مقالات رأى

إرادة التغيير في تونس

طباعة
تتجه تونس إلى تعايش صعب في حال فوز المرشح المنصف المرزوقي، أو إلى انسجام مطلوب بين الغالبية النيابية ورئيس الدولة، إذا مالت الأصوات لمصلحة المرشح الباجي قائد السبسي. وفي الحالتين معاً، لا بديل أمام التونسيين غير تجريب مزايا ديموقراطية التناوب والاستقرار.
 
التعايش ضمن سلطة برأسين ليس جديداً على الممارسات السياسية، فقد جربت فرنسا في عهد الرئيس فرانسوا ميتران نموذج حكم مماثل قفز بعده جاك شيراك إلى الواجهة من دون عناء. ولم يبد الرئيس الأميركي باراك أوباما تململاً من سيطرة الجمهوريين على مقاعد متقدمة في الكونغرس. بل صار يحسب كثيراً للحؤول دون الدخول مع خصومه في مواجهات مفتوحة. غير أن هكذا تعايش يكون له ميثاقه وأخلاقياته وعيوبه أيضاً، إذ يشد أيدي أهل القرار إلى مراعاة توازنات دقيقة.
 
هل التجربة السياسية في تونس في وارد الإفادة من ظروف بهذه التعقيدات، وفي رصيدها حكم الترويكا الذي لم يستطع إكمال المشوار، بسبب الغليان الداخلي وتأثير التطورات الإقليمية، كما حدث في مصر. فقد آلت العملية السياسية إلى تعايش من نوع آخر، كانت ركيزته الإذعان إلى فكرة تشكيل حكومة كفاءات تكنوقراطية لرعاية أشواط المنافسات الانتخابية بشقيها الاشتراعي والرئاسي. وبالقدر الذي احتفظ الرئيس المنصف المرزوقي بوضع رمزي، فقد جعل من رفضه الترشح لولاية قادمة، في حال فوزه هذه المرة، برنامجاً انتخابياً، يغمز بطريقة غير مباشرة من منافسه الباجي قائد السبسي الذي اعتلى الواجهة مبشراً بالقطع مع ممارسات لم يكن بعيداً من تحمل مسؤوليات سياسية إبانها.
 
المسألة لا تخرج عن نطاق تسجيل النقاط، كما في أي منافسات يحظر فيها الضرب تحت الحزام. وكما المعارضة ليست شيكاً على بياض، فالمشاركة في تجارب سابقة لا ترادف التورط المحظور بالضرورة، غير أن استمرارية الدولة تبقى الرهان الأكبر في التحديات المتعاظمة، إذ يسود الأمن والاستقرار وتفعيل دور المؤسسات وقيم الحوار وأفق الرؤية البعيدة المدى.
 
في الصورة المقابلة يصعب إلغاء نتائج الاستحقاقات الاشتراعية التي حملت «نداء تونس» بزعامة السبسي إلى الصدارة. فهي تعكس توجهات شرائح واسعة من الرأي العام. لكن حزب «النهضة» الذي جاء في المرتبة الثانية نأى بنفسه عن خوض الرئاسيات بمرشح ينتسب إليه، وإن كان مفهوماً أنه لا يخفي مساندته المنصف المرزوقي. وعلى عكسه تماماً انبرت «الجبهة الشعبية» لترك الحرية لمناصريها، شرط ألا يدعموا المرشح إياه. ما يحصر المنافسة في رقعة الأضداد، قبل الذهاب الى تحالفات مرتقبة. ولعل هذا الاحتراز السياسي أفسح المجال أمام حدة المنافسة، من دون أن يسبقها توصيف دقيق للمواقف عند تشكيل الحكومة وتعيين رئيس الوزراء، كونه سابقاً لأوانه.
 
تتقاطع التطورات أو تتباين، لكنها تلتقي عند الخط الفاصل بين النوايا والإرادات. وكما تجربة حكم المنصف المرزوقي تقيده أو تحرره بحساب الإنجازات والعثرات، فإن صفحة المرشح المنافس ليست كلها بيضاء. أقله لناحية تجريب حدود إمكاناتها في الخروج بتونس إلى آفاق أرحب. ولا يختلف المتنافسان كثيراً في أن تحديات تثبيت الاستقرار ومواجهة الإرهاب والتطرف وإنعاش حظوظ الاقتصاد والانكباب على الملفات الاجتماعية، جميعها أسبقيات لا تتجزأ.
 
لم تعد الخلافات الإيديولوجية وتضارب الاختيارات تطرح مسافات شاسعة بين الفرقاء. لكن الأسلوب ومنهجية التدبير واقتراح الحلول القابلة للتنفيذ ضمن أجندة محددة في الزمان والمكان، هي ما يفرق بين الطروحات. وتحتاج تونس في اللحظة الراهنة إلى قائد بمواصفات الحكمة والانفتاح والدعم الشعبي، يعاود بناء جسور الثقة وينقل الثورة إلى مصاف بناء الدولة الحديثة القائمة على المؤسسات والتعددية والمشاركة البناءة، إن على صعيد الحكم أو المعارضة، مع اختلاف الأدوار والمسؤوليات.
 
تعايش آخر قابل للحياة، سيكون أجدى لتجاوز الاندفاع الانتخابي، محوره التأقلم مع متطلبات العملية الديموقراطية، إن من خلال تأمين نزاهة الاستشارة الشعبية التي تشكل امتحاناً لنضج التجربة السياسية، أو عبر الانجذاب لخيار بناء الدولة، بعد أن استنفدت الثورة ضروراتها المرحلية. وكما غضب الياسمين أصبح ملكاً للتاريخ، فإن تجذير بناء المستقبل يتعين أن يظل ملكاً لكافة الفرقاء. أما اللحظة الانتخابية فإنها لا تزيد عن مفصل آني، قد يصبح فيه من يخسر اليوم فائزاً غداً. وقد يتعثر فائز اليوم في مطبات الغد. لكن إرادة التغيير الديموقراطي أرسخ وأقوى لدى الديموقراطيين الحقيقيين.
 
------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الأحد، 21/12/2014.
طباعة

تعريف الكاتب

محمد الأشهب