مقالات رأى

بعد 6 شهور على الاتفاق النووي: إلى أين وصل المشروع الإيراني؟

طباعة
أنهى ذلك الاتفاق نزاع إيران مع الغرب. وحصلت طهران بموجبه على إشارة خضراء ضمنية لمشروعها الإقليمي، بعد أن تغيرت نظرة الولايات المتحدة ودول غربية كبرى لها. لم تعد واشنطن ترى في إيران دولة مثيرة للقلاقل والاضطرابات، بل حولتها إدارة باراك أوباما فعلياً ــ وليس رسمياً ــ من دولة راعية للإرهاب إلى دولة تساهم في «مواجهته»، في ظل إغفال تام للعلاقة بين إرهاب رعته طهران ومازالت، وإرهاب «داعش» الذي لا يرى الغرب غيره الآن. ولذلك شهدت الشهور الأخيرة اندفاعة إقليمية شديدة لإيران، وتوسيعاً لحركتها التي كانت قد أخذت في التسارع منذ أن بدأت مفاوضتها مع مجموعة «5+1» في نهاية عام 2013. وأصبح خطر مشروعها الإقليمي أكثر وضوحاً رغم تعثره بدرجات متفاوتة في البلاد العربية الأربعة التي تحظى بأولوية متقدمة فيه، وتمثل «الوجبة» الأولى التي تسعى طهران إلى التهامها (سوريا ولبنان والعراق واليمن).
 
ولا يقتصر هذا التعثر على اليمن نتيجة تصدي التحالف العربي، الذي يضم عشر دول عربية، وتقوم السعودية ودولة الإمارات العربية بالدور الرئيسي فيه عسكرياً واقتصادياً وإنسانياً. فقد امتد التعثر إلى البلاد الثلاثة الأخرى بدرجات مختلفة، دون أن يعني ذلك تراجع الخطر المترتب على المشروع التوسعي الإيراني. فهذا مشروع قديم يجد في الوضع العربي والدولي الراهن فرصة تاريخية فريدة لتحقيق أهدافه في الهيمنة على العالم العربي، وخاصة بعد توقيع الاتفاق حول برنامج إيران النووي. ولذلك يبذل القائمون عليه كل ما يستطيعونه، ويلجؤون إلى مختلف الأدوات التي يملكونها أو يستطيعون تطويرها، الأمر الذي يجعل خطره الآن أكثر من أي وقت مضى رغم تعثره النسبي هنا وهناك.
 
أولاً: ركائز المشروع الإيراني وتطوره
 
يجد المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة ركائزه الأساسية في المنظومة العقائدية (الأيديولوجية) التي تجمع بين نظرية «الولي الفقيه» المتطرفة مذهبياً والنزعة الفارسية المتطرفة قومياً حيث يُختزل الشعور القومي في انتماء عرقي متعصب وضيق الأفق. ويعلمنا التاريخ أنه ما أن يمتزج طرفان أحدهما مذهبي ديني والثاني قومي في أي بلد إلا وأنتجا ميلاً توسعياً يهدد الإقليم الذي يوجد فيه، ويمتد خطره الى أجزاء أخرى في العالم.
 
فشل أميركي
 
ويُعد المشروع الإيراني في الشرق الأوسط نموذجاً يتطلب دراسة مستفيضة لما يمكن أن نسميه الفشل الاستراتيجي المزمن للولايات المتحدة، سواء حين كان الاتحاد السوفييتي السابق يشاركها قمة النظام العالمي في إطار القطبية الثنائية، أو عندما انفردت بهذه القمة بعد تفكك ذلك الاتحاد وانهيار معسكره وحلفه العسكري (وارسو)، أو في مرحلة السيولة الدولية الراهنة.
 
فقد تعاملت الإدارات المتوالية في واشنطن مع إيران وفق سياسات كانت في مجملها رد فعل على المواقف التي اتخذتها والشعارات التي أطلقتها ضدها. وليس هناك ما يدل على أن تلك الإدارات استطاعت إدراك ما وراء الشعارات الإيرانية العدائية، أو فهمت أن هذا العداء المعلن لأميركا وإسرائيل إنما هو سبيل لبناء «شرعية» إقليمية تتيح توسيع نفوذ طهران في العالم العربي.
 
ولذلك لم تشمل الحسابات الاستراتيجية التي يفترض أنها أُجريت قبل الغزو الأميركي للعراق في مارس 2003 السيناريو الذي حدث، وهو أن تصبح إيران المستفيد الأول من هذا الغزو، وأن يؤدي إسقاط نظام صدام حسين بكل مساوئه وبشاعته إلى فتح الطريق أمامها للتوسع في المنطقة عبر توسيع نفوذها في العالم العربي بعد الهيمنة على العراق.
 
فقد اهتمت الاستخبارات الأميركية بأسلحة دمار شامل لم تعد موجودة في العراق عشية الغزو، وتحدث الرئيس بوش الابن عن عواقب وخيمة في حالة عدم التخلص من هذه الأسلحة. ولكنه لم يدرك العواقب الأكثر خطراً التي يمكن أن تترتب على حالة فوضى تنتج عن إصرار معظم حلفائه في المعارضة العراقية حينئذ على تفكيك الدولة العراقية وعدم الاكتفاء بإسقاط نظام صدام حسين. ولم يفهم أن الصلات الوثيقة بين هذه القوى العراقية وطهران تفتح الباب واسعاً أمام مشروع إيران التوسعي في العالم العربي انطلاقاً من سيطرتها على بغداد.
 
ولذلك كان عام 2003 نقطة تحول رئيسية في هذا المشروع الذي أصبح الباب مشرعاً أمامه، عندما تمكنت إيران من فرض هيمنتها على الجزء الأكبر من العراق فعلياً في ظل الوجود العسكري الأميركي، والسيطرة على مفاتيح صنع القرار في النظام الجديد وخاصة منذ أن فرضت نوري المالكي رئيساً للحكومة واضطرت واشنطن التي صارت في مركز أضعف من إيران إلى التكيف مع هذا الوضع.
 
ولعل هذا يفسر عدم إدراك إدارة أوباما، كسابقاتها، أن المشروع النووي الإيراني ليس هدفاً في حد ذاته، بخلاف الحال في كوريا الشمالية، بل وسيلة لدعم نفوذ طهران الإقليمي، وأداة للمساومة من أجل توسيع نطاق هذا النفوذ. ولذلك لم يكن الرئيس باراك أوباما ومعاونوه مستعدين للاستماع إلى الدول العربية التي سعت إلى تنبيههم، حين تبين إصرارهم على التوصل إلى اتفاق حول برنامج إيران النووي، إلى أن هذا الاتفاق يعطي إشارة خضراء ضمنية لطهران للتمدد في العالم العربي، ويوفر لها غطاءً سياسياً دولياً غير مباشر، ويجعلها في حالة بحبوحة مالية ويدعم قدراتها الاقتصادية، على نحو يمثل دعماً غير مسبوق لمشروعها التوسعي، دون أن يجردها من إمكانات استخدام ذلك البرنامج في مساومات أخرى طالما أنه سيجعلها قادرة على عسكرته إذا أرادت بعد انتهاء فترة نفاذه.
 
نقطة تحول كبرى
 
وهكذا أصبح الاتفاق الموقع في 15 يوليو الماضي نقطة التحول الكبرى الثانية في المشروع الإيراني، في الوقت الذي تتبنى فيه إدارة أوباما سياسة تقليل الانخراط في أزمات الشرق الأوسط، وتسرع روسيا إلى تكثيف وجودها لملء الفراغ المترتب على ذلك. وكأن إدارة أوباما لم تكتف بتوفير غطاء سياسي لمشروع إيران الإقليمي، بل تركت حليفة طهران الدولية الأولى (روسيا) تملأ الفراغ المترتب على انكفائها. فرغم أي تباينات بين طهران وموسكو، ومهما كان قلق ايران أو بعض أجنحة نظام الحكم فيها من الموقف الروسي وخاصة بشأن الأزمة السورية، يمثل حضور قيصر الكرملين في قلب المنطقة دعماً للمشروع الإيراني في المحصلة النهائية. وقد ازداد هذا الحضور، وتجاوز معظم التوقعات، منذ التدخل العسكري في سوريا الذي بدأ في 30 سبتمبر 2015، بعد أن قدم أوباما دعماً ضمنياً للمشروع الإيراني عبر إصراره على التوصل إلى الاتفاق النووي بأي ثمن.
 
كان هذا ظاهراً منذ أن بدأت المفاوضات حول هذا الاتفاق في نوفمبر 2013، إذ تمسك أوباما بتمديد هذه المفاوضات ثلاث مرات حتى وصل إلى مبتغاه في النهاية. ولذلك التقطت إيران الإشارة منذ اللحظة الأولى، وعملت لتدعيم نفوذها في العراق ومحاولة احتواء التداعيات السلبية التي ترتبت على سياسة حليفها الأول هناك نوري المالكي، وتحويل دعمها لنظام بشار الأسد إلى وسيلة للسيطرة على القرار في داخله، وخاصة على الصعيد الميداني.
 
وحدث كل ذلك في الوقت الذي كان الرئيس الأميركي يغازل إيران سياسياً، ويبدي إعجابه بها استراتيجياً، على نحو لم نجد مثله في الخطاب السياسي لروسيا أو أي من حلفاء طهران. ونشير إلى مثال واحد على ذلك في المقابلة التي أجرتها مجلة «بلومبيرج فيوز» مع أوباما ونشرتها في عددها الصادر في 4 مارس 2014، إذ قال نصاً: (إن الإيرانيين استراتيجيون وغير متهورين، ولديهم نظرة عالمية، ويرون مصالحهم، ويتعاملون مع حسابات الربح والخسارة).
 
وعندما خصصت مجلة «نيوزويك» غلاف عددها الصادر في أول ديسمبر 2014 للمسؤول الأول عن التخطيط الاستراتيجي لمشروع إيران الإقليمي اللواء قاسم سليماني (قائد فيلق القدس في الحرس الثوري)، وسط اهتمام إعلامي غربي غير مسبوق بسيرته ودوره في سوريا والعراق وحركته الدائبة بينهما، كانت هذه رسالة ضمنية إلى طهران بعدم وجود اعتراض غربي على مشروعها التوسعي. ولم يعد مهماً الآن البحث فيما إذا كانت هذه الرسالة، وغيرها من الرسائل التي تلقتها طهران بهذا المعنى، مقصودة بهدف تشجيعها على المضي قدماً نحو التوصل إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي، أو جاءت ضمن سياق تطورات الأحداث. فالمحصلة واحدة، وهي أن إيران تحررت من أي مخاوف ربما انتابت قادتها في أوقات سابقة من معارضة غربية، وخاصة أميركية، لمشروعها الإقليمي.
 
سلبية عربية
 
وإذ أُزيل ما كان مُعتقداً قبل عام 2014 أنه قيد غربي على تحرك إيران لتوسيع نفوذها في العالم العربي وترسيخه، فقد أصبح على العرب الانتباه إلى أن سلبيتهم تجاه هذا المشروع لفترة طويلة ساهمت في تشجيع طهران على مد نفوذها إلى حيث تستطيع يداها أن تصلا، وتوسيع نفوذها إلى أية بقعة يمكن أن تجد فيها ركيزة لهذا النفوذ.
 
فقد بدأ المشروع الإيراني في التمدد مستغلاً عدم قدرة العرب على حل أزمات تُضعف عدداً متزايداً من بلادهم، وتجعلها ساحات مفتوحة لتدخل أجنبي. ولذلك كانت بداية هذا المشروع في صورته الراهنة في لبنان الذي استهان العرب بالأزمة التي أنتجت حرباً أهلية داخله استمرت نحو 15 عاماً، وتخللها عدوان إسرائيلي شديد الضراوة وصل إلى قلب عاصمة عربية للمرة الأولى في تاريخ هذا الصراع منذ حرب 1948.
 
وربما كان الطريق المفتوح الذي عبرته القوات الإسرائيلية إلى بيروت عام 1982 قد فتح شهية مخططي المشروع الإيراني لاستغلال الوضع البالغ الهشاشة في لبنان لتكون عاصمته هي الأولى التي يعملون لمد نفوذهم إليها عبر ذراع إقليمية اكتسبت «شرعية» من مقاومتها لإسرائيل، في الوقت الذي كان العرب مستغرقين في تداعيات الصراع الذي نتج عن الخلاف على إطاري كامب ديفيد ومعاهدة 1979 المصرية - الإسرائيلية. وعندما تحركت المملكة العربية السعودية لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية ونجحت في جمع أطرافها في الطائف والتوصل إلى اتفاق بينهم، كان النفوذ الإيراني قد سبقها إلى ركيزته الأولى في لبنان.
 
ظل المشروع الإيراني محصوراً في لبنان، ثم في سوريا بدرجة أقل، إلى أن فتح الغزو الأميركي الباب أمامه في العراق وأزال الحاجز الذي كان يحول دون تمدده. فقد استغل مخططو هذا المشروع ارتباك العرب تجاه هذا الغزو، ثم ابتعادهم عن العراق خلال فترة الاحتلال الأميركي نتيجة الخلط بين موقف واجب ضد هذا الاحتلال ودور أكثر وجوباً لإنقاذ بلد عربي. ولذلك تمكنت إيران من التغلغل في العراق والاستحواذ على النظام الجديد الذي بناه الأميركيون على أساس طائفي وقدموه إلى طهران على طبق من ذهب، حتى قبل أن يسحبوا قواتهم.
 
واستمراراً لسعيها إلى استغلال أية مصيبة عربية، كانت إيران جاهزة لاستثمار تدهور الوضع في سوريا نتيجة إصرار نظام الأسد على إغراق الانتفاضة ضده في بحر من العنف والإرهاب اللذين وضع بذرتهما وشجع تناميهما. ووجدت إيران عندها فرصة لتحويل نظام بشار الأسد من حليف استراتيجي لها إلى ذراع من أذرعتها، أو بالأحرى إلى مظلة تتحرك تحتها بشكل مباشر من خلال مجموعات من قوات الحرس الثوري، ومعها قوات من «حزب الله» في لبنان، وميليشيات تضم مقاتلين شيعة من أفغانستان وباكستان وبضعة بلاد أخرى.
 
ثانياً: الدور العربي والتعقيدات الداخلية
 
في الوقت الذي كان مخططو المشروع الإيراني يعدون العدة لاستغلال ما بدا أنها اشارة خضراء غربية بعد توقيع الاتفاق على برنامجها النووي، ويدعمون ميليشيات جماعة «أنصار الله» أو الحوثيين لكي تبتلع اليمن بالتحالف مع قوات تابعة للرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، فاجأتهم بداية يقظة عربية قطعت الطريق على الحلقة الأخيرة حتى الآن في هذا المشروع، في الوقت الذي يواجهون صعوبات في اثنتين من حلقاته السابقة (سوريا والعراق).
 
الهزيمة في اليمن
 
تعثر المشروع الإيراني في اليمن مبكراً عندما أعلنت المملكة العربية السعودية في مارس 2015 بناء تحالف عربي لشن عملية «عاصفة الحزم»، في الوقت الذي كان مخططو هذا المشروع يستعدون لابتلاع بلد عربي كامل وليست فقط السيطرة على أجزاء منه ونظام الحكم فيه كما في العراق وسوريا، أو امتلاك نفوذ قوي في داخله يكفي لشل الحياة فيه إذا أرادت كما في لبنان.
 
وتعد هذه هي المرة الأولى التي تقرر فيها دول عربية امتلاك زمام المبادرة لمواجهة المشروع الإيراني بشكل مباشر، ومنع إحدى أذرعه الإقليمية من الهيمنة على بلد من البلاد التي يستهدفها هذا المشروع. ورغم التفاوت الشديد في مشاركة الدول العربية العشر المنضمة إلى هذا التحالف في عملياته، وتحمل السعودية ودولة الإمارات العربية معظم أعباء هذه العمليات أو كلها إلا قليلاً، تدل هذه التجربة على أن العرب قادرون على إنقاذ أمتهم حين يمتلكون الإرادة والعزيمة والاستعداد للمواجهة والدفاع عن أرضهم وهويتهم ومصالحهم وأمنهم القومي.
 
كانت إيران قد أوشكت على التمركز في داخل منطقة الجزيرة العربية، والتحكم في مضيق باب المندب وقطع خطوة أخرى نحو تدعيم نفوذها في الخليج العربي، بعد أن بلغ هذا النفوذ ذروته في منطقة المشرق العربي وشرق البحر المتوسط.
 
ولو حدث ذلك، لصار الجناح الشرقي للعالم العربي كله بين يديها. ولذلك كان قرار التصدي لمشروعها في حلقته اليمنية صائباً بمقدار ما بدا شديد الصعوبة في حينه، إلى حد أن مطبوعات شبه أكاديمية غربية، وليست فقط إعلامية، تبارت في إطلاق أوصاف تحمل معنى المغامرة والمقامرة السياسية والعسكرية عليه، وتوقع كثير منها أن تفشل «عاصفة الحزم» في إنقاذ اليمن.
 
ولكن تطور العمليات على مدى تسعة شهور، والدور التاريخي الذي تقوم به السعودية ودولة الإمارات العربية، أحبطا هذه التوقعات، وأظهر قدرة عمليتي «عاصفة الحزم» و«إعادة الأمل» على التقدم بقوة باتجاه إنقاذ اليمن، وتحرير أكثر من نصف أراضيه حتى الآن من براثن الميليشيات التي تمثل ذراع إيران في هذا البلد. ولذلك يبدو أن المشروع الإيراني ينتقل من التعثر إلى الهزيمة في اليمن، في الوقت الذي يواجه صعوبات متفاوتة في البلاد الثلاث الأخرى التي توسع نفوذ طهران فيها.
 
العراق
 
بدأ المشروع الإيراني يتعثر في العراق مع ظهور عجز طهران عن تأمين استمرار دعم قوى الإسلام السياسي الشيعية المتحالفة معها لحليفها الأول نوري المالكي، بعد أن غرق في الفشل وازدادت فضائح حكومته، وأدت سياسته الغارقة حتى آذانها في التطرف المذهبي إلى أزمة عميقة في المناطق ذات الأغلبية السكانية في غرب البلاد.
 
واضطرت إيران تحت ضغط تدهور الوضع في العراق إلى دعم حيدر العبادي الذي لا تثق فيه بالدرجة نفسها، وتسليمه رئاسة الحكومة رغم أنه لا يقل موالاة لمشروعها عن المالكي، ولكنه يرتدي رداء أقل إمعاناً في التطرف المذهبي. ولذلك تحركت إيران بسرعة لجمع الميليشيات الشيعية المتطرفة الموالية لها، والتي يمثل بعضها الوجه الآخر لتنظيم «داعش»، في إطار كيان أُطلق عليه «الحشد الشعبي»، وظلت تعمل من أجل استمرار الجيش الرسمي ضعيفاً ومعتمداً على هذا الكيان، لكي تضمن سيطرتها على الأرض، ولا يكون مستوى نفوذها متوقفاً على توازنات قد يضطر العبادي إلى مراعاتها.
 
بوادر التعثر
 
فالتعثر الإيراني في العراق يتعلق حتى الآن بمدى النفوذ الذي تمارسه ودرجة السيطرة التي تتمتع به بخلاف الحال في اليمن، حيث أصبح هذا المشروع برمته في مهب الريح بعد أن نجحت قوات الحكومة الشرعية والمقاومة الشعبية في دفع الميليشيات التابعة لطهران إلى التراجع والتقهقر. وتملك الميليشيات التي تمثل أذرعاً إقليمية مباشرة لإيران ركائز قوية في العراق في الوقت الراهن، وتسعى إلى التمدد واستغلال الحرب على «داعش» والمعارك التي تهدف إلى إخراجه من المناطق التي احتلها في صيف 2014.
 
ولا تواجه إيران بدورها مشكلة في ضمان ولاء هذه الميليشيات، وخاصة «عصائب أهل الحق» التي قام «الحرس الثوري» بالدور الرئيسي في تأسيسها لإضعاف الحركة التي يقودها مقتدى الصدر لأنه حاول الاحتفاظ بمسافة قصيرة من طهران ضمن مقومات الزعامة التي لم تسمح له بها، وميليشيا «أبو فضل العباسي»، و«لواء بدر» الذي أحياه الإيرانيون عام 2014 بعد أن كاد يتفكك.
 
وفي وجود ميليشيات تابعة لها بشكل مباشر في معظم الأحوال، تضمن إيران استمرار مشروعها في العراق حتى الآن باستثناء إقليم كردستان الذي تسعى إلى اختراقه عبر علاقتها مع أحد الأحزاب الكردية القديمة، والمناطق السُنية التي تدور فيها المعارك الآن مع «داعش» وخاصة محافظة الأنبار.
 
وربما يكون أكثر ما يزعج إيران الآن هو اضطرار العبادي إلى قبول إبعاد ميليشيات «الحشد الشيعي» عن معركة تحرير الرمادي الجارية الآن والتي نجح فيها الجيش العراقي تحت ضغط بعض القوى السُنية وعشائر المنطقة، ودعم واشنطن لموقف هذه القوى والعشائر ودفعها باتجاه تسليح وحدة من متطوعيها والشرطة المحلية لتكون مهمتها إمساك الأرض التي يتم تحريرها، وفقاً للنموذج الذي اتُبع في سنجار في منتصف نوفمبر الماضي.
 
وجهان لعملة واحدة
 
غير أن الولايات المتحدة، التي اتخذت هذا الموقف بعد أن عاثت ميليشيات «الحشد الشعبي» فساداً في مناطق سبق تحريرها من قبضة تنظيم «داعش» في منتصف 2015 وارتكبت فيها مذابح لا تقل هولاً عما يقترفه هذا التنظيم، مازالت تصر على إغفال أنهما (الميليشيات والتنظيم) وجهان للعملة نفسها، وأن التحالف الدولي الذي أعلنه في سبتمبر 2014 يقصف إرهاباً لمصلحة إرهاب آخر، مثله في ذلك مثل روسيا، وأن هذه السياسة لا تؤدي سوى إلى صب مزيد من الزيت على نيران حرائق المنطقة.
 
سوريا ولبنان
 
يزيد تعثر المشروع الإيراني في سوريا مقارنة بما يواجهه في العراق. وتعود بداية هذا التعثر إلى أوائل عام 2015 عندما عجزت قوات نظام بشار والميليشيات التابعة لإيران عن مواصلة التقدم الذي أحرزته في العام السابق، وبدأ في منتصف 2013، باتجاه استعادة بعض المناطق التي كان هذا النظام فقدها من قبل.
 
فقد انكفأت تلك القوات والميليشيات وتراجعت مجدداً. واضطرت إيران إلى تغيير استراتيجيتها والتخلي عن السعي إلى استعادة المناطق التي فقدها نظام الأسد، وقدرت الاكتفاء بتحصين المناطق التي يسيطر عليها لحمايته من الانهيار، وأعادت بعض الميليشيات التي كانت قد نقلتها من سوريا إلى العراق عندما احتل «داعش» الموصل في منتصف 2014.
 
وازداد التعثر الإيراني انكشافاً حين أصبح استمرار نظام الأسد نفسه مهدداً حتى في إطار المنطقة الممتدة من الشام إلى الساحل، والتي يسميها رأس هذا النظام «سوريا المفيدة». وجاء التدخل العسكري الروسي الكثيف بدءاً من 30 سبتمبر 2015 بمثابة إعلان عن فشل إيران وحدها في ضمان المحافظة على النظام الذي تحرص الدولتان على استمراره إحداهما لأنه محور رئيسي لمشروعها التوسعي والثانية لأنه يضمن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
 
ورغم أن إيران كانت هي نفسها في حاجة إلى هذا التدخل الروسي، فلا يخفى أنه يثير قلقها لأنه يدعم نفوذ موسكو في سوريا بطبيعة الحال. وعندما يتوسع النفوذ الروسي، لابد أن يكون ذلك على حساب نفوذ إيران وخصماً منه.
 
تداعيات الدور الروسي
 
وهذا يفسر زيادة انخراط إيران عسكرياً على الأرض في المعارك التي يوفر الطيران الروسي إسناداً لها بقوة نيران هائلة تدمر في طريقها ما بقي من هذا البلد العربي، إذ تهدف إيران إلى تأكيد حضورها في أي تقدم عسكري يمكن أن يتحقق بعد تدخل موسكو لتقليل القدر الذي ستخسره من نفوذها في سوريا لمصلحة موسكو.
 
ولذلك تنامى عدد القتلى الإيرانيين، بخلاف قتلى الميليشيات والتنظيمات الشيعية التي جلبتها إلى سوريا. ورغم وجود اختلاف كبير في تقدير عدد قتلى إيران، فهو لا يقل عن مئة في الفترة بين 15 أكتوبر و15 ديسمبر 2015، أي بواقع 50 قتيلاً في الشهر الواحد، بينهم ثمانية ممن يجوز اعتبارهم ضباطاً كباراً. وهذا هو التقدير الذي خلص إليه مركز عمران للدراسات الاستراتيجية في تقرير نشره بعد توثيقه بالاسم والتاريخ والمصدر وبثته «السورية نت» في 20 ديسمبر.
 
ورغم أن المصلحة المشتركة في دعم نظام الأسد وضمان استمراره بأية طريقة تحول دون تعبير إيران عن قلقها من تنامي نفوذ روسيا في سوريا على حسابها، فقد أظهرت عملية اغتيال القيادي في «حزب الله» سمير القنطار مساء 20 ديسمبر مدى الاختلاف في الحسابات بين موسكو وطهران.
 
وليست هذه هي العملية الأولى التي تنفذها إسرائيل ضد «حزب الله» في سوريا بعد التدخل العسكري الروسي. فقد أغارت طائرات إسرائيلية في أول نوفمبر 2015 على قافلة عسكرية سورية في منطقة القلمون قرب الحدود مع لبنان لأنها كانت تنقل سلاحاً إلى حزب الله. ويعني ذلك أن الطائرات الإسرائيلية اجتازت الأجواء السورية في منطقة تشهد كثافة شديدة في تحليق الطائرات العسكرية الروسية.
 
تنسيق روسي ــ إسرائيلي
 
ولم يكن ممكناً أن يحدث ذلك بدون تنسيق بين موسكو وتل أبيب على حساب طهران. وحتى إذا افترضنا غير ذلك، فقد صار مثل هذا الافتراض مستحيلاً في عملية اغتيال القنطار بعد أن نشرت روسيا شبكة صواريخ «إس – 400» المضادة للطائرات والتي تغطي الأجواء السورية كلها ومساحة أخرى حولها تتفاوت التقديرات بشأنها. ويعني ذلك استحالة تنفيذ عملية اغتيال القنطار بدون تنسيق إسرائيلي ــ روسي.
 
غير أن هذا لا يعني اقتراب المشروع الإيراني من دائرة الخطر. فباستثناء اليمن، مازال هذا المشروع متماسكاً ومصدر خطر عظيم على العرب لا يضاهيه إلا خطر الإرهاب. ولذلك يظل تهديد هذا المشروع مستمراً، وخاصة في ظل عدم وجود قدر كافٍ من الاتفاق العربي العام على كيفية التعامل معه، حتى في ضوء تجربة التصدي له في اليمن وما تنطوي عليه من إلهام.
 
----------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، 30-12-2015.
طباعة

تعريف الكاتب

د. وحيد عبد المجيد

د. وحيد عبد المجيد

مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام