مقالات رأى

توترات تونسية على إيقاع عربي

طباعة
لا هو من قبيل الخفة في التعبير ولا السخرية في القول الزعم بأن تشابه الهموم العربية، يُعد من العناصر التي تؤكد وحدة العرب. هنا نقلب ملفات إرث البورقيبية التي شكلت تونس ما بعد الاستقلال وتمثلاتها المتنوعة. مثلت البورقيبية قاطرة تونس نحو الحداثة ولولاها لربما ظل البلد يترنح في حواري التقليد كحال كثير من البلدان العربية. ورغم أن البورقيبية دفعت المرأة التونسية إلى موقع متقدم قياساً بنظيراتها في البلاد العربية، فإنها ظلت تحوم حول «المجاهد الأكبر» وما يراه ويقرره. في عنفوان شبابه ونضجه وعطائه، امتلك بورقيبة جبروت الشخصية كي يقود البلاد ويفرض رؤيته لتونس المنطلقة نحو المستقبل والمنفلتة من الماضي، فداس على المعارضة وهمشها، وانفرد بتوجيه دفة البلاد.
 
لكن عندما استبدت حتمية الزمن بالقائد واحتلت الشيخوخة والعجز ما كان نصيباً للعنفوان واليقظة، تقدم أحد أخلص مساعديه ليخلص البلاد من ما صار يُرى نزقاً في القائد وليس حكمة. صار لابد من إنقاذ البلاد من مؤسسها وحاميها الأول، فجاء زين العابدين بن علي. وعد الشعب بعهد دستوري جديد، قوامه الثورة على فكرة «الحكم مدى الحياة». وكلنا نعرف بقية القصة.
 
تلك هي السردية العريضة للواقعة التونسية في النصف الثاني من القرن الماضي، وصولا إلى لحظة سقوط بن علي. خلف هذه السردية كانت حياة المجتمع تمور بامتدادات عميقة ومتواصلة وراسخة للموروث الاجتماعي والديني، وببنى اقتصادية هشة لم تستطع تقليص الفقر العريض، ولا استيعاب أجيال الشباب الذين فاضت بهم شوارع البطالة لتتلقفهم تنظيمات متطرفة، في ظل نظام سياسي أحكم سيطرته على المجتمع، ومنع الحريات السياسية، وحجز المناصب للمنافقين والمتسلقين والمداحين.
 
في قلب تلك التناقضات، وفي المشهد الأولي من الرواية، «عبد الناصر»، الشاب المتمرد الناقم على عائلته، وهو يسير في جنازة والده الحاج محمود. في لحظة الدفن، والعشرات من محبي الحاج يتحلقون حول القبر مرددين الأدعية والآيات القرآنية وراء «الإمام علاله»، إمام جامع الحارة، الذي يمسك رأس الحاج محمود فوق اللحد، فينتفض عبد الناصر ويضرب بقدمه وجه الإمام بكل قوة فينفر منه الدم، وتتحول الجنازة إلى فوضى مباغتة. بعد هذا المشهد الافتتاحي نحتاج إلى أكثر من ثلاثمائة صفحة كيف نفهم سبب هذا التصرف «الأرعن» الذي لم يكن ليليق بابن الحاج محمود صاحب السيرة الحميدة.
 
من ضربة الشاب اليساري المتمرد لوجه السلطة الموروثة، وإلى معرفتنا بأن إمام الجامع ذاك حاول مراراً الاعتداء جنسياً على عبد الناصر أيام كان ولداً صغيراً يحوم في الحواري.. نجوب مع المبخوت في حكايا تونس، وتوتراتها، وناسها، وفقرها، وأيديولوجياتها، وحيرتها، ونسائها، وسير العشق المكتمل والمنقوص.
 
عبد الناصر، والذي يعرفه الجميع بلقب أطلق عليه باكراً، وهو «الطلياني» نظراً لـ«وسامته الأوروبية»، شخصية درامية بامتياز، وفيه كل التناقضات الممكنة. فهذا اليساري المهجوس بتحقيق العدالة والمساواة، هو نفسه الشخصية المرذولة من قبل عائلته، العائلة التي لا يهتم بها، وكأنها تقع خارج تعريف «الشعب» و«المجتمع» الذي يدافع عنه. نبله في النضال وفي الحب عندما تعرف على زينة، الريفية القروية، المُبهرة في الجامعة وفي تفوقها في الفلسفة.. لا يوازيه إلا نذالاته وخياناته المتكررة لمن اعتبرها قديسة قلبه. تنظيراته في ضرورة الثورة الجذرية واقتلاع الوضع القائم واستبداله، تنزوي تدريجياً لصالح أفكار «الإصلاح من الداخل» والاقتراب من دوائر النظام والاشتغال في ماكينته. أفكار «الإصلاح من الداخل»، عملياً وحياتياً، يقع جذرها في الحاجات المادية وإكراهات الحياة، والتنظير المؤدلج لها ليس سوى التكرار المعروف لنفس القصة، حيث تُوظف مهارات لغة الأيديولوجيا لسوق المسوغات والمبررات.
 
أما شقيق عبد الناصر، صلاح الدين، الذي أنهى الدكتوراه في الاقتصاد، ويعمل في سويسرا مع مؤسسات دولية كبرى تريد قيادة دول العالم المتخلف إلى سياسات تحرير السوق. «زينة»، المناضلة والمتفلسفة وزوجة عبد الناصر، يقتلها طموحها، ثم تفترسها ماديات الحياة عندما تحس بطعم المال والمرتب الشهري. تحاول التعامل مع الحرية التي «منحها» بورقيبة لنساء تونس، فتلتبس عليها الأمور.
 
------------------------------
* نقلا عن الاتحاد، الإثنين، 23/2/2015.
طباعة

تعريف الكاتب

د. خالد الحروب

د. خالد الحروب

دكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة كامبردج, ومدير مشروع الإعلام العربي في مركز الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية فيها