يحكم المشروع النووى الإيرانى مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية المؤثرة على سياقات التعاطى والتفاعل مع المشروع الذى طالما كان مصحوبا بشد وجذب بين إيران والقوى الدولية الفاعلة فى هذا الملف.
هذا المشروع يقع عند مجموعة من التقاطعات المعقدة بين ضروريات إيران الفنية والأمنية والحسابات الداخلية من جهة، والضغوط الدولية والإقليمية من جهة أخرى.
ويمكن تقسيم تلك العوامل الحاكمة إلى أربع مستويات: داخلية، وإقليمية، ودولية، وفنية، وسنحاول فى هذا المقال الوقوف عليها بهدف إيضاح الرؤية من منظور أشمل يفك لوغاريتمات هذا الملف المعقد.
عقب حرب الـ 12 يوما بين إسرائيل وإيران، أظهر استطلاع رأى أجراه مركز أبحاث البرلمان ونشر يوليو 2025، أن 74% يؤيدون استمرار وتوسيع إيران برنامجها النووى رغم الضغوط الخارجية، هذه النسبة تجانست مع الخطاب الإعلامى الرسمى المؤكد على أن المشروع النووى هو مشروع قومى سلمى بنته إيران بسواعد شبابها ولا يمكن التخلى عنه.
الخطاب الرسمى الإيرانى يمكن اختزاله فى ثلاث نقاط رئيسية هي: سلمية البرنامج وعدم السعى لامتلاك قنبلة نووية استنادا لفتوى دينية صدرت عن المرشد الإيرانى على خامنئى عام 2008، والتفريق بين امتلاك التكنولوجيا النووية والقنبلة النووية، وعدم تقبل إيران التخلى عن برنامجها النووى أو نقل تخصيب اليورانيوم خارج أراضيها.
لم يتراجع خامنئى عن فتواه، رغم تقديم مجموعة من الطلبات من قبل المحافظين المتشددين لمكتب المرشد للرجوع عن فتواه أو إعادة النظر بها، بل اعتبر المرشد الإيرانى البرنامج النووى حقا سياديا غير قابل للتفاوض فى جوهره، وهو صاحب الضوء الأخضر فى العودة لطاولة المفاوضات أو التصعيد فى هذا الملف.
ومع تعدد المؤسسات داخل بنية النظام الحاكم فى إيران، يتمحور دور مجلس الأمن القومى فى رسم السياسات الاستراتيجية للدولة بشكل متوازن بين المحافظين والإصلاحيين من داخل النظام فيما يتعلق بالملف النووي.
تكمن رؤية التيار المحافظ بتعقيداته وتعدديته فى أن المشروع النووى جزء من القوة الثورية للجمهورية الإسلامية وسيادة الدولة، وامتلاكه يعزز من قوة التوسع والانتشار خارج القطر الإيراني، أما الإصلاحيون فيبدون مرونة أكبر فى الدفع نحو تسوية تبقى على جانب كبير من التكنولوجيا النووية مقابل رفع العقوبات والانفتاح الاقتصادى على العالم.
وبالنسبة للحرس الثورى فعقيدته الدفاعية ترى فى تقدم البرنامج النووى وسيلة لتفادى سيناريوهات سقوط عراق صدام 2003 وليبيا القذافى 2011، وامتلاك التقنيات النووية يوفر ردعا استراتيجيا ضد التهديدات الخارجية خاصة الإسرائيلية منها.
واقتصاديا وقبل توقيع الاتفاق النووى عام 2015، ومع تزايد العقوبات الغربية على إيران نتيجة البرنامج النووى أعلن خامنئى لأول مرة عام 2014 عن "الاقتصاد المقاوم" الذى يقوم على خفض الاعتماد على الصادرات النفطية، وتحقيق الاكتفاء الذاتى، وتشجيع الاستثمار، وجدد خامنئى هذه الدعوة فى مارس 2017 مع استمرار العقوبات الأمريكية رغم البرنامج النووي، وهو ما دفع إيران للعمل على تطوير برنامجها النووى والبحث عن سبل لتحسين الأوضاع الاقتصادية بعيدا عن العقوبات.
أما إقليميا فهناك مجموعة من المتغيرات الجيوسياسية التى تؤثر على سلوك إيران التفاوضي، قوة أذرع إيران فى المنطقة تعزز من موقف طهران على طاولة المفاوضات، بينما تعمل دول الخليج من خلال علاقاتها مع واشنطن على تلجيم سلوك طهران وتدخلاتها فى الإقليم.
أما إسرائيل فلطالما مارست ضغطا على الولايات المتحدة لتخوفها من برنامج إيران النووى الذى تراه تهديدا وجوديا، هذا الضغط ترجم لواقع سمح لتل أبيب بإضعاف وكلاء إيران فى المنطقة وشن حرب على الأراضى الإيرانية استمرت 12 يوما رغم مسار المفاوضات.
ودوليا ترى إيران أن دول الترويكا (ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا) أصبحت تمثل تهديدا بعدما كانت دولا داعمة لوجود اتفاق نورى على غرار اتفاق 2015، وتراها تعمل على إرضاء إسرائيل والولايات المتحدة بما يتعارض مع المصالح الإيرانية وتوظف الوكالة الدولية للطاقة الذرية سياسيا للتصعيد تجاه طهران.
ورغم تصعيد دول الترويكا تجاه إيران، لكن ما بدا من المفاوضات الأخيرة التى بموجبها ستعود الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى إيران قريبا، لا تزال ترى تلك الدول أن الحل التفاوضى هو السبيل الوحيد لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، كما أنها لا تميل إلى اندلاع حرب بالمنطقة تؤثر على مصالحها الاقتصادية خاصة تدفق الطاقة والهجرة.
وبالنسبة للولايات المتحدة فهناك معسكران، معسكر يدعو لاحتواء إيران وإيجاد مساحات مشتركة عبر التفاوض، والمعسكر الآخر يرى ردع إيران وشركائها بشكل كامل فى المنطقة، لكن كلا المعسكرين يتفقان على عدم امتلاك إيران سلاحا نوويا يهدد المصالح الأمريكية والإسرائيلية فى المنطقة.
لكن ما تراه إيران بالنسبة للولايات المتحدة عدم وجود ضمانات للعودة لطاولة المفاوضات خاصة بعد السماح لإسرائيل بشن هجماتها على إيران يونيو الماضي.
أما فنيا تعد الجوانب الفنية أكثر تعقيدا من الجوانب السياسية خاصة ما يتعلق بالمخرج الزمنى للاتفاق النووى الموقع فى 2015، فوفق الاتفاق تنتهى القيود الفنية تدريجيا بعد نحو 10 أو 15 عاما، وهو ما ترفضه واشنطن وتل أبيب حيث يطالبان باتفاق مصحوب بقيود بلا نهاية زمنية.
المعضلة الفنية الثانية تتعلق بنسب التخصيب وأجهزة الطرد المركزي، ينص الاتفاق النووى الذى انسحبت منه الولايات المتحدة عام 2018 على أن الحد المسموح للتخصيب هو 3.67% بنسبة 300 كيلوجرام من اليورانيوم المخصب، لكن بعد انسحاب ترامب رفعت طهران النسب تدريجيا حتى بلغت 60%.
وبالنسبة لأجهزة الطرد المركزي وفق الاتفاق تقوم إيران خلال عشرة سنوات بتقليص عدد أجهزة الطرد المركزى العاملة فى منشأة نطنز إلى 5,060 جهاز من طراز IR-1 فقط، لكن إيران طورت أجهزة طرد حديثة من طرازات عدة مما أثار مخاوف الغرب.
ما سبق كان نظرة عامة على العوامل الحاكمة فى المشروع النووى الإيرانى بمقتضاها لن تتخلى إيران عن تقنياتها النووية أو تسمح بتسليم قدراتها عالية التخصيب لدول أخرى كما كانت ترغب الولايات المتحدة، وستبقى المعضلة الأمريكية-الإسرائيلية فى معرفة إيران لهذه التكنولوجيا وكيفية تصنيعها داخليا، بينما لم تتوقف حرب الظل بين طهران وتل أبيب.