تشهد الساحة الإقليمية فى الآونة الأخيرة تصاعدًا فى الهجمات السياسية ضد جماعة حزب الله اللبنانية، بعد أن طرحت بعض القوى الداخلية، برئاسة رئيس الوزراء نواف سلام ورئيس الجمهورية جوزف عون، وبدعم من الولايات المتحدة، قرارًا يقضى بإنهاء امتلاك حزب الله للسلاح خارج إطار الجيش اللبنانى، بحيث تصبح القوة العسكرية حصرًا بيد المؤسسات الرسمية للدولة.
ويستند هذا القرار، وفق ما يطرحه مؤيدوه، إلى ما يصفونه بـ"التطبيق الكامل لاتفاق الطائف وقرارات مجلس الأمن"، ولا سيما القرار 1559 الصادر عام 2004، الذى دعا إلى حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها. ورغم أن استثناء حزب الله حينها اعتبر ظرفيًا ومؤقتًا، فإن الحزب يرى أن شرعية سلاحه قائمة ما دام الاحتلال الإسرائيلى مستمرًا. ولهذا قابلت الجماعة قرار نزع السلاح بالرفض، مؤكدة أن سلاحها شرعى بموجب اتفاق الطائف الذى أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، باعتباره أداة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلى، خاصة مع استمرار احتلال مزارع شبعا وتكرار الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان.
الأبعاد الاستراتيجية لنزع سلاح حزب الله:
تشير التطورات الإقليمية الأخيرة إلى أن الغاية من نزع سلاح حزب الله لا تقتصر على البعد السياسى فحسب، بل تأتى ضمن المساعى الأمريكية لتصفية وكلاء إيران الإقليميين. ويتزامن ذلك مع إعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أن الولايات المتحدة تخوض حربًا على ثمانى جبهات، سبع منها ضد إيران ووكلائها.
ويرجح مراقبون دوليون أن تلجأ إسرائيل إلى الدفع بقوات مسلحة سورية، لتنفيذ هجوم على منطقة البقاع داخل الأراضى اللبنانية، بالتزامن مع خرق معاهدة وقف إطلاق النار واستئناف الهجمات الصاروخية على جنوب لبنان. ويهدف هذا التصعيد إلى جر حزب الله إلى مواجهة عسكرية مباشرة، وفتح جبهتى الجنوب والبقاع فى آن واحد، بما يؤدى إلى استنزاف الحزب وتشتيت قدراته العسكرية.
ويأتى هذا السيناريو فى إطار استراتيجية الحرب بالوكالة التى قد تعتمدها إسرائيل من خلال استغلال جماعات مسلحة غير نظامية لتنفيذ مهام ميدانية تخدم أهدافها، بما يقلل من كلفة التدخل العسكرى المباشر، خصوصا وأن منطقة البقاع إحدى أهم معاقل نفوذ حزب الله، فيما يرى هؤلاء المراقبون أن الجماعات المسلحة قادرة على تشكيل تحديات جدية للمقاومة الإسلامية فى لبنان هناك.خصوصًا وأن الحدود الشرقية للبقاع لا تزال مفتوحة نسبيًا أمام التهريب، لاسيما فى بلدات مثل قصر والقاع. ووفقًا لصحيفة الجارديان البريطانية، حاولت السلطات السورية الجديدة وقف شبكات التهريب بعد سقوط بشار الأسد، غير أن الاشتباكات المسلحة استمرت بينها وبين مجموعات موالية لحزب الله. وقد شهدت الحدود أحداثًا خطيرة، أبرزها اشتباكات 16 مارس 2025 بين قوات سورية وقبائل لبنانية، وهذا يعكس استمرار النزاعات حول مسارات تهريب السلاح، وهى المسارات التى يعتمد عليها الحزب عبر سوريا، من خلال وحدات لوجستية متخصصة مثل "الوحدة 4400"، التى تتولى تنسيق تسليم الأسلحة برًا وجوًا عبر مطار بيروت، بالتعاون مع فيلق القدس الإيرانى.
هذا الواقع يُعد سببًا كافيًا يدفع إسرائيل لتفعيل واحد أو أكثر من السيناريوهين التاليين:
1- التحريض على مواجهة قد تبدأ بضربات جوية أو عمليات خاصة تستهدف مسارات التهريب.
2- استغلال تلك الضربات كغطاء لتحريك جماعات بالوكالة، مثل هيئة تحرير الشام أو غيرها، نحو مناطق نفوذ حزب الله.
وتحمل هذه الأجندة الغربية، تحديدًا، أربع نقاط استراتيجية أساسية، هى:
أولًا- تدرك الولايات المتحدة وإسرائيل أن حزب الله يمتلك قدرات تفوق بكثير قدرات الجيش اللبنانى فى مواجهة أى اعتداء إسرائيلى، سواء من حيث ترسانته الصاروخية، أو طائراته المسيرة، أو قواته البرية المدربة، القادرة على صياغة سيناريوهات تصعيدية ضد الاحتلال الإسرائيلى فى حال أقدم على أى مغامرة جديدة ضد لبنان.
من أجل ذلك يعتزم الجانب الأمريكى-الإسرائيلى تصعيد الحرب السياسية والنفسية ضد حزب الله، بالتوازى مع تمهيد الساحة لمواجهة محتملة بين هيئة تحرير الشام والمقاومة الإسلامية فى لبنان. وتزداد احتمالية هذه المواجهة إذا أخذنا فى الاعتبار، وفق اعترافات مصادر صهيونية نفسها، أن حزب الله تمكن بعد وقف إطلاق النار مع كيان الاحتلال من إعادة بناء بعض من قدراته واستعادة جاهزيته القتالية بنجاح.
ثانيًا- يسعى التآمر الغربى إلى تعزيز قاعدة معلوماته الاستخباراتية حول حزب الله فى لبنان، ويرى فى اندلاع مواجهة بين المسلحين السوريين وحزب الله فرصة ثمينة لرصد تحركات الحزب وتتبع تنقلات قواته ومعداته بدقة أكبر. ومن خلال ذلك، سيتمكن من تحقيق مكاسب نوعية فى حرب المعلومات، بما يضر بالمقاومة ويضعف قدرتها على المناورة.
تُعد هيئة تحرير الشام، شأنها شأن بقية الفصائل المسلحة، عدوًا عقائديًا لحزب الله بسبب خلفيته المذهبية ودوره فى دعم الدولة السورية ضد الجماعات المسلحة منذ عام 2013، ولا سيما فى معارك القصير والقلمون.
ثالثًا- إذا نجحت إسرائيل فى دفع المسلحين السوريين إلى مواجهة مباشرة مع حزب الله، فسوف تتجنب أى مغامرة عسكرية مباشرة ضد لبنان، وبالطبع هذا سيساعدها على دحض الرواية القائلة إن سلاح المقاومة موجه فقط ضد الاحتلال الإسرائيلى لحماية أمن لبنان.
وإذا ما استمرت الجهود السياسية الداخلية لنزع سلاح المقاومة، ستسعى إسرائيل إلى إدارة حرب بالوكالة عبر الجولانى ضد حزب الله لتحقيق مكاسبها بأقل كلفة مباشرة.ولكن هذا الإجراء قد يكون فى مصلحة حزب الله لأن صده لأى هجوم مباشر أو غير مباشر على لبنان سيمنح روايته شرعية أكبر.
رابعًا- تعمل إسرائيل على ترسيخ رسالة مضللة ومشوهة لدى الرأى العام اللبنانى، مفادها أن أمن لبنان مهدد فقط بسبب سلاح المقاومة، فى محاولة لتصوير حزب الله، الذى يُعد أحد أعمدة الأمن الوطنى، على أنه مصدر تهديد للاستقرار والأمان. وتستهدف هذه المعادلة رفع مستوى الضغوط السياسية والعسكرية على حزب الله، مع تعزيز الضغط الشعبى اللبنانى ضده.
وللإنصاف فقد أظهر اللبنانيون فى أكثر من مناسبة دعمهم الواضح للمقاومة، ولا سيما خلال مراسم تشييع الشهيد السيد حسن نصر الله، التى شهدت حضورًا شعبيًا واسعًا، أكد من خلالها المشاركون أن حزب الله متجذر بعمق فى الأرض اللبنانية، وأن استهدافه بالمؤامرات ليس بالأمر السهل.
الموقف الإيرانى فى الصراع:
كان الموقف الإيرانى تصعيديًا بعد قرار نزع سلاح حزب الله، حيث صرح وزير الخارجية الإيرانى عباس عراقجى بأن الخطوات المقبلة التى سينتهجها حزب الله بيده، ستسانده إيران فيها. وبالتوازى قال مستشار القائد الأعلى للثورة الإيرانية على أكبر ولايتى إن طهران تعارض قرار نزع سلاح حزب الله، واصفًا هذا القرار بأنه "حلم بعيد المنال". فيما أكد أمين مجلس صيانة الدستور فى إيران، آية الله جنتى، الذى وصف الحديث عن احتلال غزة بالكامل ونزع سلاح حزب الله بأنه "أوهام ساذجة".هذه التصريحات تكشف عن موقف رسمى واضح من إيران، يقوم على معارضة أى تدخل فى سلاح حزب الله، واعتبار قرار نزع سلاحه مسألة أمن قومى إيرانى من الدرجة الأولى.
فى المقابل قوبلت هذه المواقف الإيرانية برفض لبنانى حازم، فقد عبر العديد من السياسيين والإعلاميين عن شجبهم لما وصفوه بالتدخل الإيرانى فى الشئون الداخلية اللبنانية. وقد دفع هذا الرفض طهران إلى إرسال الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومى الجديد، على لاريجانى، لزيارة لبنان فى 13 أغسطس 2025، وهى زيارة قوبلت بحفاوة شعبية لافتة، جمع خلالها بين التفاوض مع القيادات اللبنانية من جهة، والتشديد على موقف بلاده الداعم للمقاومة من جهة أخرى.
لكن وبعد تصريحات رئيس وزراء لبنان نواف سلام خلال لقائه لاريجانى، التى أكد فيها أن التصريحات الأخيرة لبعض المسئولين الإيرانيين، مثل عباس عراقجى وعلى أكبر ولايتى "مرفوضة شكلاً ومضمونًا"، ألقى لاريجانى كلمة من داخل مرقد الشهيد حسن نصر الله قال فيها: "إخوتى الأعزاء فى حزب الله، قد يقابلكم البعض بالجفاء والحقد، لكن ذلك دليل على مكانتكم وأهميتكم".
ويتضح من هذا التراشق الإعلامى أن التحركات الإيرانية تجاه لبنان تتسم بالصلابة والمناورة فى آن، بما يشير إلى أن طهران لن تتراجع عن دعمها الكامل لمحور المقاومة، وأنها ماضية فى إعادة تموضعها الاستراتيجى داخل هذا المحور، بهدف دفعه مجددًا إلى قلب المعادلة الإقليمية وتأمينه من أى مساعٍ غربية أو حتى خليجية لتفكيكه.
سيناريوهات التصعيد لمنع نزع سلاح المقاومة:
وعلى خلفية الموقف الإيرانى الرافض، تتبنى الدوائر السياسية المغلقة فى طهران عدة سيناريوهات مستقبلية أبرزها معهد طهرانوالذى قال صراحة فى مقاله بعنوان حزب الله چه جوابی به خلع سلاح می دهد؟ "بماذا سيجيب حزب الله بشأن نزع السلاح؟" لمقاومة نزع سلاح حزب الله، ويغلب عليها الطابع التصعيدى والابتعاد عن الحلول المعتدلة فى لبنان، من أبرزها:
1- إسقاط الحكومة عبر إعادة طرح الثقة بها، ووفقًا للدستور اللبنانى إذا لم تحصل الحكومة على ثلثى الأصوات مجددًا، تُعلّق مهامها مؤقتًا ولا تستطيع اتخاذ أى قرارات حتى موعد الانتخابات البرلمانية المقررة عام 2026، مما يعنى شللا سياسيًا قد يمتد لفترة طويلة.
2- التصعيد فى الشارع من خلال تفعيل الحشد الشعبى، على غرار ما حدث فى 5 مارس 2005، حيث يمكن لحزب الله وحركة أمل تنظيم مظاهرات واعتصامات وحشود جماهيرية ضخمة دعما لسلاح المقاومة، وهو ما قد يدفع لبنان إلى دوامة من الاحتجاجات والصراعات السياسية والميدانية، ويزيد من تعقيد الأزمة ويهدد استقرار الحكومة.
3- السيناريو الأسوأ يتمثل فى تكرار تجربة عام 2008، حينما سعى رئيس الحكومة آنذاك فؤاد السنيورة إلى تعطيل مراكز اتصالات حزب الله وتغيير مدير مطار بيروت، مما أدى إلى اشتباكات مسلحة استمرت ثلاثة أيام، انتهت بسيطرة الحزب على بيروت وإجبار الحكومة على مغادرة العاصمة، ثم انعقاد حوارات فى الدوحة لتشكيل حكومة وفاق وطنى منحت المعارضة حق النقض. هذا السيناريو يحمل مخاطر انهيار سياسى شامل.
هذه الاحتمالات ليست بعيدة، خاصة فى ظل احتمال توريط إسرائيل لبنان فى حرب مع الجماعات المسلحة فى سوريا، مما يجعل السيناريو الأخير هو الأخطر على مستقبل البلاد. ولهذا يقترح بعض اللبنانيين المقربين من الرئيس جوزف عون أن يتم نزع السلاح بشكل تدريجى وحذر، بحيث يسلم حزب الله الصواريخ والطائرات المسيرة، مع الاحتفاظ بالسلاح الخفيف لأغراض أمن الطائفة الشيعية. ونعتقد بأنه قد يكون هذا الطرح جزءًا من مناورة سياسية لامتصاص الضغوط، دون نية حقيقية للتنفيذ، إلا أن المؤشرات تفيد بأن القيادة اللبنانية تتعرض لضغوط أمريكية وحتى عربية تحول دون أى تهدئة.
خاتمة:
تشى التطورات الأخيرة فى لبنان بدور فاعل للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، التى تنسق خطواتها بصمت وبشكل تدريجى، مستخدمة أدوات ضغط متعددة، بدءًا من ربط المساعدات الاقتصادية بالإصلاحات، وصولًا إلى التهديد بالعقوبات أو العزلة الدبلوماسية.
ويأتى ذلك فى إطار مساعٍ لتفكيك أذرع إيران الإقليمية، وتعزيز عسكرة محيط نفوذها الجيوسياسى. هذه الاستراتيجية قد تدفع لبنان نحو مشهد أشبه بـ "البلقنة" السياسية، أى تفكك الدولة عسكريًا واجتماعيًا، وانخراطها فى صراعات داخلية معقدة تحكمها اعتبارات براجماتية وسياسية.وفى المقابل من المرجح أن تمضى إيران فى خطواتها المستقبلية بضخ دعم كامل لأذرعها الإقليمية، وعلى رأسها حزب الله، بالتوازى مع تعزيز علاقاتها الأمنية والاستراتيجية مع روسيا والصين، فى محاولة لاحتواء وإفشال المشروع الأمريكى فى المنطقة.