مقالات رأى

الشعب المصري يكشف حقيقة المواجهة

طباعة
بإجراء الاستفتاء الشعبي على مشروع الدستور، البند الأول في "خريطة المستقبل" انكشف مضمون المواجهة الدائرة في مصر منذ الموجة الثانية للثورة في 30 حزيران/ يونيو الماضي . ذلك ليس- فقط - لأن إجراء الاستفتاء يؤكد التزام السلطة الانتقالية بتنفيذ ما وعدت شعبها والعالم به، وحسب الجدول الزمني المحدّد، بل أيضاً - وهنا الأهم - لأن الشعب المصري - تحت حماية قواته المسلحة وإشراف قضاته وتغطية وسائل إعلامه الوطني - استجاب لدعوات حركته السياسية والمجتمعية والشبابية الوطنية، وشارك في الاستفتاء على مشروع هذا الدستور بنسبة هي الأعلى مقارنة بنسب مشاركته في الاستفتاء على ما عُرِضَ عليه من مشاريع دساتير منذ العام ،1971 وليس مقارنة بنسبة مشاركته في الاستفتاء على مشروع "دستور الإخوان" في العام ،2012 فقط . كل هذا من دون أن ننسى دلالات أن انجاز هذا الاستحقاق الدستوري الديمقراطي تم في ظل مواقف ودعوات المقاطعة التي اتخذتها جماعة "الإخوان" و"أخواتها" التكفيرية، عدا ما قامتا به سوياً من عمليات عنف وترهيب وتخويف وترويع لإفشال الاستفتاء . ماذا يعني هذا الكلام؟
 
يعني أن المواجهة الدائرة في مصر هي مواجهة بين أغلبية ساحقة من أبناء الشعب المصري وحركته السياسية والمجتمعية والشبابية الوطنية وأبناء أعمدة دولته العريقة الراسخة: الجيش والقضاء والثقافة والفن والإعلام، من جهة، والتنظيم الدولي لجماعة "الإخوان المسلمين" و"أخواتها" بدعم من دول وقوى عربية وإقليمية ودولية تملك نفوذاً سياسياً كبيراً وعوامل قوة أمنية ومالية وإعلامية هائلة، من جهة ثانية . إذاً، لسنا أمام مواجهة بين طرف يتمسك بالتداول السلمي للسلطة السياسية وطرف انقلابي يرفضه، كما تشيع -بقصد التضليل- قيادة "الإخوان" ومن والاها، إنما بين طرف يدافع عن هذا المبدأ الديمقراطي وطرف يستعمله ويستخدم قدسية دين سمْحٍ "أُنزِل للناس كافة" ومشروعية ثورة شعبية اختطفها للسيطرة على مفاصل الدولة المصرية وتغيير هويتها وتزييف تاريخها الوطني والقومي وتفصيل دستورها على مقاس مصالحه الحزبية الضيقة، بل طرف لا يتورع عن الاستقواء بالخارج وممارسة العنف التكفيري وتوفير الغطاء السياسي لممارسته على يد جماعات خرج جلُّها، إن لم يكن كلها، من عباءته . ما يعني أننا أمام مواجهة مفصلية معقدة ومركبة وذات مضامين وانعكاسات وتداعيات وتأثيرات استراتيجية، وربما تاريخية، إن في داخل مصر أو في محيطها العربي وغلافها الإقليمي . أما لماذا؟
 
* أولاً: لأن المواجهة تدور في مصر التي أثبتت تجربتها الحديثة والمعاصرة، على الأقل، أنها "إن قامت قام العرب وإن نامت نام العرب" . ما يعني أن وجهة حسم المواجهة الدائرة في مصر تحدد بدرجة كبيرة مصير المواجهة الدائرة في أكثر من قطر عربي من دون أن ننسى انعكاسات كل ذلك على بقية الأقطار العربية وعلى قضايا الأمة المركزية، وأولاها القضية الفلسطينية التي يعلم الجميع أن ثمة حاجة لوقفة وطنية فلسطينية وقومية عربية لإحباط مخطط - صهيوني أمريكي جديد يروم تصفيتها وتعزيز مكانة الكيان الصهيوني وتشريع أبواب التطبيع العربي المجاني معه .
 
* ثانياً: لأن المواجهة الدائرة في مصر، فضلاً عن انعكاساتها على مجمل الحالة العربية، غير منفصلة عما يشهده ميزان القوى الدولي والإقليمي من تحولات كبرى . ما يعني أن وجهة حسم المجابهة في مصر تحدد بدرجة كبيرة وزن مراكز القوة 
العربية ومكانتها ونفوذها في ميزان قوى النظام الدولي والإقليمي الجديد .
 
* ثالثاً: لأن المواجهة الدائرة في مصر غير منفصلة عما لجماعة "الإخوان" من تقارب مع الولايات المتحدة التي تشهد حالة تراجعٍ جلية ووثيقة الصلة بأزمتها الاقتصادية وبفشل حروبها وسياساتها الخارجية عموماً، والشرق أوسطية، خصوصاً . ما يعني أن وجهة حسم المواجهة تحدد بدرجة كبيرة مصير توق الشعب المصري المنتفض للنهوض والتخلص من علاقة التبعية والارتهان للسياسة الأمريكية . 
 
* رابعاً: لأن المواجهة الدائرة في مصر إن هي إلا حلقة من حلقات صراع قديم متعدد الأبعاد والمواقع والمخاطر بين مشروع حركات "الإسلام الحزبي" التكفيرية وأصلها جماعة "الإخوان المسلمين"، والمشروع العربي الديمقراطي الحداثي التحديثي التحرري بمشاربه الوطنية والقومية والليبرالية والتقدمية . حلقة فجرها حراك شعبي عربي يشكل في جوهره العام حالة استفاقة تعزز الأمل بالتغيير على المدى البعيد وربما المتوسط، رغم كل محاولات اختطافه وإجهاضه وحرف مساره عن أهدافه الحقيقية . ما يعني أن وجهة حسم هذه الحلقة من حلقات هذا الصراع في مصر بالذات تحدد بدرجة كبيرة حسم المآل النهائي لانتفاضات الشعوب العربية التي ركبت موجتها وحاولت اختطاف ثمارها، بدعم "غربي" عام وأمريكي خاص، جماعة "الإخوان المسلمين" وكل ما خرج من عباءتها من حركات "الإسلام الحزبي" التكفيرية الجاهلة المتطرفة التي شوهت صورة الحراك الشعبي العربي، وما انفكت تنشر القتل والتدمير والتخريب والتقسيم الديني والطائفي والمذهبي والجغرافي والمجتمعي في أرجاء الوطن العربي من أقصاه إلى أدناه، بل في غلافه الإقليمي أيضاً . ولعل المرء لا يحتاج إلى ذكاء كبير كي يكتشف صلة كل ذلك بمخطط نشر "الفوضى الخلاقة" وتطبيقاته متعددة الأشكال والذرائع والمسميات في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن ومصر وليبيا وتونس والسودان، والحبل على الجرار .
 
إن نجاح الشعب المصري المبهر في "عبور" محطة استحقاقات وتحديات ومكائد الاستفتاء على مشروع الدستور وإحباط كل محاولات منعه من التعبير عن إرادته وتطلعاته بحرية وشفافية، إنما يؤكد قدرته على "عبور" استحقاقات وتحديات ومكائد محطتيْ الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلتيْن، ما يبرهن - مرة أخرى - على عبقرية هذا الشعب وعراقة حضارته ورسوخ دولته وقوة إرادته ووطنية قواته المسلحة وسعة وعمق مخزون عوامل "قوته الناعمة" في السياسة والفكر والثقافة والفن والصحافة والإعلام . . . إلخ .
 
على ما تقدم، ثمة سؤال كبير على قيادة جماعة "الإخوان المسلمين" وكل من والاها لمصلحة أو لجهل داخل مصر وخارجها، فحواه: إلى متى يبقى العناد وتجاهل حقيقة أن مَن يكسب ثقة الشعب وصوته الحر على برنامج يستجيب لمصالحه وهمومه ومطالبه هو الجدير بإدارة شؤونه؟ بقي القول: مرحى للشعب المصري الذي كشف للعالم المضامين الفعلية للمواجهة، وأكد مرة أخرى قدرته على حسمها لمصلحته .
 
---------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأحد، 19/1/2014.
طباعة

تعريف الكاتب

علي جرادات