تحليلات - شرق أوسط

"انتفاضة الخيام " |قراءة مغايرة لاحتجاجات الشارع الإسرائيلي

طباعة

على مدى أربعة عقود منذ تأسيس إسرائيل عام 1948، كانت مصادر التوترات الاجتماعية التي تتحول إلى أزمات سياسية تتركز في البيئات الفقيرة ، خاصة البلدات العربية، ومراكز تجمع المهاجرين اليهود من آسيا وإفريقيا فيما كان يعرف بمدن التطوير.

كانت المقولة التي تلخص هذا الوضع "إن إسرائيل دولة عربية أو عالم ثالثية ، حتى العاشرة صباحا، وتتحول إلى  دولة أوروبية تنتمي للعالم الأول بعد ذلك التوقيت"...المعنى المقصود أن الوجوه التي تراها في الشوارع الإسرائيلية في الصباح الباكر هم أصحاب المهن المتدنية اجتماعيا، والأقل دخلا ، والأكثر معاناة مثل العمال العرب واليهود الشرقيين الذين يفتقرون للمهارات والتعليم الجيد ، ويضطرون للعمل في المهن الشاقة ، مثل البناء ، وجمع القمامة، وتوزيع الصحف، وخدمات المطاعم والمتاجر والمزارع وغيرها.

 أما النخبة الإشكنازية ذات التعليم المتطور، فيحتل أبناؤها مواقع العمل في الحكومة والخدمات المالية والمصرفية والصناعات الدقيقة، وهؤلاء لا يظهرون إلا في ساعات النهار قبل الظهيرة مباشرة، ويملئون المطاعم وحفلات الموسيقى والنوادي الليلية في المساء.

 على خلاف التاريخ الطويل للاحتجاجات الاجتماعية في إسرائيل من انتفاضة وادى الصليب في حيفا عام 1959 ونشاطات حركة الفهود السود في أواخر الستينات، وبداية السبعينات من القرن الماضي، والتي تصدرتها الفئات المهشمة اجتماعيا، تأتى حركة "الخيام" الاحتجاجية الحالية التي بدأتها "دافنى ليف" البالغة 25عاما، والعاملة في مجال السينما، لتخدع الكثير من المحللين الذين بادروا بوصف الحركة بأنها انتفاضة الطبقة المتوسطة في إسرائيل لأسباب اقتصادية، وهى طبقة عريضة تشكل ما نسبته 46% من المجتمع ، ويحصل أبناؤها على دخل متوسط يقترب من 30 ألف دولار في العام، فهل هذه الانتفاضة تعبر عن معاناة الطبقة الوسطى من الأوضاع الاقتصادية فعلا؟.

تظهر البيانات الإسرائيلية وشعارات المحتجين عدة حقائق تشكك في كون ظاهرة "الخيام الاحتجاجية" تعبيرا عن المعاناة الاقتصادية للطبقة المتوسطة:

 1- يمر الاقتصاد الإسرائيلي بواحدة من أفضل فتراته حاليا، حيث بلغ معدل النمو4.5 % في العام الماضي ، ويتوقع أن يزيد إلى 5.2% في العام الجاري، كما انخفض معدل البطالة إلى أدنى مستوياته منذ عام 1984 ليصل إلى 5.8% في شهر أبريل الماضي ، وهو ما ينعكس بالضرورة ايجابيا على مستويات العيش لكافة الطبقات.

2- إن ارتفاع أثمان العقارات وإيجاراتها في تل أبيب (المدينة التي انطلقت الحركة الاحتجاجية منها) ليس موجودا ببقية مدن إسرائيل، بل إن المستوطنات في الأراضي المحتلة تقدم حوافز ضخمة لجذب السكان للعيش فيها، وتستثمر الحكومة الإسرائيلية الحالية أموالا طائلة لأجل هذا الهدف ، دون تحقيق نجاح ملحوظ.

3- يبرز الشعار المهيمن على حركة الخيام "العدالة الاجتماعية" أن المعاناة الحقيقية للطبقة المتوسطة ليس عدم القدرة على الوفاء بمتطلبات الحياة الضرورية، بل الشكوى من خلل توزيع الدخول، حيث تتمتع بعض شرائح هذه الطبقة، خاصة العاملين في مجال الـهاي تك ، والذين يشكلون 10% من مجمل القوى العاملة في إسرائيل، بمستوى دخل مرتفع يصل إلى ضعف متوسط دخل الفرد على المستوى القومي (أي أكثر من 60 ألف دولار في العام).

4- إن النظام السياسي في إسرائيل يوفر للمواطنين قنوات مفتوحة لإحداث التغيرات المنشودة، من دون اللجوء لتعبئة الشارع في حركات احتجاجية واسعة، وهو ما يُظهر بوضوح حيرة المواطن الإسرائيلي أمام رغبته في استمرار حكومة نتنياهو الحالية، وعدم إسقاطها، وفي الوقت نفسه تحقيق مطالب قد لا تبدو شرعية بالقدر الكافي، ويصعب استجابة الحكومة لها.

هذه الحقائق الأربع قد تقودنا لقراءة مغايرة لحركة الخيام الواسعة الانتشار في إسرائيل حاليا.

الاقتصاد ليس الحل

لا يشبه الأمر في إسرائيل ما حدث عشية الانتخابات الأمريكية التي أتت بالرئيس كلينتون للبيت الأبيض في عام 1992 ، حيث ظهر شعار "إنه الاقتصاد يا غبي" أثناء الحملات الانتخابية - التي كان بعضها يركز على قضايا فرعية في السياسة الخارجية- ليعبر عن القضية الأكثر إلحاحا للناخب الأمريكي.

 صحيح أن الطبقة المتوسطة في إسرائيل غاضبة ولديها مشكلات حقيقية ، لكن لن يكون التوجه إلى الاقتصاد هو الحل للأزمة الحالية. والحوار الذي يحاول رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إقامته مع زعماء الاحتجاجات، وحزمة السياسات التي يحاول تقديمها لتلبية طلبات المعتصمين ، سواء بتخفيض أسعار أراضى البناء أو السيطرة على أسعار بعض السلع وعودة الدولة لدعم بعض الخدمات..كل ذلك لن يجدي نفعا، فقد يخرج هذا التوجه الفئات الفقيرة التي انضمت لهذه الاعتصامات والاحتجاجات، لكنه لن ينجح في تهدئة الطبقة المتوسطة التي تقودها، لأن هذه الطبقة تعانى نوعا من القلق المزمن، سواء لطبيعتها كطبقة محافظة تخشى التغيير، أو لكونها اعتادت على التعبير عن غضبها من سياسات معينة بشكل غير مباشر، ولا يظهر في خطابها المعلن.

وبمعنى أكثر وضوحا، لابد من الفحص الدقيق للعوامل غير المنظورة التي ولدت حالة الاحتقان الحالية في أوساط الطبقة المتوسطة وقادتها لإطلاق صوتها خارج القنوات المفتوحة للتغيير.

المسكوت عنه

قادت انتخابات 2009 نتنياهو لتشكيل ائتلاف يميني أظهر تشددا واضحا في تناول ملف التسوية مع الفلسطينيين، وبدت هذه السياسات مرضية للأغلبية في الشارع الإسرائيلي الحائر بين يقينه بأن مطلب الفلسطينيين بدولة على حدود يونيو 67 لن يكون نهاية المطالب الفلسطينية -على الأقل، بسبب رفض حماس والحركات الدينية الفلسطينية تسوية من هذا النوع - وبين قناعته بما يقوله قادة اليمين من أن العودة لحدود 67 حتى في ظل اتفاقية سلام شامل مع العرب لا توفر لإسرائيل حدودا يمكن الدفاع عنها ، إذا ما تبدلت الأوضاع في العالم العربي، وسيطرت على الحكم فيه تيارات تؤمن بحتمية إزالة إسرائيل من الخريطة.

وفيما يخص سياسة بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة، يجد المجتمع الإسرائيلي نفسه موزعا بين رفضه لتبديد موارد الدولة في إعمار أماكن لا يقبل أغلب المواطنين على الإقامة فيها، وبين قناعته بأن الاحتفاظ بهذه الأراضي ضرورة أمنية، ولا يمكن تحقيقها ، إلا بخلق واقع على الأرض يمنع إعادتها للفلسطينيين في وجود تسوية أو عدم وجودها.

على الجانب الآخر، يعتقد أغلب الإسرائيليين أن تعطل عملية التسوية قد يدفع إلى تجدد العنف الذي عاشت إسرائيل في ظله قرابة أربع سنوات متصلة (انتفاضة الأقصى)، فضلا عن احتمال نشوب حرب واسعة كتلك التي خاضتها إسرائيل مع حزب الله عام 2006 ، ومع حركة حماس عام 2009 .

 ولا تقل الحيرة ذاتها في مواجهة الوضع الاقتصادي – الاجتماعي، فالرأسمالية المتوحشة التي يطبقها نتنياهو أفرزت ظواهر سلبية ، مثل الخلل في توزيع الدخول، وتراجع دعم الدولة للخدمات العامة، إلا أنها قلصت البطالة إلى معدلات غير مسبوقة، ورفعت معدلات النمو، كما أنها دفعت الفئات التي اعتادت على الاعتماد على سياسة الرفاه، مثل الحريديم (يمثلون 10% من السكان) للدخول في سوق العمل مرغمين ، وهى سياسة كثيرا ما طالب العلمانيون باتباعها كجزء من التوزيع العادل للأعباء على كافة الفئات.

باختصار، يمر المجتمع الإسرائيلي في السنوات الأخيرة بحالة عدم يقين سياسي واقتصادي وأمنى جعل كتلته الرئيسية –الطبقة الوسطى – في حالة عجز عن الاختيار بين السلام والأمن، بين النجاح الاقتصادي من جهة والعدالة الاجتماعية ودولة الرفاة من جهة أخرى.

كما أنه حائر بين عدم قدرته على الثقة بالفلسطينيين ، وعدم استعداده لتحمل التبعات الأمنية لسياسة تعطل التسوية، وكراهيته لليمين بقيمه المعادية للإنسانية ، وفقدانه الثقة في اليسار الذي برهن على فشله في السابق مرارا،  ويكاد يكون قد اختفي من الخريطة السياسية والحزبية في إسرائيل حاليا.

أربكت هذه التناقضات الطبقة المتوسطة ، وزادت من قلقها حول وضعها وأمانها الحياتي ومكانتها، وبالتالي عبرت "حركة الخيام الاحتجاجية " عن حالة قلق وتوتر حقيقية تعيشها الطبقة المتوسطة ، ولكنها تعمدت تضليل المراقبين بالإيحاء بأن مرجعيتها اقتصادية – اجتماعية، بينما الواقع أنها تنتمي في جلها لأسباب أمنية يصعب معالجتها، وهو ما حدا ببعض المعلقين في إسرائيل لوصم الحركة بأنها تقودها رموز وفاعليات "أناركية" بسبب عدم وضوح الارتباط بين الوضع الاقتصادي القائم والشعارات الغامضة المهيمنة على الحركة.

وقد لمس "شاؤل موفاز" رئيس لجنة الأمن في الكنيست الوضع جيدا، حينما صرح بأن معالجة أسباب الثورة المجتمعية الراهنة لا تكمن في الاقتصاد بقدر ما تكمن في الوضع السياسي والأمني.

ويبقى السؤال: إلى أين ستقود حركة الخيام إسرائيل في ظل المسكوت عنه في الأزمة؟ يعتقد راؤبين ريفيلين رئيس الكنيست أنها ستقود إلى انتخابات مبكرة ، وإلى معاودة إنتاج الأزمة ذاتها مجددا، خاصة أن الخريطة السياسية الإسرائيلية لا يتوقع أن تطرح رهانات جادة تتحدى سياسات الليكود الحالية، وبالتالي قد يعود نتنياهو للحكم مجددا ، وبتفويض أكثر قوة لمتابعة تنفيذ السياسات التي يعتقد خطأ أنها خلقت الأزمة الراهنة.

طباعة

    تعريف الكاتب

    سعيد عكاشة

    سعيد عكاشة

    خبير في الشئون الإسرائيلية، باحث مشارك في مركز الدررسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام.