تحليلات - مصر

زيارة الرئيس لفرنسا.. دعم الثوابت المصرية الوطنية وتفعيل العلاقات الإستراتيجية

طباعة
حملت زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى فرنسا، التي استغرقت 4 أيام (23-26) أكتوبر 2017، العديد من الدلالات على أهمية الدور المصري الإقليمي، ونجاحه في سياقيه العربي والإفريقي، كما تفتح آفاقا للتعاون الاستراتيجي الوثيق مع القوى الفاعلة والصاعدة على المستويين الأوروبي والدولي، ومنها الجمهورية الفرنسية، التي تسعى برئاسة إيمانويل ماكرون لحل المشكلات المهددة لأمنها القومي، ومنها الملف الليبي، ومكافحة الإرهاب، بغية تعزيز وجودها المتوسطي والإفريقي. 
الثوابث الوطنية المصرية:
تسابقت وسائل الإعلام الفرنسية على عقد لقاءات وحوارات مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، فور وصوله إلى باريس، وبلغت أكثر من أربعة حوارات أجريت معه، كما عقد الرئيس السيسي مؤتمرًا صحفيًا مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون. وقد جدد السيسي تأكيد الثوابت الوطنية للسياسة الخارجية المصرية المرتكزة على ضرورة الحفاظ على الدولة الوطنية، بما فيها الجيش الوطني، ومؤسسات الدولة، وعدم التدخل في الشأن الداخلي للدول. كما تتمثل تلك الثوابت في: 
مكافحة الإرهاب: أكد الرئيس السيسي أن الإرهاب أصبح يهدد جميع دول العالم، ولذا يجب التوحد لمواجهته، لأنه التحدي الحقيقي للإنسانية والاستقرار وللأمن في العالم كله، وجدد دعوته لضرورة تجديد الخطاب الدينى لمكافحة التطرف، ونشر القيم الأساسية للدين الإسلامي التى تدعو للسلام والتسامح، مع ضرورة محاسبة الدول التي تقوم بتمويل الإرهاب بالمال، والسلاح، وتدريب المقاتلين، بالإضافة للدعم المعنوي، والإعلامي، والسياسي المقدم منها للجماعات الإرهابية.
الحفاظ على الخصوصية المصرية: أشار السيسي إلى أن مصر دولة لها تاريخ عريق ومهم. وخلال عامين، قام الشعب المصري بثورتين، وأطاح برئيسين، ونظم 30 مليون مصرى تظاهرات بالشوارع فى صيف 2013 للمطالبة باستقالة الرئيس الأسبق محمد مرسي، والدولة المصرية لديها مؤسسات قديمة وقوية قادرة على عبور الثورات التى تعد تعبيرًا عن إرادة الشعب ذى السيادة، والجيش الوطنى المصري لديه هدف واحد هو حماية الشعب والبلاد بعيدًا عن أى اعتبارات حزبية. ويجب على كل دول العالم احترام خصوصية كل دولة وشعبها، وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى.
رفض المصالحة مع "الإخوان المسلمين": لا يخفى نفوذ "الاخوان المسلمين" داخل الدول الأوروبية المركزية كفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا. ولذا كثر الحديث، خلال حوارات الرئيس السيسي، حول المصالحة مع الإخوان المسلمين، وضرورة دمجهم في الحياة السياسية المصرية مرة أخرى، وهو ما رفضه السيسي، لأن الشعب المصري غاضب مما ارتكبته تلك الجماعة الإرهابية من انتهاكات، وأعمال قتل وتخريب بحق المواطنين منذ يناير 2011 وحتى الآن، موضحًا أن جماعة الإخوان المسلمين هي جماعة إرهابية استخدمت السياسة للاستيلاء على السلطة. والجماعات الإرهابية كلها، رغم اختلاف مسمياتها (حسم، القاعدة، داعش، بوكو حرام) تنتهج نفس الفكر القاتل، وتسعى للتدمير، ليس فقط في العالم العربى، بل فى العالم بأسره.
مفهوم شامل لحقوق الإنسان: استبقت بعض جماعات حقوق الإنسان الفرنسية زيارة السيسي لباريس بشن حملة مكثفة على مصر، والادعاء بوجود انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان فيها، وهو ما نفاه السيسي، وطالب بعدم اقتصار حقوق الإنسان على الحقوق السياسية فقط، بل يجب أن تشمل الحقوق الاجتماعية، والاقتصادية. وهو مفهوم جديد وواقعي ومغاير للتوجه العام العالمي الذي يركز على حقوق الإنسان السياسية فقط، ويتخذها ذريعة للتدخل في الشأن الداخلي للدول. وهذا المفهوم يطرحه الرئيس السيسي، ويجب أن تتبناه الأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان الموضوعية. وبناء عليه، أكد السيسي أن مصر تسعى لتحقيق التوازن الضرورى بين حقوق الإنسان بمفهومها الأشمل المتمثل في حصول المواطنين على خدمات تعليمية وصحية جيدة. 
دعم القضية الفلسطينية: القضية الفلسطينية: على رأس أولويات السياسة الخارجية المصرية، ووقد بذلت مصر جهودا لمدة أربعة أشهر ماضية لإبرام اتفاق مصالحة بين حركتى فتح وحماس، ولا تزال تبذل جهودا كبيرة للتوصل لحل نهائى بإقامة دولتين لحل النزاع " الإسرائيلى - الفلسطينى"، وإحلال السلام والاستقرار فى المنطقة.
الحل السياسي للأزمة السورية: الطريق الوحيد لحل الأزمة فى سوريا هو التسوية السياسية، وهذا ما أكده السيسي، وأكدته الخارجية المصرية في كل مناسبة. ومن هذا المنطلق، تدعم القاهرة المبادرة الفرنسية لتشكيل مجموعة اتصال تشرك الأطراف الأساسية فى حل الأزمة. ولا تشترط القاهرة وباريس رحيل الرئيس السورى بشار الأسد لبدء عملية سياسية حرة وعادلة تفضى لتسوية الأزمة، لأنه يجب إنهاء المعاناة الإنسانية التي يعيشها الشعب السورى مع مكافحة المجموعات الإرهابية، حتى لا تسقط الدولة. 
الملف الليبي: أصبح استقرار ليبيا هو قضية مركزية لمصر لبعدين: الأمني، حيث تمتد الحدود المشتركة بين البلدين لنحو 1200 كم في الصحراء، ويصعب تأمينها بالكامل على أي دولة بمفردها، ولذا يجب وجود دولة ليبية قوية، وجيش وطني ليبي ليسهم في تأمين حدود بلاده. كما أن تلك الحدود غير المؤمنة أسهمت في عبور الإرهابيين لمصر، وتنفيذ عشرات العلميات الإرهابية، كان آخرها حادث الواحات. وقامت مصر خلال عامين ونصف عام بتدمير  1200 سيارة محملة بالذخائر وبالإرهابيين، أتت من حدود مصر الغربية مع ليبيا .والبعد السياسي هو العلاقات التاريخية الممتدة بين الشعبين المصري والليبي بحكم وجود علاقات اجتماعية وسياسية بينهما. ولذا، فإن القاهرة تدعم تنفيذ الاتفاق السياسى بين الأطراف الليبية، لأنه الأساس المقبول لتسوية شاملة فى البلاد. وكشف السيسي عن "تنسيق مستمر عالى المستوى" بين القاهرة وباريس فى الملف الليبي لإرساء الاستقرار في البلاد وفق "إعلان باريس"، و"اتفاق الصخيرات".
الأزمة القطرية: لم يتغير الموقف المصري من الأزمة، وينبغي على الدوحة تنفيذ مطالب الرباعي العربي (مصر، والسعودية، والإمارات، والبحرين) القائمة علي عدم التدخل في شئون الآخرين، ووقف دعم الإرهاب بشتى الصور (السياسي، والإعلامي، والاقتصادي، واللوجيستي)، وهي مطالب تتوافق مع القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة. بيد أن الدوحة تتعنت وترفض تنفيذ أي من تلك المطالب.  
إيران: ألمح السيسي للمرة الأولى، منذ توليه منصبه في يونيو 2014 ، عن رغبة القاهرة في تخفيف حدة التوتر في العلاقات مع طهران، وهذا مرهون بضمان أمن دول الخليج التي تتلقي تهديدات من طهران بصفة مستمرة،  ومصر ترى أمن واستقرار دول الخليج جزءا أصيلا من أمنها واستقرارها. 
 
تعاون استراتيجي بين باريس والقاهرة:
زيارة الرئيس السيسي لباريس هي الثالثة له منذ توليه منصبه، حيث إنه زارها للمرة الأولي في نوفمبر 2014 ، والتقى الرئيس السابق فرانسوا هولاند، ثم زارها في نوفمبر 2015 لحضور مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ، ويقوم بزيارتها حاليا بدعوة من الرئيس إيمانويل ماكرون. وتكتسب هذه الزيارة أهمية خاصة، وتعد تدشينا لتعاون استراتيجي بين بلدين يرتبطان بعلاقات تاريخية وثيقة يتم بينهما حاليًا تنسيق على أعلى مستوى لحل العديد من الملفات الإقليمية والدولية. كما أن التعاون الاقتصادي والعسكري بين القاهرة وباريس  شهد طفرة نوعية، مما يوثق ذلك التعاون ويعززه. ولذا، ترجع أهمية الزيارة فيما يأتى:
السياق الإقليمي: تأتي زيارة الرئيس السيسي لفرنسا في ظل متغيرات إقليمية ودولية مهمة، حيث تمر الملفات البارزة بالمنطقة العربية بنقطة تحول في (سوريا، وفلسطين، وليبيا، والعراق). فنجد أن هزيمة تنظيم "داعش" الإرهابي في سوريا والعراق عامل مهدد للأمن القومي المصري والفرنسي، لأن عناصره ستلجأ لليبيا للتمركز فيها، ثم ستقوم بتنفيذ عمليات إرهابية ضد مصر وضد الدول الأوروبية، فضلا عن ارتفاع معدلات الهجرة غير الشرعية. كما أن الملف الفسلطيني يمر بمرحلة تحول بعد توقيع اتفاق المصالحة الفلسطينية برعاية مصرية. 
تعدد أوجه الزيارة: زيارة الرئيس السيسي لفرنسا هي "زيارة دولة"، حيث إنه لا يكتفي بلقاء رئيس الدولة فقط، بل يعقد لقاءات واجتماعات مكثفة مع جميع المسئولين، ومتخذي القرار، والقوى الفاعلة داخل المجتمع الفرنسي. ولذا، فقد عقد أكثر من عشرة لقاءات واجتماعات، منها لقاؤه مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الجمعية الوطنية، ورئيس مجلس الشيوخ، ورئيس الوزراء الفرنسي، ووزيرى الخارجية والدفاع الفرنسيين، ووزير الاقتصاد والمالية برونو لومير، ولقاء مع رؤساء 25 شركة فرنسية كبرى لمناقشة سبل تطوير التعاون، وعرض الخطوات الجارى اتخاذها فى إطار برنامج الإصلاح الاقتصادى بمصر لتحسين مناخ الاستثمار. 
التعاون السياسي: تشهد العلاقات المصرية- الفرنسية أعلى درجات التعاون السياسي، حيث تتطابق رؤية الدولتين في عدد من ملفات الشرق الأوسط وهي (ليبيا، وسوريا، والقضية الفلسطينية، ومكافحة الارهاب، والهجرة غير الشرعية). كما تعد مصر بوابة باريس للعمق الإفريقى، وفرنسا ستفتح لمصر بوابة التعاون مع الدول الناطقة بالفرنسية. كما تتفق الدولتان على ضرورة تحقيق الاستقرار في دول القرن الإفريقي مثل (جيبوتى وإريتريا)، وهذا ما أكده وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان، الذي وصف مصر بأنها أهم الشركاء الاستراتيجيين لفرنسا فى الشرق الأوسط. 
التعاون الاقتصادي والثقافي: تعد فرنسا سادس أكبر مستثمر فى مصر عام 2016، باستثمارات مباشرة قدرها 3.5 مليار يورو. وقد أشاد السيسي بمشاركة الشركات الفرنسية في جميع مشروعات التنمية المصرية خلال الأعوام الثلاثة الماضية. وقد وقع البلدان، خلال الزيارة، 17 اتفاقية ومذكرة تفاهم، وإعلانات نوايا بقيمة 400 مليون يورو فى مجالات الطاقة التقليدية والمتجددة، والبنية الأساسية، والحماية الاجتماعية، والنقل بمختلف فروعه. كما وقع وزيرا الخارجية المصري سامح شكري، ونظيره الفرنسي جان ايف لودريان إعلانا حول تعزيز التعاون العلمي، والثقافي، والفرانكوفوني بين البلدين.
التعاون العسكري: استقبلت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي الرئيس السيسى بمقر الوزارة، وبحث معها سبل تطوير التعاون العسكري بين البلدين، لاسيما بعد توقيع مصر عام 2015 عقود تسلح مع فرنسا بقيمة تزيد على ستة مليارات يورو، تشمل خصوصا 24 مقاتلة من طراز "رافال"، وفرقاطة، وحاملتي مروحيتين من طراز "ميسترال"، وصواريخ. وتردد الحديث عن توقيع عقود تسلح جديدة لطائرات "رافال". كما تم بحث سبل شراء مصر لقمر صناعي عسكري فرنسي لمراقبة الحدود المصرية، لاسيما الغربية.  ويحقق استمرار التعاون العسكري بين البلدين أهدافا مشتركة لهما، حيث يحقق تنوع مصادر التسليح للجيش المصري، ويضع فرنسا ضمن أكبر الدول المصدرة للسلاح بالعالم. 
ختاما، تشهد المرحلة الحالية تعاونا استراتيجيا مصريا فرنسيا مكثفا، حيث ترى باريس مصر الدولة المركزية لتحقيق الاستقرار الإقليمي، وتتعاون معها من هذا المنطلق، مما يؤدي لوجود شراكة استراتيجية فرنسية- مصرية لتنفيذ رؤية الدولتين المتطابقة لحل العديد من ملفات الشرق الأوسط المتأزمة. كما أن التعاون الاقتصادي والعسكري سيعود بالنفع على الدولتين، ويعزز من الدور الإقليمي لكل منهما في المحيطات المتوسطية، والعربية، والشرق أوسطية. 
 
طباعة

تعريف الكاتب

د. منى سليمان

د. منى سليمان

باحثة فى العلوم السياسية.