مقالات رأى

الإعلام والدبلوماسية بين مصر والسعودية

طباعة
بين مصر والسعودية خلافات غير مؤثرة وغير جوهرية لكن الإعلام توقف عندها باستفاضة، بينما ظلت العلاقات الدبلوماسية محافظة على متانتها.
 
لا أحد يعلم بالضبط أسرار التناقض الحاصل في توجهات الإعلام مع الدبلوماسية في كل من مصر والسعودية، فجزء من الأول بدأ يعزف منذ فترة على وتر تصيد الأخطاء، فإذا انتقد أحد الكتاب المصريين موقفا سعوديا تجاه قضية من القضايا المزدحمة في المنطقة، رد عليه كاتب في الضفة الأخرى الصاع صاعين، أو العكس، وظهرت معالم المناوشات في مواقف كثيرة، لم تكن معهودة بين القاهرة والرياض.
 
المشكلة أن الانتقادات التي توجه من هنا أو هناك، أخذت بعدا سياسيا، فلم يتم وضع ما يكتبه بعض المصريين في حجمه الطبيعي، أيّ تعبير عن وجهة نظر كاتب، كذلك لم يتم التعامل مع ما يسطره سعوديون بحسبانه رأي، يخطئ ويصيب، لكن جرى تسييس غالبية الكتابات والبرامج التليفزيونية التي تلامس قضية مصرية أو سعودية مشتركة، على أنها تنطوي على معان سياسية بامتياز ومقصودة.
 
الحصيلة التي كشفتها الحرب، التي تظهر وتختفي دون استحياء، تؤكد أننا لا زلنا نتعامل مع الإعلام على أنه أداة في قبضة الدول والحكومات، ومهما بلغت هوامش الحرية، واتسعت الفضاءات، سوف تظل العقلية العربية تحكمها نظرية المؤامرة، وربما تكون في هذه الحالة صحيحة، لأن حجم الاتهامات المتبادلة غير معهود، وربما تكون هناك مبالغات، نابعة من الرواسب التاريخية.
 
لا أقصد، بالطبع، التقليل من قيمة من يكتبه هؤلاء أو هؤلاء، لأن له مبررات عند أصحابه، وله أسانيده وتفسيراته أيضا، فالكل يتحدث عن وجود أزمات مكتومة بين القاهرة والرياض، وخلافات بشأن عدد من القضايا، وهناك شواهد تدعم بعض الاستنتاجات السلبية على الجانبين، لكن لم تتطرق، أو حتى تلمح، مصادر رسمية في البلدين إلى وجود ولو خلاف بسيط في جميع القضايا المشتركة والشائكة، والتي اقترب منها بعض الكتاب تصريحا أو تلميحا.
 
الأدهى أن التصريحات التي ينطق بها مسؤولون، قادة ووزراء وسفراء، تؤكد عمق العلاقات وأهميتها الحيوية والإستراتيجية، وتشدد على التمسك بالثوابت الأساسية والجدوى الفائقة للمصالح المشتركة، وإذا خرج كاتب وأشار إلى فجوة أو هفوة تخيم على العلاقات بين القاهرة والرياض، انبرى مسؤولون في العاصمتين أو إحداهما للرد عليه وتكذيبه، وإذا تطوعت إحدى الفضائيات بالحديث عن خلافات، ربما تم نفيها في توقيت واحد على وجه السرعة.
 
التناقض بين الأداء الإعلامي والدبلوماسي، أصاب كثيرين بالحيرة، حيال مدى الثبات والتغير في الروابط بين مصر والسعودية، فهل ما يطفو من نقد على السطح في بعض وسائل الإعلام له رسائل سياسية معينة، أم اجتهادات بريئة من قبل أصحابها؟
 
تقديري أنها تحمل في أحشائها المعنيين، سواء ما يظهر في المطابع أو على شاشات الفضائيات، وسبب هذه الحالة، وجود تباين حقيقي في المواقف، قد تحول المصالح الإستراتيجية دون الإفصاح عن معالمه بوضوح تام، ويستثمر كل طرف رسميا الجزء الذي يقرب ولا يبعد، غير أن الأخير سوف يظل مسكونا بالهواجس، طالما استمرت المسافات متباعدة.
 
المثير أن التباين مرجعه خلاف في التقديرات، أي أن كل دولة لديها رؤية سياسية خاصة للتعامل أو الحل تبدو مختلفة عن الثانية، لكنها لا تعني بالضرورة أن المعادلة صفرية (خسارة طرف مكسب للطرف الآخر)، بل هي تكاملية في النهاية، لأن التباعد الظاهر يكمن في التفاصيل فقط، فالقواعد صلبة ولا تزال محافظة على قدر كبير من تماسكها، ومن الصعوبة أن تصل إلى مرحلة الترهل، بصرف النظر عن ضراوة الحملات الإعلامية، ومهما بلغت من استفزاز أو تطاول سوف تبقى الأسس متينة، لأنها وليدة مصالح كبيرة، لا يستطيع أي طرف التضحية بها الآن.
 
لعل الحديث الذي تواتر خلال الأيام الماضية بشأن تغير موقف مصر من حرب اليمن، كان أكثر تجليات الظاهرة التي أتحدث عنها سخونة. فقد نفت القاهرة، رسميا، على لسان أكثر من مسؤول حدوث تغير، لا من حرب عاصفة الحزم أو حول شرعية الرئيس عبدربه منصور هادي، وشددت على أهمية المبادرة الخليجية، والدور الذي تلعبه السعودية، وفي المقابل تصيد إعلاميون في السعودية تردد بعض السياسيين اليمنيين من تيارات مختلفة على القاهرة، منهم من له تحفظات أو مرارات شخصية على الدور السعودي في اليمن، ورددوا سيمفونية تغير موقف مصر.
 
الحال كذلك بالنسبة للموقف من الأزمة في سوريا، بكل ما تحمله من تعقيدات، حيث تردد أن مصر تقف في خندق واحد مع بشار الأسد، وبشكل أكثر صراحة ينطبق ذلك على الموقف من إيران، التي تعتبرها السعودية العدو الكبير في المنطقة، في حين يبدو الموقف المصري أقل تشددا، كل ذلك جعل أحد الكتاب السعوديين يغازل تركيا ويتغنى بها نكاية في مصر، ويتطوع بالتلويح إلى “اتفاق طائف ليبي” جديد لإحراج مصر، ودفع أحد الإعلاميين المصريين إلى الإشادة بإيران في معرض انتقاده للرياض. من هنا تزاحمت الأوراق، وتصاعدت حدة التراشقات على لسان وفي كتابات بعض الإعلاميين، وكل طرف أخذ يتعامل مع الآخر على أنه رأس حربة في الضفة الأخرى.
 
التفسير عندي، أن الأشقاء في السعودية يعولون على مساندة مصر الإقليمية، ويطمحون إلى أن تقف معهم في خندق واحد، مهما كان الثمن، إن لم يكن للمصالح الكبيرة، فردا للجميل، حيث قدمت الرياض حزمة من المساعدات الاقتصادية والسياسية في أحرج الفترات حساسية في تاريخ مصر الحديث.
لكن مصر، الرسمية والشعبية، والتي لم تنكر أهمية المساندة السعودية، لديها رؤية أملتها عليها طبيعة الظروف القاسية التي تمر بها، وجعلتها تحتفظ بهامش يبدو بعيدا في التفاصيل عن السعودية تجاه بعض القضايا، الأمر الذي فرض عليها المزيد من التريث مع اليمن، ومحاولة التفكير خارج الصندوق للتعامل مع أزمته، وحتمت عليها التظاهر بالليونة مع نظام الأسد، وأملت عدم الاندفاع نحو العداء المفتوح مع إيران، وكلها خلافات غير مؤثرة وغير جوهرية، لكن الإعلام توقف عندها باستفاضة، بينما ظلت العلاقات الدبلوماسية محافظة على متانتها، ولم يتم السماح لنفاذ السلبيات من أبوابها.
 
--------------------------------
* نقلا عن صحيفة العرب، 13/7/2015.
طباعة

تعريف الكاتب

محمد أبو الفضل

محمد أبو الفضل

‮ خبير في الشئون العربية، نائب رئيس تحرير الأهرام‮.‬‬