تحليلات - عالم عربى

الغطاء الأمريكي: أزمة قطر وشروط التغيير السياسي في الدوحة

طباعة
فتحت الأزمة المتصاعدة بين عدد من الدول العربية الرئيسية وإمارة قطر، منذ اتخاذ جمهورية مصر العربية، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين، يوم الاثنين 5 يونيو 2017، قرارا بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، وحظر كل أنواع التواصل المباشر معها، بحرا وجوا وبرا عبر أقاليم تلك الدول، إضافة إلى إجراءات أخرى تختلف بدرجة ما من دولة إلى أخرى، مثل سحب الرعايا، وحظر المعاملات البنكية- فتحت تلك الأزمة الباب واسعا أمام تكهنات انتشرت عبر وسائل الإعلام العربية وغير العربية بنية تلك الدول محاولة الدفع باتجاه إحداث تغيير سياسي يطيح بحاكم الإمارة الخليجية الصغيرة. وفي الواقع، فإنه رغم قسوة ولا تقليدية كل تلك الإجراءات التي سرعان ما التحق بها عدد آخر من الدول، فإن ديناميات التغيير السياسي في قطر لا ترتبط ارتباطا مباشرا بتداعيات تلك القرارات المباشرة، مما يفتح المجال أمام سيناريوهات مختلفة لا ترتبط بالضرورة بالسعي لتغيير النظام الحاكم في قطر.
 
ولا يمكن فهم ديناميات التغيير السياسي في قطر إلا في ضوء إدراك الموقع الذي اختاره النظام القطري لنفسه في المعادلة الأمنية الكبرى للشرق الأوسط منذ انقلاب الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني على والده خليفة بن حمد آل ثاني في27  يونيو 1995. إذ خطط الشيخ حمد والعصبة التي اشتركت معه في هذا الانقلاب، وباتت تمثل النخبة الجديدة في بيت الحكم القطري توجها يقوم على منطق الوكالة لخدمة أهداف الولايات المتحدة الإقليمية في المنطقة، بعدّ مظلة الحماية الأمريكية هي الملاذ الأساسي لتفادي ما بدا معارضة خليجية، وتحديدا من قبل السعودية، والإمارات، والبحرين، لهذا الانقلاب الذي يكرس نمطا للتغيير السياسي لم يكن يمكن أن تقبل به هذه الدول الثلاث في لحظة كان التغيير السياسي متوقعا في كل منها، في ضوء كبر سن حكامها آنذاك.
 
وبالفعل، تحولت إمارة قطر إلى ما يمكن أن يشبه مقرا متقدما لإدارة المصالح الأمريكية الخفية وغير المعلنة، بل والتي قد تبدو متعارضة أو حتى متناقضة في المنطقة. واقتربت قطر سريعا من إسرائيل، بقدر ما عززت علاقاتها مع حرحة حماس، ذات التوجه الإسلامي الرافض لأي تسوية سياسية مع الدولة الصهيونية.وباتت قاعدة السيلية في قطر المقر المتقدم للقيادة الوسطى الأمريكية منذ عام 2002 ، فيما تم نقل مركز العمليات الجوية القتالية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط من قاعدة الأمير سلطان الجوية في المملكة العربية السعودية إلى قاعدة العديد الجوية في قطر جنوب الدوحة في عام 2003. وفي المقابل، سمحت قطر بافتتاح مكتب لحركة طالبان الأفغانية في الدوحة في يونيو من عام 2013، بالرغم من أن هذه الحركة هي الهدف الرئيسي للغزو الأمريكي لأفغانستان في عام 2001. وأضحت قطر مركزا رئيسيا للمفاوضات السرية بين طالبان والحكومة الأفغانية في محاولة لإيجاد مخرج آمن للولايات المتحدة الأمريكية من المستنقع الأفغاني.
 
تكشف تلك السلوكيات، التي قد تبدو متعارضة ظاهريا، كيف اختارت قطر أن تكون مقرا لإدارة المصالح الأمريكية الخفية في المنطقة. وبالفعل، نجحت قطر كثيرا في لعب هذا الدور، مما أتاح، على سبيل المثال، استغلال حركة حماس وغيرها من الفصائل المنضوية تحت مظلة مشروع الإسلام السياسي والإمارة الإسلامية في غزة لشق الصف الفلسطيني، وتخريب العديد من جهود التسوية التفاوضية بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية، بما أتاح لهذه الأخيرة التهرب من أي ضغط دولي لإنجاز اتفاف تفاوضي يسمح بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة. كما أمكن من خلال الدور القطري تحقيق قدر ما من التهدئة في أفغانستان، أتاح انسحاب الجزء الأكبر من القوات الأمريكية المقاتلة منها في نهاية عام 2014.
 
إلا أن الدور القطري الأكثر خطورة، وعدا عن ذلك، هو استضافة قطر العديد من المعارضين العرب، الذين تم توظيفهم لاحقا لاستهداف أنظمة الحكم في دولهم بقدر السعي الأمريكي لإحداث تغيير سياسي في تلك الدول. ولعبت الأداة الإعلامية القطرية، متمثلة بالأساس في قناة الجزيرة، دورا متقدما ورئيسيا في إثارة موجة الاحتجاجات العربية التي انطلقت في عدد من الدول العربية منذ نهاية عام 2010 وتعظيمها، بل والدفع باتجاه تعزيز موقع تيار الإسلام السياسي، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، في خضم حركة التغيير السياسي التي أعقبت تلك الاحتجاجات. وبالقدر ذاته، لعب المال القطري دورا رئيسيا في دعم العنف الإسلامي المسلح، حين لم ينجح فرض تيارات الإسلام السياسي على حركة التغيير السياسي في الدول العربية. بدا ذلك جليا في كل من سوريا، وليبيا.
 
وفي الواقع فإن هذا الدور تماهى بشكل رئيسي مع المشروع الأمريكي لتمكين الإسلام السياسي السني في عدد من الدول العربية لهدم الدولة الوطنية من جهة، وفتح خرائط تقسيم جديدة تتيح خلق معازل طائفية ضعيفة عبر المنطقة، تخفض عبء أي تهديد عسكري لإسرائيل، وتفتح المجال واسعا، من جهة ثانية، أمام حالة احتراب مذهبي سني-شيعي عبر المنطقة تحول دون إمكانية بروز أي طرف مهيمن عليها، حال إتمام مخطط خفض الانخراط الأمريكي فيها، وتتيح أخيرا استنزاف عدد من الدول العربية الرئيسية في صراعات إقليمية لا تنتهي مثلما آل إليه الحال بالفعل حاليا. وبالرغم من العديد من الآثار الجانبية شديدة الخطورة لهذا المشروع، والتي يأتي تفاقم الخطر الإرهابي على نطاق عالمي في مقدمتها، وبالرغم من تعثر هذا المشروع في مصر عقب ثورة 30 يونيو 2013، فإنه لا يمكن إنكار نجاح قطر في أداء الدور المنوط بها في إشاعة الفوضى عبر الإقليم، التي عرفتها دوائر صنع القرار الأمريكي يوما بـ "الفوضى الخلاقة".
 
نجح النظام القطري الحاكم بالفعل من خلال دور "الوكيل" في ضمان غطاء حماية أمريكي، سياسيا وعسكريا، في آن واحد، وأضحى أي تغيير سياسي محتمل في قطر رهنا بقرار أمريكي برفع هذا الغطاء من عدمه. لذا، يبدو أن مآل كل الإجراءات التي اتخذتها الدول العربية التي اتخذت مسار التصعيد مع قطر رهن بهذا القرار الأمريكي. وهنا، يجب تقييم عاملين أساسيين لاستشراف أي قرار أمريكي متوقع في شأن مستقبل النظام الحاكم في قطر:
 
1- هل انتهى الدور القطري في هيكلية بناء السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط عقب زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخيرة إلى الرياض، واجتماعاته فيها لبناء تحالف ما بدعوى محاربة الإرهاب؟
 
2- كيف يمكن أن تؤثر الإجراءات العربية فى توظيف الولايات المتحدة لقطر؟
 
بالنسبة للسؤال الأول، يمكن تبين أن مسببات الأزمة الأخيرة تحديدا، والمتمثلة في فتح قطر فضاء واسعا لتعزيز الاتصالات السياسية مع إيران، بل وإبرام عدد من الصفقات السرية لمصلحتها مع الجماعات السنية المسلحة في سوريا، مثلما أشار تقرير نشرته صحيفة فايننشال تايمز البريطانية الاثنين 6 يونيو 2017، وهو السلوك الذي يضر بالموقف الخليجي الموحد إزاء إيران، ويدحض الحجة السعودية الأساسية القائلة إن إيران هي مصدر تهديد لدول المنطقة جميعا، ربما لا تتعارض كليا –أي هذه المسببات- مع أهداف السياسة الأمريكية الرئيسية في المنطقة، وهي خلق توازن عداء مذهبي تكون إيران أحد قطبيه. إذ إنها تفتح المجال أمام تخفيف عبء الضغوط الخليجية على الإدارة الأمريكية لاتخاذ مواقف أكثر حسما وتشددا من إيران، في ظل ما بات جليا من عدم توافق خليجي في هذا الصدد. وبالتالي، فإنه في حين بات يمكن للإدارة الأمريكية استخدام اجتماعات الرياض لتعزيز قدرتها التساومية في خضم مباراة "شد الحبل" الجارية حاليا مع إيران لإدخال بعض التعديلات على الاتفاق النووي معها، فإن الموقف القطري يعفيها من اتخاذ مواقف أبعد مدى في حصار إيران، استجابة لموقف خليجي وعربي موحد إزاءها.
 
أما بالنسبة للسؤال الثاني، ورغم إعلان عدد من المسئولين الامريكين أن الأزمة الحالية حول قطر لا تؤثر جوهريا فى المصالح الأمريكية في المنطقة، فإن حظر الانتقال من قطر وإليها، المفروض خاصة من قبل السعودية والإمارات العربية المتحدة، يمكن أن يضر إذا طبق بشكل صارم على حركة وانتقال العسكريين الأمريكيين الموجودين في هاتين الدولتين مع مقر قيادتهم المتقدم في قطر. وبالتالي، فلا يمكن استبعاد سعي واشنطن للتوصل إلى حل وسط بين قطر وخصومها في تلك الأزمة. لكن في هذه الحال، سيكون السؤال: أي حل؟ وأي ضمانات؟ ولأي من الخصوم؟
 
 إجمالا، يمكن القول إن افتراض أن هدف التحرك الحالي، الذي قادته المملكة العربية السعودية والإمارات، ضد قطر هو إحداث تغيير سياسي يطيح بحاكم قطر الحالي، تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني، هو افتراض تعوزه الإجابة حول التساؤل الرئيسي عن إمكانية رفع الغطاء السياسي الأمريكي عنه. ويرتبط ذلك بعدد من المتغيرات، لعل أهمها حقيقة الأهداف الخليجية: هل هي بالفعل إحداث تغيير سياسي في قطر لا يمكن بأي حال ضمان نتائجه في ظل هيمنة الإرادة الأمريكية على صنع السياسة القطرية، أم مجرد احتواء صارم للتوجهات القطرية، وإعادتها إلى الحظيرة الخليجية؟ وهل يمكن لدول الخليج العربية أن توفر بديلا للولايات المتحدة عن قطر، ليس فقط فيما يخص القواعد العسكرية، والدعم اللوجيستي، ولكن أيضا فيما يتعلق بدور الوكيل/التابع الذي مارسته قطر طائعة راضية طوال عقود؟
 
لا يبدو البديل عن الدور القطري بهذا اليسر، خاصة في ظل ما يبدو من تعثر ترسيخ نظام أمني تعددي تديره الولايات المتحدة في المنطقة دون أن تغرق بقدميها مجددا في الأعمال العسكرية القذرة في المنطقة.
طباعة

    تعريف الكاتب

    مالك عوني

    مالك عوني

    مدير تحرير مجلة السياسة الدولية، كاتب وباحث مصري في العلاقات الدولية، مؤسسة الأهرام