مقالات رأى

تداعيات إقرار الدستور على مكانة مصر الخارجية

طباعة
هذا المقال كتب للموقع الالكتروني لمجلة السياسة الدولية
الخميس، 30/1/2014
 
شكل إقرار الدستور الجديد المحطة الأبرز فى تنفيذ استحقاقات خارطة الطريق التى اقرتها القوات المسلحة بدعم شعبى عقب ثورة 30 يونيو، وعكست نسبة المشاركة السياسية التى وصلت إلى 36.8 % رغبة الشعب المصرى فى توجيه العديد من الرسائل سواء للداخل المرتبك أو الخارج المراقب لمآلات التجربة المصرية ، مؤداها أن ما حدث فى مصر ثورة شعبية نجحت فى وضع برنامج وجدول زمنى للنقل الآمن للسلطة بمستوياتها المختلفة، وأن إقرار الدستور بنسبة موافقة 98.1% تعنى الرغبة الأكيدة فى الوصول بالوطن إلى بر الأمان وتحقيق الاستقرار الذى طال انتظاره . أما الرسالة الأهم التى رغب الشعب المصرى فى توجيهها للخارج أن القضايا المصرية المصيرية هى شأن داخلى بالأساس وأن التفاف الشعب حول جيشه هى الغاية الأسمى للحفاظ على تماسك الدولة والمجتمع والتى راهن الكثيرون على إنهيارهما كما حدث فى تجارب ثورية أخرى. ولا شك أن خروج الشعب فى هذا الاستحقاق كان بمثابة استفتاء وموافقة ليس فقط على الدستور وإنما على خارطة الطريق بشكل عام وهو مايعنى أن الشعب هو المصدر الحقيقى للسلطات ومانح الشرعية وحارسها. الأمر الذى انعكس على ترحيب  بعض الدوائر العربية والغربية بنتيجة الاستفتاء على الدستور بإعتبارها بداية لتحقيق التحول الديمقراطى فى مصر، فى حين اعتبر البعض أن العملية الديمقراطية أكبر من الاستفتاء على الدستور بل وأكبر من الصناديق الانتخابية فى تناقض واضح للمواقف وهو ما أعلنه جون كيرى وزير الخارجية الأمريكى عقب إعلان نتيجة الاستفتاء على الدستور الجديد. 
 
إقرار الدستور والبحث عن نموذج ريادى عربى 
 
جاءت ردود الأفعال العربية على إقرار الدستور لتعكس حيوية ومكانة مصر فى المنظومة العربية التى يدرك قادتها أن استقرار مصر هو استقرار لباقى الدول العربية وأن تحول الثورة فيها إلى بناء الدولة سيسهم فى وقف نظرية الفوضى الخلاقة التى تبنتها دوائر غربية عديدة وراهنت على إعادة تشكيل دول المنطقة العربية وتفكيكها إلى دويلات تسمح بوجود دولة قوية وآمنة وهى إسرائيل. لذلك تأتى مواقف الدول العربية المؤيدة لثورة 30 يونيو وخارطة طريقها وإقرار أهم استحقاقاتها وهو الدستور لتدرك المغزى الحقيقى لاستقرار مصر ومدى انعكاسه على استقرار باقى وحدات النظام الاقليمى العربى الذى يتعرض لمخاطر حقيقية تهدد بقاءه واستمراره.فى هذا السياق جاء حرص معظم الملوك والرؤساء والقادة العرب على تهنئة شعب مصر بإقرار الدستور ونجاح أول خطوة نحو التحول الديمقراطي  بعد الإطاحة بحكم الإخوان الذى أسهم فى تراجع مكانة مصر. ومنهم على سبيل المثال لا الحصر عاهل المملكة العربية السعودية وملك البحرين، والرئيس اللبناني، والعاهل الأردني، وعاهل المغرب، والذين أكدوا على استمرارهم فى دعم ومساندة مسيرة مصر الديمقراطية. وتجدر الإشارة إلى أن الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير خارجية الإمارات، كما كان أول من هنأ الشعب المصرى بثورة 30 يونيو فى تغريدته الشهيرة "مبروك مصر" ، فإنه أيضاً كان أول من هنأه بمناسبة إقرار الدستور الجديد، عندما أكد على أن الإمارات تهنىء الشعب المصري بإقرار دستور ثورته، والذي جاء نتيجة إصرار وعزيمة المصريين على مواصلة الطريق نحو التحول الديمقراطي لبناء دولة مصرية ديمقراطية حديثة، وأن الشعب الإماراتي يشارك الشعب المصري فرحته بهذا الدستور.
 
ولاشك أن هذا الزخم العربى فى الاهتمام بالعملية السياسية المصرية لها دلالته الواضحة  فى رغبة العرب أن تعود مصر كما كانت لمكانتها قلب الأمة العربية والنموذج الريادى الذى كان مصدر الهام للعديد من دول المنطقة.ويعني ذلك أن مستقبل العرب يتوقف، مرة أخرى، على نجاح الثورة المصرية بموجتيها في بناء نموذج ملهم يفتح أفق التغيير حولها. فتأثير مصر في محيطها لا يحتاج إلى إثبات على كل صعيد، وخصوصاً عندما تكون نموذجاً يُقتدى.ألم تكن هي التي نشرت القومية العربية، فمن دون جمال عبدالناصر ما كان ممكناً أن ترتفع موجة القومية العربية من المحيط إلى الخليج.ومن دون النهضة الثقافية في أواخر القرن التاسع عشر، ما وجدت الماركسية مجالاً في العالم العربي الذي دخلته من بابها في الوقت الذي كانت هي الحضن الدافئ لمثقفين لبنانيين وسوريين علمانيين ساهم بعضهم مع مصريين في خلق الأرضية الفكرية لليسار العربي. لكن دور مصر الجديد هذا يتوقف على نجاح ثورتى 25 يناير و30 يونيو في إنجاز أهدافهما وتجنب الفشل الذي انتهت إليه معظم ثورات العقد الماضي الملونة فى جورجيا وأوكرانيا، التي ألهمت العالم لسنوات. ويرتبط نجاح الثورة المصرية أيضاً بموجتيها بعنصر حاسم وهو بناء نظام ديمقراطى جديد يعلى من قيم الحرية والعدل والمساواة ويرتكز على سيادة القانون، وربما فإن اقرار الدستور الجديد ثم الاستعدادات لاجراء الانتخابات الرئاسية ثم البرلمانية سيمثل انتقالاً واضحاً للثورة إلى بناء الدولة  ومؤسساتها المختلفة. وهو مايعنى أن الثورة وصلت إلى السلطة وهى الغاية الأسمى لأى فعل ثورى. ومع وصول الثورة إلى السلطة فإن ثورة التوقعات ستتزايد بما يتطلب ضرورة إطلاق مشروع وطنى يحدد التوجهات الأسية للدولة المصرية بما يحقق مصالحها الوطنية العليا، وبالطبع فإن نجاح هذا المشروع سيرتبط بمحورية دور التعليم فيه والذى مثل البعد الأهم فى نجاح كل التجارب سواء الثورية أو التنموية. وبالطبع فإن واقعية البرنامج الوطنى ومدى القدرة على توفير الدعم الرسمى والشعبى له بما سينعكس على مكانة مصر الخارجية حال تنفيذه على أرض الواقع. 
 
إقرار الدستور وتعزيز مكانة مصر الدولية 
 
يمثل إقرار الدستور الجديد، رداً واضحاً على بعض المواقف الدولية التى رأت أن الدولة المصرية قد لا تستطيع أن تترجم استحقاقات خارطة الطريق بعد ثورة 30 يونيو، وراهنت بعض القوى الدولية بل والإقليمية على فشل مصر بل وربما على تدهور الأوضاع بها بعد تزايد موجة العنف فى الفترة السابقة على الاستفتاء .غير أن الدولة المصرية بأجهزته الرئيسية نجحت بشكل منقطع النظير فى تأمين عملية الاستفتاء بشكل برهن على أن الدولة المصرية ليست رخوة بل دولة قوية وقادرة على تنفيذ استحقاقات خارطة الطريق بكفاءة واقتدار. وهو الأمر الذى انعكس بشكل مباشر على مؤشر البورصة المصرية وارتفاع حجم تعاملاتها. كما قامت العديد من الدول برفع تحذيراتها لمواطنيها من السفر إلى مصر. ويبدو أن استغلال بعض المحافظات السياحية لهذا الحدث فى الترويج للسياحه كان أمراً ناجحاً،  وهو ما قامت به محافظة البحر الأحمر والتى تضم عدد كبير من القرى السياحية فى تنظيم بعض الجولات للسياح الأجانب إلى مراكز الاقتراح لمشاهدة طوابير الحرية أمام اللجان، وللتأكيد على أن عملية الاستفتاء تشهد اقبالاً متزايداً.ولا شك أنها تجربة تستحق الإشادة لأن كل سائح سيكون سفيراً لمصر فى بلده بطبيعة الحال.وهو ماسينعكس على تعزيز الصورة الايجابية عن مصر، كما يعنى أنها تتجه نحو مزيد من الاستقرار مع إقرار أبرز استحفقاقات خارطة الطريق وهو الدستور الذى يعد اللبنة الأولى فى تشييد البناء الديمقراطي.
 
وعلى الرغم من إشادة العديد من الدوائر الغربية خاصة الأوربية بنتيجة الاستفتاء إلا أن موقف الإدار الأمريكية لايزال ز يعانى من قصور للرؤية وتناقضاً للمواقف حيث أعلنت مارى هارف نائبة المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية، فى نهاية اليوم الأول للإستفتاء على مشروع الدستور بأن بلادها لا تملك حق الاعتراض على أى مرشح للانتخابات الرئاسية المقبلة فى مصر، مؤكدةً على أن الأمر متروك للشعب المصرى وحده ليختار من الذى ينبغى أن يقود البلاد. فى حين أشارت جين ساكي المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، عقب نتيجة الاستفتاء على الدستور على  أن الولايات المتحدة  نتابع مجريات عملية الاستفتاء وتتطلع إلى الاستماع لآراء المراقبين المستقلين المصريين والدوليين حول الآليات والاجراءات المرتبطة بالاستفتاء، وطالبت ساكى الحكومة بضمان احترام حقوق الإنسان وإتاحة مناخ لكل المصريين لكى يمارسوا حقوقهم وحرياتهم الإنسانية. ويبدو أن تصريح جون كيرى وزير الخارجية  الأمريكى عقب نتيجة الاستقتاء هو الأبرز حيث حمل فى طياته العديد من التناقضات التى تكشف ارتباك الإدارة الأمريكية وتناقضها فى العديد من المواقف حيث أكد على أن التجربة المصرية المضطربة فى الديمقراطية خلال السنوات الثلاث الماضية، وبرهنت للجميع أن التصويت فى الانتخابات ليس المحدد الوحيد للديمقراطية، مشيراً إلى أن الأهم هى الخطوات التى تتبع عملية التصويت، و أن الديمقراطية هى أكبر من أى استفتاء أو انتخابات، فهى تعنى المساواة فى الحقوق وتوفير الحماية بموجب القانون لجميع المصريين، بغض النظر عن جنسهم، أو دينهم، أو العرق، أو الانتماء السياسى. لذلك فإن تصريح كيرى يعد شهادة لنجاح ثورة 30 يونيو عندما انهت حكم الإخوان الذين تمسكوا بشرعية زائفة وهى شرعية الصناديق، ومعه تعرضت مصر لإنسداد الأفق السياسى. ونجحت الموجه الثورية الثانيه فى افشال مخطط دخول مصر فى نفق الاحتراب الأهلى. غير أن  بعض مراكز البحوث ومؤسسات الفكر الأمريكية إرتأت فى قراءتها لنتائج الاستفتاء أن الديمقراطية الوليدة فى مصر تحتاج إلى البناء عليها والاستمرار فى دعمها ، ومنها ما ذكره إريك تريجر الباحث بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، فى تعليقه على نتيجة الاستفتاء على الدستور بأن نزول أكثر من 20 مليون مصري وموافقة 98.1% منهم عليه، يعكس تمتع الحكومة الحالية بالرضاء الشعبى ، كما أنه طالب الإدارة الأمريكية بالالتفات إلى الواقع الجديد الذى تشكل فى مصر. 
 
والخلاصة أن إقرار الدستور الجديد وبدء الاستعدادت لإجراء الانتخابات الرئاسية ثم البرلمانية سينعكس بشكل إيجابى على مكانة مصر الخارجية، وهو ما سيرتبط بالأساس باستكمال استحقاقات خارطة الطريق ومدى نجاحها فى بناء نظام ديمقراطى سليم يستوعب الجميع ويرتكز على التعددية السياسية والحزبية ويضمن التداول السلمى للسلطة ويحقق سيادة القانون واستقلال القضاء ويعزز من حرية الصحافة والإعلام ويحترم  ويصون حقوق الإنسان. ومع تحقق هذه الأهداف من الممكن أن تتحول مصر إلى نموذج  ريادى يمكن أن يحتذى به فى التحول من الثورة إلى بناء الدولة شأن كل التجارب التى نجحت فى السياقات الأخرى ، وهم ما سينعكس بشكل مباشر على تعزيز مكانة مصر الخارجية.
طباعة

    تعريف الكاتب

    د. مبارك مبارك أحمد

    د. مبارك مبارك أحمد

    مدرس العلوم السياسية، وباحث متخصص فى الشئون العربية.