مقالات رأى

الرئاسية التونسية بين عبث قوى الردة والأمل في قوى التقدم

  • 25-11-2014

طباعة
**مصطفى القلعي
 
منح الشعب التونسي ثقته لمن قدر أنه رجل الحاضر العاجل. ولكنه في الوقت ذاته هيأ لنفسه قيادة المستقبل، وهمس لها بأن تستعد وتجهز نفسها لشرف المسؤولية قريبا.
 
تعيش تونس هذه الأيام مرحلة حاسمة من تاريخها المعاصر وهي تستكمل مسارها الثوري الذي زكّاه شهداؤها بدمائهم. إن القوى المدنية والتقدمية نجحت اليوم في قيادة تونس إلى بر الأمان وهي تراه وتكاد تدركه رغم التعطيل الكبير الذي تتسبب فيه قوى الردة والرجعية. تصل تونس اليوم إلى الأمتار الأخيرة من خارطة الطريق التي وضعها الحوار الوطني بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل.
 
فبعد أن نجحت تونس في كسب المحطة الديمقراطية الكبرى الأولى يوم 26 أكتوبر الماضي وهي محطّة الانتخابات البرلمانية، ها هي تكسب الجولة الأولى من المحطة الكبرى الثانية، وهي جولة الانتخابات الرئاسية التونسية مساء 23 نوفمبر 2014 والشعب التونسي يشعر بالتسامي والفخر بما ينجزه في طريق الديمقراطية والمدنية والتداول السلمي على السلطة. فتونس هذا البلد الصغير الجامح في شمال أفريقيا متوثب إلى غرب أوروبا ويكاد يلامسه، هذا البلد الصغير يتحدى نواقصه المادية ويستبدلها بثروته الوحيدة التي يملكها وهي الثروة البشرية التي تفيض إبداعا وتصنع تاريخا كبيرا لدولة صغيرة.
 
هاتان الجولتان الانتخابيتان اللتان عاشهما الشعب التونسي في أقل من شهر، مارس فيهما ما كان يناضل من أجله وهو حقّه في الحريّة والاختيار بشفافيّة ونزاهة ومسؤوليّة. فاختار التونسيّون في البرلمانيّة من يمثّلهم من بين أحزاب متنافسة على برامج وخطط ومشاريع. واختاروا من سيرأسهم من بين 27 مترشّحا تقدّموا للترشّح. هذا الاختيار الحرّ هو الكسب الكبير على درب الديمقراطيّة الطويل.
 
ولكن لابدّ أن نسجّل أنّ قوى الردّة ما زالت تُعمِل أياديها في تونس لتفسد عزم شعبها على بناء ديمقراطيّته التي يطمح إليها. هذه القوى هي المعادية للديمقراطيّة والمدنيّة والتي لا يحرّكها الوعي الوطني ولا المدني ولا الحداثي، وإنّما الوعي القطيعي. فهي تنفّذ وتطيع حين تؤمر. ولكن لابدّ من أن نسجّل أنّ هذه القوى المتلوّنة تتموقع في الظلّ أي في خلفيّة المشهد السياسي والاجتماعي التونسي. فهي قد تراجعت إلى الخلف تراجعا تكتيكيّا بعد نضالات المجتمع المدني والقوى التقدميّة التونسيّة التي أسقطت حكم الترويكا المستبدّ مطلع سنة 2014 الجارية.
 
قوى الردّة هذه علّقت حلمها الرجعي وأجّلته بتعليمات من الحزب الإخواني الكبير الذي قرّر ألاّ يقدّم مترشّحا للرئاسيّة حتى يسهل عليه اللعب فيها بسهولة، في انتظار قدوم القائد الذي ستراهن عليه ليحقّق الحلم الرجعي الكبير.
 
وقد كشفت الحملة الانتخابيّة الرئاسيّة أكثر من قائد تطوّع لخدمة الرجعيّة ولعب على وترها وحاول توظيف قوى الردّة بكلّ خطرها وبكلّ ممارساتها العنفيّة المعادية للديمقراطيّة طمعا في كرسي الرئاسة.
 
لقـد هبّ التونسيّون إلى صناديق الاقتراع لاختيار قائد يشرّفهم ويمثّلهم ويقودهم إلى الأمام. ولكن من المترشّحين من كان يعد بالسير إلى الخلف. السير إلى الخلف هو بالضبط ما تريده قوى الردّة، فجاءت إليه وساندته وأتت على نفسها ومارست عمليّة الانتخاب رغما عنها فهي تعتبرها حراما وأفتت بتكفيرها. فليس من الهيّن على أعداء الديمقراطيّة والمدنيّة أن يأتوا على أنفسهم ويقفوا في طوابير الناخبين ممارسين أحد أكبر العلامات على المواطنة وهم يعتبرون أنفسهم رعايا. حتى في هذه هزمتهم تونس وأجبرتهم على أن يكونوا كما تريد هي رغم أنّ هدفهم غير هدفها. لقد تمكّنت قوى الردّة من تأجيل خسارتها ومدّدت تونس في عذابها فهي خاسرة لا محالة.
 
كيف يمكن لمترشح لرئاسة تونس الديمقراطية المدنية التقدمية أن يطلب دعم قوى الردة والعنف التي آذت التونسيّين واعتدت على رموزهم الوطنيّة وعطّلت اندفاعهم إلى الأمام وهزّت ثقتهم في مستقبلهم؟ كيف يمكن لمترشّح للرئاسيّة أن يتنكّر لدماء الشهداء ولدموع اليتامى والثكالى والأرامل ويراهن على القوى التي انتهكت حرماتهم الجسديّة واعتدت عليهم وقصفت أعمار شبابهم؟ بكلّ أسف، وجدت هذه السرياليّة من بين المترشّحين من يجسّدها ويراهن عليها من أجل كرسي الرئاسة. وربّما يتساءل متسائل لماذا تساند قوى الردّة المعادية للديمقراطيّة والمدنيّة وتدعم مترشّحا من المترشّحين؟ ما الذي وعدها به ليحظى بدعمها ويحفّزها على أن تشحن بهذا القدر وتغزو مراكز الاقتراع لمحاولة ترجيح كفّته؟
 
الحقيقة أنّ التونسيّين يعرفون الأسباب، فهنـاك مـن استثمر في الرجعيّة وهو في أعلى موقع للمسؤوليّة. وخدم المشروع الظلامي وفتح أرض تونس لدعاة الفتنة والتكفير ويسّر طرق التجنيد الإرهابي، وتسّتر على جمعيّات الحشد والتكفير، وتغاضى عن احتلال المساجد ومدّ يده لأعداء الديمقراطيّة وأكرمهم، وأفسد الدبلوماسيّة التونسيّة وتلاعب بالقيادة العليا للجيش التونسي.
 
لقد وجدت قوى الردّة في هذا المترشّح ما لم تجده في كلّ القيادات التي أنتجها الحزب الإخواني الكبير! لقد كان أكثر يمينيّة وراديكاليّة ورجعيّة منهم وهو يشهر يافطة الحقوقي والديمقراطي. فحزب النهضة يناور قليلا ويتراجع عن رجعيّته بل يتنكّر إليها متى كان المدّ الديمقراطي المدني التونسي عاتيا. لقد كانت تونس، وستكون دائما، أكبر من المتآمرين والمعادين لها والمعطّلين لمسيرتها نحو التقدّم.
 
ومع ذلك فقد كشفت الانتخابات الرئاسيّة التونسيّة عن بداية تشكّل ثابت لقوى المستقبل التي بدا أنّها جاهزة لخدمة وطنها، وأنّها ستكون الخيار الأكبر للتونسيّين قريبا وهي القوى التقدميّة التي آمنت بالديمقراطيّة والمدنيّة والمواطنة ولكن معها العدالة الاجتماعيّة. فلقد كشفت نتائج الانتخابات عن احتلال حمّة الهمّامي، مرشّح هذه القوى التقدميّة، المرتبة الثالثة في أغلب الدوائر الانتخابيّة. وهذه رسالة أمل لمستقبل تونس. ولولا كثرة المترشّحين بنفس الراية التقدميّة التي تسبّبت في تشتّت أصوات الناخبين لكانت نتيجة القوى التقدميّة أفضل بكثير.
 
ولابدّ من الإشارة إلى أنّ المراقبين جميعا من داخل تونس وخارجها يجمعون على الحملة الانتخابيّة النظيفة والجميلة لمرشّح الجبهة الشعبيّة التونسيّة. فلقد كانت شعاراتها واضحة وتمويلاتها معروفة وممارستها مدنيّة. ومن الواضح أنّها تتقدّم ببطء ربّما ولكن بثبات نحو قيادة تونس في محطّات قريبة. لقد منح الشعب التونسي ثقته لمن قدّر أنّه رجل الحاضر العاجل. ولكنّه في الوقت ذاته هيّأ لنفسه قيادة المستقبل، وهمس لها بأن تستعدّ وتجهّز نفسها لشرف المسؤوليّة قريبا.
 
** كاتب وباحث سياسي من تونس
----------------------------------
* نقلا عن صحيفة العرب اللندنية، الثلاثاء، 25/11/2014.
طباعة