مقالات رأى

جنون «داعش».. هل فيه منطق؟!

طباعة
أصبحتُ أتشاءمُ من تفاؤلي، والمشكلة أنني كثير التفاؤل. عندما ظهرت «داعش» أول مرة في الميدان، تفاءلتُ بعودة النكات المصلاوية. وما عندي اليوم سوى النكتة عن مصلاوي سقط من سطح المنزل فصرخ بزوجته، وهو مار بشباك المطبخ: «لا تحسبين حسابي على العشا». «جنون لكن فيه منطق» حسب شكسبير. ومنطق جنون «داعش» من منطق جرائم الحرب ضد العراقيين، والتي يستأنفها قادة الجيوش الأميركية الآن في عمليات حربية خاصة داخل مدن الموصل وبعقوبة وبغداد. وكل ما في بالهم «مواجهة التحديات على الولايات المتحدة، حسب الجنرال دمبسي رئيس أركان القوات المشتركة الأميركية. وها هم يُعوِّلون مرة أخرى على «قوات الأمن العراقية والمقاتلين الأكراد والسُنة المسلحين الذين قد يلعبون الدور نفسه الذي لعبوه في تشكيل قوات الصحوة». لكن «تجميع هذه القوات البرية يحتاج إلى وقت طويل، لأن أكثر من نصف الفرق العسكرية العراقية التي فحصتها الولايات المتحدة عن قرب غير مؤهلة حربياً، وتسليحها، وقياداتها غير مناسبين، وولاؤها ليس للحكومة، بل للطائفة».
 
وفي تعاملنا مع واشنطن علينا أن لا نخشى الجنون، بل أن نتمتع به كل لحظة، وإلاّ سنهلك جنوناً عندما نسمع القادة العسكريين الأميركيين يؤكدون حرصهم الشديد على حياة العراقيين، وعدم اطمئنانهم لطلب رئيس الوزراء حيدر العبادي من سلاح المدفعية والطيران تجنب استهداف المدن، وإيذاء السكان المدنيين، مشيرين إلى «أخطاء كبيرة ارتكبتها القوات العراقية، لذلك يقع على عاتق الولايات المتحدة، وبلدان التحالف الأخرى القيام بالضربات الجوية التي ينبغي أن تُنسق بعناية». ويقولون إن «هذه العناية سبب بطء الضربات الجوية التي أمر بها الرئيس الأميركي، والتي استهدفت بعض مواقع الميليشيات السنية المتناثرة؛ مدرعة هنا، وزورق على الفرات هناك، ومواقع مدفعية في مكان آخر»، يعتبرها الجنرال دمبسي «طقطقة»!
 
وَيضع الجنرالات الأميركيون الأمور الآن بيد الكردي، الذي مات أبوه، وسأل الدفان عن أرخص قبر. قال الدفان 90 ألف دينار، سأل الكردي: «زين إذا كان الميت من عندنا؟». ووجود الأكراد الفعلي نكتة في تصريح الجنرال دمبسي حول التزامه بأوامر أوباما في تجنب وضع مستشارين عسكريين أميركيين على الأرض جوار القوات العراقية المقاتلة، فعهد إلى الأكراد بتمرير المعلومات عن مواقع «الدولة الإسلامية» إلى مركز العمليات في أربيل، الذي تديره قوات عراقية وأميركية، ويقوم هؤلاء بدورهم بتمرير المعلومات إلى الطائرات الأميركية، وهكذا يطبق الجنرال طريقة «روب غولدبرغ»؛ وهو رسام كارتون أميركي اشتهر برسومه التي تصور آلات وأحزمة، وعجلات وعتلات بالغة التعقيد، كل عملها قد يكون مثلاً تشغيل ولاعة سجائر!
 
و«عندما نتذكر أننا جميعاً مجانين تختفي الألغاز، وتصبح الحياة مفهومة»، حسب الكاتب الأميركي الساخر «مارك توين». فجميع مجانين «داعش» منخرطون في صراع مذهبي وجيوسياسي، إقليمي ودولي، جعل أجزاء عدة في العالم العربي أراضي محروقة منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003. لقد «فتحوا أبواب جهنم»، أعلنها عمرو موسى، أمين عام «جامعة الدول العربية» آنذاك. وتوقعتُ في مقالاتي هنا الفالق الزلزالي المذهبي والجيوسياسي، الذي سيشق العالم الإسلامي من شمال أفريقيا حتى الهند.
 
ويفتح تقرير هيئة رصد حقوق الإنسان العالمية «هيومان ووتش رايتس» الذي صدر أخيراً كوة صغيرة على «جحيم الزلزال»، حيث نرى قتل 109 سنيين في القرى والبلدات المحيطة ببغداد، منذ مارس الماضي. ويورد التقرير شهادات أطباء وموظفين يحمِّلون جماعة «عصائب أهل الحق» مسؤولية ارتكاب ذلك، ويذكر أن شهود عيان عدة تعرفوا على أفراد هذه الجماعة، وذكر أحد الذين اختطفتهم «العصائب» أنهم أطلقوا سراحه فيما بعد لأنه أقنعهم بأنه شيعي، وليس سنياً، حسب تقرير «هيومن ووتش رايتس» الذي استشهد بقول طبيب في وزارة الصحة إن «السُنة في بغداد أقلية، لكنهم الأكثرية في مستودع الجثث في الطب العدلي».
 
والجميع مجانين، لا فضل لعربي على أعجمي في الجنون؛ «داعش» أو «عصائب أهل الحق» أو «الجماعات التكفيرية» أو «منظمة بدر»، أو حتى بين واشنطن ولندن وباريس وبقية الدول التي تتبارى في قتل العرب. نقرأ ذلك في مقال «كل رجال آية الله» للباحث الأكاديمي الأميركي فيليب سميث في جامعة ميريلاند. ويشير المقال المنشور في العدد الأخير من مجلة «السياسة الخارجية» الأميركية، إلى أنه في مقابل مذابح «داعش» هناك «أيضاً أفعال بعض المنظمات الشيعية المتنامية»، ويقدرُ عددها بأكثر من خمسين ميليشيا. ولهذه الجماعات علاقات أيديولوجية وتنظيمية بإيران، تقضي على «كل فكرة حول سلطة حكومة بغداد. وتشكل تحدياً جسيماً لهدف الرئيس أوباما المحدد في العمل مع حكومة عراقية شاملة لإزاحة داعش». وأورد الباحث معلومات عن تزايد أعداد المنضمين إلى هذه الميليشيات، على حساب المجندين المحتمل انضمامهم للجيش والشرطة، وانضمام مقاتلين إلى منظمات طائفية تحمل أيديولوجيات معادية للولايات المتحدة. وذكر الباحث أن «عمل هذه المنظمات ليس مجرد إزاحة المجاهدين السنة، بل إنشاء حرس مؤخرة يُستخدم للسيطرة على مناطق يُفترضُ أن تكون تحت سيطرة حكومة بغداد». وانحشرت الميليشيات داخل هياكل الحكومة العراقية، والتي أصبحت تعتمد على قوة الميليشيات إلى حد لا يمكن لها أن تحلّها، وارتكبت قواتهما المشتركة انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان. ويورد الباحث معلومات تقرير «منظمة العفو الدولية» عن قيام القوات المشتركة للحكومة والميليشيات بقتل 255 شخصاً في يونيو الماضي بينهم، أطفال، ويصف كيف تقوم ميليشيات الشيعة بعمليات إعدام منتظمة، دون محاكمة وتقتل عشرات السجناء السُنة داخل البنايات الحكومية.
 
وإذا كان «الجنون نادراً بين الأشخاص فإنه القاعدة بين الجماعات، والأحزاب السياسية، والأمم، والعصور»، حسب الفيلسوف الألماني نيتشه. نقرأ ذلك في تصريحات استنكار أطلقها الزعيمان الأميركي والبريطاني ضد أعمال «داعش»، يلاحظ الباحث البريطاني نفيس أحمد، المعروف بأبحاثه عن الإرهاب وأعماله الاستشارية للأكاديمية العسكرية الملكية البريطانية، «خلوها التام من أي معلومات عن الدور المشترك السري للمخابرات الأميركية والبريطانية لتقوية، وحتى تقديم الدعم المباشر لهذه الميليشيات الخبيثة، خاصةً في العراق وسوريا». وفي بحثه المسهب، وعنوانه «كيف أنشأ الغرب الدولة الإسلامية»، كشف الباحث أن لندن وواشنطن نسقتا بشكل سري ومكشوف منذ عام 2003 دعمهما المشترك للجماعات الإرهابية المرتبطة بـ«القاعدة»، عبر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وأورد تفاصيل مثيرة عن عمليات «الجيش الإسلامي» في استخراج النفط ونقله وتهريبه وبيعه، بتواطؤ من المخابرات التركية، حسب مصادر برلمانية تركية. واستشهد بتقرير «جامعة العلميات الخاصة المشتركة الأميركية»، والذي جاء فيه أن «تقسيم أعدائنا كان بعد الحرب على العراق الموضوع الدراسي المهم لزرع البغضاء بين الأعداء، والتي تقود إلى أن يصبح المقاتلون الحمر ضد الحمر، بمعنى الأعداء ضد الأعداء».
 
---------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الخميس، 25/9/2014.
طباعة

تعريف الكاتب

محمد عارف

محمد عارف

مستشار المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا.