغم من الضربات المؤلمة التي تعرض لها تنظيم داعش في معاقله الرئيسية في سوريا والعراق، مما جعل البعض يعتقد بأن تلك الضربات قد تمثل بداية النهاية لنشاط داعش الأم، إلا إنه تمكن من الاستمرار على الساحة وشن الهجمات الإرهابية، حتى داخل المناطق الى تتمتع بحماية أمنية كبيرة، وهو ما كشف عنه استهدافه للعاصمة العراقية بغداد بتفجيرين انتحاريين في 21 يناير 2021، استهدفا سوق مكتظة بالمواطنين، مما أسفر عن سقوط 32 قتيلا، وما يقرب من 110 جرحى، مما دفع الحكومة العراقية الى إطلاق عملية عسكرية أطلق عليها "ثأر الشهداء"، وهو ما يطرح تساؤلاً مهماً حول أهم الآليات التى يعتمد عليها تنظيم داعش فى البقاء على الساحة وتصدر مشهد الارهاب العالمى، لاسيما بعد أن نقل ثقله التنظيمى والعملياتى الى فروعه الخارجية المنتشرة فى مناطق عدة من العالم، لاسيما داخل القارة الإفريقية التى أصبحت قبلة التنظيم خلال الأعوام الماضية.

دوافع التحول:

تعرض تنظيم القاعدة الأم خلال الأعوام الماضية الى مجموعة من الأزمات المتلاحقة، أدت الى تراجعه وانحساره بشكل كبير، فلم يكد التنظيم يستوعب هول سقوطه فى كل من سوريا والعراق، حتى بدأت قيادته ورموزه التاريخية تتساقط واحد تلو الآخر، حيث بدأت بمقتل "ابوبكر البغدادى" زعيم التنظيم فى أكتوبر 2019، فى عملية قامت بها القوات الخاصة الأمريكية فى شمال سوريا، ثم القبض على عدد من قياداته البارزة، على غرار "أبوسالم المولى" مسئول استخبارات داعش، الذى أعلنت وكالة الاستخبارات العراقية القبض عليه في 4 أكتوبر 2020، وذلك بعد بضعة شهور من القبض على "عبد الناصر قرداش"، الذى تشير العديد من التقارير أنه كان أحد أبرز المرشحين لخلافة البغدادى، وانتهاء بإعلان رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي فى 29 يناير 2021 عن مقتل "أبو ياسر العيساوي" القيادي في تنظيم "داعش"، والذي يطلق على نفسه "نائب الخليفة"، على يد قوات الأمن العراقية.

ومما زاد الأمر سوءا بالنسبة لما تبقى من تنظيم داعش الأم في سوريا والعراق، استمرار الولايات المتحدة الامريكية في ملاحقة زعيم التنظيم الجديد "حجى عبدالله" والملقب بـ "أبو إبراهيم الهاشمي القرشي"، وهو ما أعلنته وزارة الخارجية الأميركية في 25 سبتمبر 2020 بأنها لا تزال تذكر بعرضها منح مكافأة قيمتها 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض عليه بدلا من خمسة ملايين دولار، كانت قد أعلنت عنها في يونيو من نفس العام، وهو ما زاد من الأعباء الأمنية على التنظيم بشكل كبير، لاسيما في ظل قدرته على تحمل خسارة زعيم جديد، وهو ما شجعه على التوجه صوب المناطق التى تنشط فيها فروعه ومجموعاته.

استراتيجية البقاء:

على الرغم رغم من نجاح تنظيم داعش في الاستمرار على الساحة السورية والعراقية عبر بعض المجموعات العنقودية التي تقوم بشن الهجمات الخاطفة، إلا أنه حرص على التوجه نحو المناطق التى يمكن أن تمثل تربة خصبة لنمو تنظيمية وانتشار افكاره التكفيرية، حتى يحافظ على كيانه التنظيمى من ناحية، ويستمر فى منافسة عدوه تنظيم القاعدة على صدارة المشهد الجهادى من ناحية أخرى، وذلك من خلال الاعتماد على استراتيجية واسعة، تقوم على مجموعة من الآليات، يمكن تحديد أبرزها فى النقاط التالية:

التمسك بالوجود في العراق: يبدو أن تنظيم داعش يحرص على الوجود في العراق، ليس فقط لأن مدينة الموصل قد شهدت إعلان خلافته المزعومة 2014، وهو ما يجعل وجوده فى العراق  يحمل رمزية فكرية مهمة، وإنما لأن الاختفاء منه يعنى الانهيار التنظيميى الكامل، وهو ما قد يؤدى تلقائيا الى فقدان السيطرة على الفروع والمجموعاته الخارجية، وبالتالى انتقال منصب الخلافة الى أحد قادة تلك الفروع، وهو ما لا يمكن أن يسمح به القيادات المتبقية، لأن ذلك يعنى حرمانها من الامتيازات التنظيمية والمادية التى تتمتع بها، وهو ما يفسر استمرار عناصر التنظيم وخلاياه النائمة في شن الهجمات الإرهابية، معتمدين في ذلك على التحول من استراتيجية السيطرة الترابية الى استراتيجية الانتشار التنظيمي،  وهو ما كشفت عنه تصريحات رئيس الوزراء الكاظمي في 22 يناير 2021 التي أكد خلالها "وجود محاولات يومية لـ"داعش" للوصول إلى بغداد، تم إحباطها من خلال عمليات استباقية"، وهو ما يعد تصريحا ضمنيا من الحكومة العراقية  بتمسك فلول التنظيم بالاستمرار فى ممارسة أنشطتهم الإرهابية، لمنع تعرض التنظيم لشبح الانهيار الكامل.

توسيع الهلال الساحلى:منذ إعلان تنظيم داعش عن فرعه الجديد في القارة الإفريقية 2019 والذي أطلق عليه "ولاية الصحراء الكبرى"، وهو يسابق الزمن لتعزيز وجوده فى تلك المنطقة، والتغلب على التحديات التي فرضها عليه منافسه تنظيم القاعدة، حتى يتمكن من خلق حالة من الاتصال التنظيمي بين الفرع الجديد وولاية غرب افريقيا (بوكو حرام سابقاً) وهو ما يمكنه من تأسيس ما يشبه الهلال الداعشى، الذى سيمتد من تشاد والنيجيري مالي حتى بوركينافاسو ونيجيريا، مما يجعل من منطقة غرب إفريقيا بؤرة داعشية جديدة، وهو ما يفسر حرص التنظيم على اثبات حضوره وتصعيد هجماته الارهابية فى تلك المنطقة،

خاصة أن هذا التصعيد يتزامن مع تصعيد مماثل تقوم به جماعة بوكو حرام النيجيرية التي تطلق على نفسها ولاية غرب إفريقيا من أجل توسيع نفوذها وسيطرتها على العديد من المناطق المهمة بالنسبة لها، على غرار منطقة بحيرة تشاد التي صارت تمثل واحدة من مصادر التمويل المهمة بالنسبة للتنظيم بسبب استغلالها في التجارة غير المشروعة والتهريب عبر الحدود، إضافة للأموال التى تتحصل عليها عناصر التنظيم مقابل الضرائب التي يفرضونها على التجار والمهربين، وهو ما يجعله يحرص على مهاجمة النقاط العسكرية والأمنية التى يمكن أن تحد من نشاطه، على غرار قيام احدى المجموعات التابعة للتنظيم بالسيطرة على قاعدة مارته العسكرية في شمال شرق نيجيريا فى 16 يناير 2021، وهو ما أدى الى تكبد القوات الحكومية خسائر في الأرواح والمعدات.

التمدد فى وسط إفريقيا: كشف نشاط تنظيم داعش داخل قارة إفريقيا أنه يسابق الزمن للتمدد والانتشار فى منطقة وسط إفريقيا، خاصة أنه بعيد عن متناول منافسه زعيم القاعدة، الذى لا يزال مشغولا بتعزيز وجوده فى الساحل الإفريقى حتى يجعلها منطقة نفوذ خالصة له، وهو ما برز من خلال الاهتمام الإعلامى للتنظيم بنشاط مجموعاته المتصاعد فى تلك المنطقة، على غرار ما أعلنت عنه وكالة «أعماق» الذراع الإعلامية للتنظيم، عن مسئولية فرع التنظيم فى وسط افريقيا عن الهجوم الواسع الذى استهدف سجن كانجباي المركزي في 20 أكتوبر 2020، مما أسفر عن فرار أكثر من 1300 من السجناء.

 ومن اللافت للنظر في هذا السياق أن داعش كان قد نشر فى أكتوبر 2020، مقطَّعًا مصورًا لأطفالٍ لا تتعدى أعمارهم 10 سنوات من منطقة وسط إفريقيا، أطلق عليهم "أشبالُ الخلافة"، وهم يحملون بعض الأسلحة ويبايعون التَّنظيم، وهو ما يحمل دلالاتٍ متعدّدة، من بينها أنّ التَّنظيم يرغب فى اثبات وجوده في تلك المنطقة، وأنه أصبح له فيها ملاذاتٍ آمنة يمكنه من خلالها تسجيل المقاطع المصوَّرة؛ وهو ما يشير الى مدى تصاعد نفوذه في معاقله الجديدة، مما قد يحفز العناصر الداعشية حول العالم الى التوجه الى القارة الإفريقية للانخراط في صفوف التنظيم في ظل صعوبة السفر الى سوريا والعراق، مما قد يجعلها فى المستقبل بؤرة داعشية ملتهبة ربما سيكون من الصعب السيطرة عليها.

الحفاظ على الوجود في أفغانستان: على الرغم من كون تنظيم داعش في أفغانستان (ولاية خراسان)غير عابر للحدود على شاكلة المجموعات الداعشية في إفريقيا التي تنشط عبر حدود أكثر من دولة، إلا إنه يعد من أقوى فروع التنظيم، لما يمتع به من انتشار واسع وسيطرة تنظيمية على مناطق متعددة داخل افغانستان، فضلاً عن تعدد مصادر تمويله، حتى إن العديد من المتابعين والمراقبين يعتقدون أنه المنافس الأول للمجموعات الداعشية الإفريقية ليكون مقر الخلافة الداعشية، حال الإعلان عن سقوطها بشكل كامل في سوريا والعراق.

 لكن هذا النفوذ اصطدم بحركة طالبان التي تعد التنظيم الأقوى في البلاد، والتى تسعى الى تحجيم كل المجموعات المسلحة المنافسة لها، وهو ما أدى الى تصاعد المواجهات المسلحة والدموية بين الطرفين خلال الأعوام الثلاثة الماضية، تعرض فيها ولاية خراسان الى خسائر كبيرة بسبب ضراوة هجمات طالبان، ورغم ذلك تمكن من الحفاظ على معظم معاقله الرئيسية داخل أفغانستان، التى يعتبرها التنظيم البوابة لتصدير المشروع الفكرى الداعشى الى وسط آسيا، وهو ما يفسر لنا حرص القوى الإقليمية، على غرار روسيا والصين وإيران، على إقامة علاقات مع حركة طالبان ودعمها، كونهم يعتقدون انها القوة الوحيدة فى البلاد القادرة على القضاء على النشاط الداعشى الذى يهدد أمن تلك المنطقة.

السيطرة على مخيمات التطرف:على الرغم من مرور قرابة العامين من القضاء على دولة داعش المزعومة في سوريا والعراق، بعد تحرير جميع المناطق التي كان يسيطر عليها التنظيم، إلا أن مخاطره لم تنته فى المنطقة، بسبب وجود عدة مخيمات تأوي الآلاف من أسر وعائلات مقاتلي التنظيم الذين لقوا حتفهم خلال المعارك، الى جانب وجود أعداد من مقاتلي التنظيم الذين تم القبض عليهم داخل تلك المخيمات، وهو ما جعلها أشبه بقنابل موقوتة يمكن أن تنفجر بين لحظة وأخرى، مما يهدد أمن واستقرار المنطقة بأكملها، لاسيما في ظل سيطرة الأفكار الداعشية على أجزاء واسعة منها، وهو ما أدى الى تصاعد أعمال العنف داخلها ضد من يخالفون تعليمات التنظيم أو يمتنعون عن تنفيذها، على غرار ما أعلنت عنه الإدارة الذاتية لمخيم "الهول"، بأنها تمكنت من اعتقال ثلاثة عناصر موالين لتنظيم داعش في 17 يناير 2021 بتهمة قتل أحد نزلاء المخيم وفصل رأسه عن جسده بسبب رفضه الامتثال للقوانين المفروضة على النزلاء من قبل التنظيم، وهو ما يجعل تلك المخيمات أشبه بمؤسسات للحفاظ على الفكر الداعشى من الاندثار، في ظل حرص عناصر التنظيم على نشر أفكاره بين النزلاء، من خلال الزامهم بحضور الدورات الفكرية التي يعقدها، وكذلك إجبارهم على الالتزام بقوانين التنظيم وأحكامه في شتى أمور الحياة داخل المخيمات، فضلاً عن منعهم من التعاون مع سلطات المخيم، على أساس أنه من يفعل ذلك يعد خائن ومرتد ويجب قتله، وهو ما يؤكد ما أفاد به المرصد السوري لحقوق الإنسان في 25 ديسمبر 2020 من أن مسلحين موالين لتنظيم داعش اغتالوا لاجئاً عراقياً أمام خيمته داخل المخيم بسبب تعاونه مع العاملين في "قسد" والإدارة المدنية في مخيم الهول، وهو ما يجعل من تلك المخيمات بؤر داعشية سرعان ما ستكشف تداعياتها الخطيرة خلال الفترة القادمة.

أخيرا، وعلى ضوء ما سبق، يمكن القول إن العام الجارى 2021 سيشهد استمرارا للخطر الداعشى على مستوى العالم، وهو ما لا يعنى فقط استمرار الهجمات الإرهابية الدموية للتنظيم في المناطق التي ينشط بها، وإنما اللجوء الى هجمات أكثر دموية تتناسب مع الصعود المطرد للتنظيم في عدد من المناطق، وهو ما يضع الكثير من علامات الاستفهام حول الجهود الدولية والإقليمية التي بذلت طوال الاعوام الماضية للقضاء على التنظيم، أو حتى على الأقل الحد من مخاطره.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    علي بكر

    علي بكر

    نائب رئيس تحرير السياسة الدولية وخبير الحركات المتطرفة