تحليلات - عالم عربى

الموقف المصرى من الأزمة السورية

طباعة
منذ تولى الرئيس عبدالفتاح السيسي رئاسة الجمهورية، شهد الموقف المصري من الأزمة السورية تغييراً كاملاً، حيث كان الموقف خلال الفترة السابقة يتبنى مواقف دول إقليمية، على رأسها تركيا، تطالب بإسقاط النظام السوري والحسم العسكرى، بل وصل الأمر إلى تبنى إعلان الجهاد فى سوريا من خلال القيادات والرموز السلفية، وهو ما أتاح لمئات من التكفيريين المصريين السفر إلى سوريا للتدريب والمشاركة مع التنظيمات الإرهابية فى سوريا فى محاولة لإسقاط النظام هناك.
هذا الواقع كان يحمل فى حقيقته الكثير من المخاطر، ليس على الدولة السورية وحدها، ولكن على الأمن والاستقرار فى المنطقة وعلى الأمن القومى المصرى بصورة كبيرة، فقد أصبحت سوريا ميدان العمل الإرهابى للتنظيمات التكفيرية، داعش والنصرة وأحرار الشام، وأكثر من مئة وخمسين فصيلاً إرهابياً ضم إرهابيين من مختلف بلاد العالم. وقدرت دوائر أمنية غربية أعداد من انضم لهذه التنظيمات بأكثر من ستين ألف مقاتل، وتدفقت عليهم الأسلحة والتمويلات التى بلغت، بحسب تصريح رئيس وزراء قطر السابق، مئة وستة وثلاثين مليار دولار، وتدفقت أيضاً عليهم أسلحة متطورة ممولة من دول إقليمية غنية من كل من أوكرانيا وبلغاريا وغيرهما، فضلاً عن أحدث الأسلحة التى قدمتها المخابرات المركزية الأمريكية والمخابرات البريطانية والفرنسية مباشرةً لتلك التنظيمات، وأشرفت على تدريبها وتنظيمها من خلال غرفة عمليات الموك فى الأردن، وغرفة عمليات الموم فى تركيا.
يُضاف لذلك ما يقترب من خمسة آلاف عميل تم تدريبهم ودفعهم للعمل فى مناطق سيطرة التنظيمات الإرهابية تحت مسميات متطوعة، مثل الدفاع المدنى والخوذ البيضاء، وهم الذين تخصصوا فى فبركة الصور والتقارير التى تدين قوات النظام لاستثمارها فى المنظمات الدولية. ولعل ما يدين هذه المجموعات أنه بعد فرض سيطرة النظام على العديد من المناطق، قامت المخابرات الأمريكية والبريطانية والفرنسية بإجلائهم وعائلاتهم مع السماح لهم بالإقامة فى الدول الثلاث. وكان آخر هذه الإجراءات يوم السبت الموافق 21 يوليو الجاري. فبعد أن فرض الجيش السورى سيطرته على منطقة الجنوب، تم نقل ثمانمئة من هؤلاء بمساعدة المخابرات الإسرائيلية  إلى داخل إسرائيل، ومنها إلى الأردن، مع تعهدات أمريكية وبريطانية وفرنسية بتوطينهم وعائلاتهم فى تلك الدول. 
فى ظل هذا الواقع، خاصة فى عام 2015، كان النظام السورى فى مأزق كبير، وعلى وشك السقوط وانهيار الدولة السورية، وهو الهدف الاستراتيجي لواشنطن والدول الغربية ودول إقليمية متعددة، وكان قريبا جداً من التحقق لولا المعطيات التي جرت، وفي مقدمتها التدخل العسكري الروسي الذي غير مسار الدفة لمصلحة النظام.  
وتبلور الموقف المصرى الذى عبر عنه الرئيس عبد الفتاح السيسي ووزير الخارجية المصري أكثر من مرة، وتم تأكيده فى مختلف المحافل الدولية والإقليمية، وهو ما تناقض مع مواقف بعض الأشقاء العرب، ورتب نوعاً من الحساسية فى العلاقات الثنائية معها. إلا أن مصر أصرت على موقفها، وجاء الموقف المصرى على هذا النحو مؤكداً رفض أى حل عسكرى للأزمة أو تدخل خارجى، أياً كان، وتحت أية مسميات. وحرصت مصر على المحافظة على الدولة السورية ومؤسساتها العسكرية والأمنية والمدنية بأي وسيلة.
الموقف المصرى على هذا النحو ترافق مع حركة إيجابية تولتها وزارة الخارجية والمخابرات المصرية مع ممثلى فصائل معارضة، خاصة الفصائل التى لا ترتبط بأجندة خارجية بقدر الإمكان. وفي ضوء ذلك، ظهر ما سمى بمنصة القاهرة للمعارضة السورية التى احتضنتها القاهرة، والتى أكدت إيمانها بالخطوط العريضة لحل الأزمة والتي تتفق مع الموقف المصرى. وتزايد تأثير هذه المنصة تباعاً على حساب المنصات الأخرى التى كانت تمثل الواجهة السياسية للتنظيمات التكفيرية، واكتفى قادتها بالإقامة فى فنادق استانبول وجنيف وعواصم عربية أخرى.
تحركت مصر تحت مظلة موقفها المعلن، وبغض النظر عن الاستراتيجيات الدولية من الأزمة، خاصة الأمريكية. ورغم ما أدى إليه ذلك من استياء أمريكى، فإن التقدير المصرى كان ولا يزال يرى أن أمن سوريا وبقاء وتماسك الدولة السورية هو ضمان للأمن والاستقرار في المنطقة بشكل عام. ومن هذا المنطلق، قامت مصر بجهود وساطة مع فصائل معارضة أسهمت فى التوصل إلى اتفاق خفض التوتر فى جنوب العاصمة دمشق، كما أجرت اتصالات وجهود وساطة مع تجمعات  عشائرية سمحت بعد ذلك بالتوصل لاتفاق الغوطة الشرقية. وكان آخر الجهود على هذا المستوى هو استضافة بعض ممثلى المعارضة فى ريف حمص والساحل، وممثلين لبعض الأجنحة العسكرية الراغبة فى الحل السياسي والساعية للتفاهم مع الدولة السورية، مثل جيش التوحيد. ومن المتوقع أن تمهد هذه الجولة من المفاوضات لتحقيق الأمن والاستقرار فى تلك المناطق، وستحد من توفير بيئة حاضنة لبعض فلول التنظيمات التكفيرية هناك.
انطلق الموقف المصرى الذى عبر عنه السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي والتزمت به الدوائر المصرية المعنية إذن من تقدير حقيقى يركز بالدرجة الأولى على حماية الأمن القومى المصرى والعربى. ولعله من الملاحظ أن مصر هى الدولة العربية الوحيدة التي أكدت ضرورة المحافظة على تماسك الدولة السورية، ورفضت التدخل الأجنبى هناك لحل الأزمة. ولعل التطورات التى شهدتها الأزمة السورية، خلال الفترة الأخيرة، ونجاح القوات الحكومية والجيش العربى السوري فى تغيير معادلات التوازن العسكري، وطرد التنظيمات التكفيرية من معظم الأراضى السورية، كل ذلك يؤكد صحة التقدير والنظرية المصرية للأزمة السورية ومساراتها. وها هى المواقف التى كانت متشنجة فى عدائها للنظام السوري بدأت تتحدث عن التعايش معه، وانتهت أجندات التدخل بعد التغير النسبى فى الموقف الأمريكى، واستمرار صلابة الموقف الروسي.
هكذا نرى عمق الموقف المصرى من الأزمة السورية، وحجم الحرص المصرى على عدم نجاح استراتيجية هدم الدولة السورية، وها هى سوريا تتعافى وإن كان المشهد السورى لا يزال مشحوناً بالكثير من التطورات القادمة. فالحضور الروسى يترسخ بأبعاده الاستراتيجية والمصلحية، ومن الواضح أن سوريا ستظل لفترات طويلة تمثل ورقة مساومة روسية تبعاً لذلك فى إطار المواجهة الروسية- الأمريكية، كما يتأكد الحضور الإيرانى وما صاحبه من تمركز لفصائل شيعية فى سوريا شاركت فى العمليات العسكرية ضد التنظيمات التكفيرية. ولا تزال عمليات التهجير التى اقترنت بمناطق خفض التوتر، وفرض سيطرة الدولة مشكلات تحتاج إلى حلول، وكذلك تطورات العملية السياسية والمرحلة الانتقالية، وجميعها أمور تفرض ضرورة مواصلة الاهتمام المصرى والحوار مع جميع الأطراف المعنية بالأزمة السورية.
 
طباعة

    تعريف الكاتب

    لواء د. محمد مجاهد الزيات

    لواء د. محمد مجاهد الزيات

    أستاذ العلوم السياسية، مستشار المركز القومي لدراسات السرق الأوسط