تحليلات - شرق أوسط

كيف توازن "وثيقة حماس" بين الأيديولوجيا والبراجماتية؟

طباعة
غلبت اللغة السياسية الأقل تشددًا على الخطاب الأيديولوجي في الوثيقة الرسمية لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، التي أعلنتها في الأول من مايو 2017 بالدوحة، مع الحفاظ على الثوابت المحتكمة إلى محددات المرجعية الإسلامية، بعيدًا عن ضغط اللحظة.
 
 فقد خلت وثيقة "المبادئ والسياسات العامة" لحماس، التي صدرت عشية لقاء الرئيس محمود عباس بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب في واشنطن، من مفردات شكلت أساس ميثاق الحركة الصادر في عام 1988، لمصلحة الاقتراب من مضمون برنامجها الذي خاضت به انتخابات المجلس التشريعي عام 2006 بقائمة "التغيير والإصلاح"، بما يعكس الاستجابة الملحة للمتغيرات والأحداث الجارية في المشهد الإقليمي العربي المضطرب.
 
"القطع" و"الوصل" مع الميثاق
 
تتماهى القاعدة البنيوية لوثيقة حماس مع ميثاقها الذي يغلب عليه الطابع الديني بمفاهيمه ومصطلحاته، ورؤيته لطبيعة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، ونظرته للدولة والمجتمع، عبر تضمينه 36 آية كريمة، وعدة أحاديث شريفة، وأبياتًا من الشعر، وذلك عند تأكيد ثوابت "تحرير كامل فلسطين من نهرها إلى بحرها"، و"عدم الاعتراف بالكيان الصهيوني"، والإصرار على حق عودة اللاجئين والنازحين الفلسطينيين إلى ديارهم التي هُجِّروا منها بفعل العدوان الصهيوني عامي 1948 و1967، والذي يشكل، بالنسبة "لحماس"، رفضًا للصهيونية وللوضع القائم.
 
 إلا أن "إسقاطات" التغيير، الجزئية أو الكلية، تجد حضورها الوازن في عدة مواطن، حيث تُعرِّف الحركةُ نفسَها في الوثيقة بوصفها "حركة تحرر ومقاومة وطنية فلسطينية إسلامية، هدفها تحرير فلسطين، ومواجهة المشروع الصهيوني، مرجعيتها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها ووسائلها". 
 
وإذا كانت محددات الهدف، وحراك المواجهة الضدية، والمرجعية الدينية، تتشابه مع الوارد في الميثاق، فإنها تختلف معه في مسألتي "الوصف" بعدّها "حركة جهادية شعبية" (..)، والرؤية الشمولية بالسعي "إلى إقامة دولة إسلامية مستقلة في فلسطين"، التي تتقاطر حولها جل الحركات الإسلامية مع اختلافها في الوسائل والأدوات، والتي لم تتضمنها الوثيقة. 
 
ورغم نفي "حماس" خطوة تعديل الميثاق أو التراجع عن المنهجية، فإن ذلك يدخل في باب "براجماتية" الحركة، إدراكًا منها لطبيعة التطورات الحاصلة في آليات ومعطيات الصراع، فيما قد يعد مدخلا نافذًا لمخاطبة الغرب بدون المساس بالثوابت.
 
ويستقيم ذلك الحال مع إلغاء الدعوة الصريحة "لتدمير إسرائيل"، وفق المادة التاسعة من الميثاق، وغياب مصطلح "دار الكفر"، الذي يقسم المجال الجغرافي بين دار "الحرب"، ودار "الإسلام"، عن الوثيقة، خلافًا للوارد في الميثاق، أسوة بمسعى "القطع" الفعلي بين "حماس"، وجماعة "الإخوان المسلمين"، بتأكيد محاكاة الحركة لمدرستهم الفكرية، فقط، بدون التنظيمية، بعدما كانت، وفق المادة الثانية من ميثاقها، بمنزلة "جناح من أجنحة الإخوان المسلمين في فلسطين"، وامتداد طبيعي لهم، مما يشي بمساعٍ للتقارب مع مصر والسعودية والإمارات.
 
الحل "المرحلي" و"التاريخي"
 
 لا يُعد قبول "حماس" في الوثيقة السياسية بإقامة "دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أُخرجوا منها، بعدّها صيغة توافقية وطنية مشتركة، بالأمر الجديد، حيث صرح بالصيغة نفسها خالد مشعل (الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس) من قبل، في حفل توقيع اتفاق المصالحة في القاهرة عام 2011، بإعطاء المجال للمفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي لمدة عام، والأخذ بدولة فلسطينية على حدود عام 1967، والقبول بالمقاومة الشعبية، "بدون إسقاط المقاومة المسلحة حقًّا مشروعًا للشعب الفلسطيني لمناهضة الاحتلال"، ولكنها تعد سابقة بإيرادها ضمن وثيقة سياسية جامعة للحركة.
 
 وينم ذلك عن تطور مفهوم "حماس" لإدارة الصراع، عبر محاولة الموازنة بين "المرحلية" و"التاريخية". فالصراع العربي-الإسرائيلي، من منظورها، تاريخي طويل يتطلب حسمه توافر شروط موضوعية وتاريخية متعددة، من حيث نهوض الأمة العربية والإسلامية، واستكمال أسباب القوة، وحشد طاقاتها وإمكانياتها، وتوحيد إرادتها وقرارها السياسي، كون الصراع يرتبط عضويًّا بمتغيرات جذرية عميقة تمس البنى السياسية والاقتصادية المجتمعية السائدة في المنطقة، شريطة "عدم التفريط في أي جزء من أرض فلسطين، أو الاعتراف بشرعية الاحتلال الصهيوني لها"، بدعوى ضغوط الواقع. 
 
غير أن عدم تحقق شروط الحسم النهائي للصراع اليوم يجعله بعيدًا، وما الحروب العربية- الإسرائيلية، والانتفاضات الفلسطينية سوى حلقات مرحلية غير حاسمة عند الحركة، ولكنها تخدم السياق العام لمعركة الوصول إليه، وتُعزز الحاجة لإيجاد الشروط المطلوبة لإحداثه.
 
ومن خلال هذه النظرة التي تُوسّع من أفق الصراع الزمني، وتعتقد يقينًا أن الحسم سيكون في مصلحة الأمة مستقبلا، فإن حماس تحاول الإفلات من ضغط اللحظة وحصارها. فمهما بدا الحدث عظيمًا، فسيظل في المنظور التاريخي "الحمساوي" محصورًا في حدود بينة ومحددة. وفي ظل تشابكات الواقع التي أفرزتها عملية التسوية السياسية، حاولت حماس البحث عن طريقة للموازنة بين الأيديولوجيا والمصلحة الحركية التي تضمن التفاعل مع الواقع بما يخدم الاستراتيجية من دون عزل نفسها، أسوة برفضها اتفاق أوسلو 1993، والتعاطي مع أحد إفرازاته بالمشاركة في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006 ومن ثم تشكيل الحكومة.
 
وقد توازى مع الموقف التاريخي المركزي للحركة، القائم على تحرير فلسطين، وإقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة على كل التراب الوطني الفلسطيني، وعاصمتها القدس، حل مرحلي يقوم على إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة في حدود عام 1967 دون الاعتراف بأحقية الكيان الإسرائيلي في الأرض المحتلة عام 1948، ودون التخلي عن هدف تحرير كامل فلسطين.
 
وبحسب القيادي البارز في حركة حماس الذي انفصل عنها لاحقًا، المهندس عماد الفالوجي، في كتابه "درب الأشواك"، فقد تقدمت حماس، في مرحلة مبكرة من عمر تأسيسها، بمبادرة بهذا المعنى، أسوة بمبادرة المكتب السياسي للحركة، في أبريل 1994، التي طالبت "بالانسحاب الإسرائيلي من الضفة وغزة دون قيد أو شرط، وإزالة المستوطنات، بالتزامن مع إجراء انتخابات تشريعية حرة وعامة للشعب الفلسطيني". 
 
وهناك تفسيرات لموقف حماس في الوثيقة، تميل إلى أن الوثيقة هي إدراك متأخر من حماس للمعطيات الراهنة، آخذة بنفس نهج "حل الدولتين" الذي اختطته منظمة التحرير، بفصائلها وقواها المنضوية في إطارها، منذ سبعينيات القرن المنصرم. غير أن الحركة لا تجد تضاربًا مع موقفها الرافض للاعتراف بوجود الكيان الإسرائيلي، بوصفه ثابتًا أساسيًّا لمرجعيتها، مقابل القبول بقيام الدولة على الجزء المتحرر من الأرض حلا مرحليًّا في طريق تحرير كامل أرض فلسطين التاريخية، من خلال المقاومة بشتى وسائلها، بما يشي بإدراك لطبيعة التطورات الحاصلة عبر الأخذ بالمنطق التدريجي بدون التنازل عن الثوابت الأساسية. 
 
 ويستقيم هذا الأمر مع عدم رفض حماس للمفاوضات، عبر وسيط أو طرف ثالث، كوسيلة من وسائل العمل السياسي. فبالنظر إلى أدبيات الحركة، نجد أنها لا ترى حرمة شرعية من ناحية التشريع الإسلامي في مبدأ التفاوض مع الاحتلال، والاستعداد للتعامل معه ضمن اتفاق هدنة، وهي مسألة تختلف عن الصلح والاعتراف بحق الاحتلال في الأراضي الفلسطينية.
 
الوثيقة والمشهد الداخلي والخارجي
 
تشير "الوثيقة" السياسية لحماس إلى مسعى "التشبيك" بين المحدد الأيديولوجي للحركة، ومقاربة المرونة، و"التكيف التكتيكي" الآخذ بالمرحلية، ومتغيرات اللحظة والقراءة الواقعية للمعطيات وتوازنات القوى الدولية، دون المس بثوابت البنية الأيديولوجية الصلبة، وذلك عبر محاولة معالجة التحديات غير المسبوقة التي أوجدتها أحداث المنطقة أمام الحركة، ومحاولة اكتساب فضاء استراتيجي عربي وإقليمي ومساحة تحرك رحبة، وسند قوي لتعزيز الاعتراف بها لاعبًا مهمًّا في المشهد السياسي العربي، ومكونًا مؤثرًا في الحقل الوطني الفلسطيني، بعدّها جزءًا من المشهد العربي والإقليمي، لا الفلسطيني فحسب.
 
بيد أن المعادلة لا تستقيم على وتيرة واحدة في جُل ساحات التغيير. فإذا كانت الوثيقة قد خلقت أرضية مشتركة مع منظمة التحرير، عبر الدعوة لإقامة دولة مستقلة على حدود عام 1967، واستخدام أشكال النضال المختلفة، والإعلان عن "حماس" حركة وطنية ذات مرجعية إسلامية، واحتكام العلاقة بين المواطنين في فلسطين للقانون المدني، فإن ذلك لا يشير إلى قرب إنهاء الانقسام الفلسطيني الممتد منذ عام 2007، في ظل تعثر خطوات المصالحة، وبقاء الإشكاليات البينية دون حل، بما يؤجل تنفيذها إلى إشعار زمني آخر لمصلحة تكريس الانقسام، والإضرار بالمشروع الوطني الفلسطيني، في ظل الانحياز الأمريكي للكيان الإسرائيلي، مقابل ضعف الدعم العربي الإسلامي للقضية الفلسطينية، وإمعان الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه ضد الشعب الفلسطيني.
 
بينما تسعى حماس إلى مد جسور التقارب مع مصر عبر بوابة تأكيد "قطع" الصلة التنظيمية مع الإخوان المسلمين، في الوقت الذي يُعد فيه التوتر سيد العلاقات البينية داخل الحركة، في ظل تباين "حمساوي" حول كيفية التعاطي مع طبيعة العلاقة الثنائية، بين قيادة الخارج التي تنظر إليها بوصفها رافعة قوية لإتمام المصالحة، وتحسين مساحات التحرك لدعم الشعب الفلسطيني، فيما تضع قيادة الداخل فتح معبر رفح، وإعادة إعمار غزة وتحسين ظروفه المعيشية في المقدمة.
 
وإذا كان موقف حماس من الأزمة السورية قد كبّدها ثمنًا باهظًا، وتوترًا في العلاقة مع إيران التي كانت حتى وقت ليس بعيدًا أكبر داعميها، ومزوديها بالمال والسلاح والتدريب، بما أبعدها عن "المحور الشيعي" لإيران، وسوريا، و"حزب الله" لمصلحة الاقتراب من أحلاف مغايرة، لكنها تغيرات تحالفية محفوفة بالمآزق. فرغم تقديم قطر الدعم المالي لحكومة "حماس" في غزة بهدف تشجيعها على الابتعاد عن إيران، فقد تُقلِّصه أو توقفه عند تغير الحسابات، حيث إن أبوابها لن تُفتح كليًّا إلا إذا ارتدت الحركة ثوبًا سياسيًّا، وطرحت موقفًا جديدًا يتلاءم مع التطورات التي تشهدها المنطقة. 
 
في المقابل، لم تتحسن علاقة "حماس" بالسعودية لدرجة تضمن الاستعاضة عن المعونة الإيرانية، عدا شكوك حول حلول تركيا مكانها، رغم الآمال المعلقة على ذلك، بينما تكمن الخشية والمأزق من مساعي بعض الدول لإدخال حماس في مرحلة التسوية القادمة، التي يسعى الرئيس ترامب لصكها في صفقة تاريخية لحل الصراع العربي- الإسرائيلي، وهو ما قد ترى حماس أنها صفقة لا تتناسب مع الحد الأدنى لحقوق الشعب الفلسطيني.
 
وفي المحصلة، فإن اعتماد "حماس" جانب المرونة، بفعل تحديات أحداث المنطقة، قد يضعها في مأزق. فرغم تمسكها بالثوابت، فإن تقديم التطمينات المجانية، والسعي إلى ضمانات دولية للقبول بها طرفًا سياسيًّا مستقبليًّا، قد يقودان إلى طريق آخر.
طباعة

    تعريف الكاتب

    د. نادية سعد الدين

    د. نادية سعد الدين

    صحفية وباحثة من الأردن