مقالات رأى

الصين والهند: سباق جديد لغزو الفضاء

طباعة
انطلق برنامج الفضاء الأميركي بمهمة أبولو الناجحة في الوصول إلى القمر خلال ستينيات القرن الماضي، وكان الإطار الناظم له المنافسة المحتدمة مع الاتحاد السوفييتي لإثبات القدرة العلمية أولًا، ثم السيطرة على الفضاء ثانياً. لكن قبل انطلاق الولايات المتحدة في برنامجها الفضائي والإنجازات التي تراكمت لاحقاً في هذا المضمار كان المعسكر الشرقي متقدماً في غزو الفضاء، محرزاً قصب السبق بإرساله إلى المدار حول الأرض قمراً صناعياً في عام 1957، ثم في عام 1961 حقق الاتحاد السوفييتي اختراقاً حقيقياً بإرساله لأول إنسان إلى الفضاء. لكن أميركا لم تدع الأمر يمر مرور الكرام، بل سارع الرئيس جون كينيدي إلى تأسيس برنامج الفضاء الأميركي، معلناً في خطاب شهير أمام الكونجرس بأن أميركا سترسل بعثة إلى الفضاء يقودها إنسان في السنوات الأخيرة للستينيات، وهو ما قوبل بحماس شديد في الكونجرس بالنظر إلى سباق التنافس الأيديولوجي السائد وقتئذ، لتُخصص له أموال طائلة ساهمت في إنجاح المشروع الأميركي ووضع الولايات المتحدة على خريطة الفضاء العالمية. وفي 20 يوليو 1969 تحلق الملايين من المشاهدين حول العالم أمام أجهزة التلفاز لمشاهدة مركبة أبولو الفضائية وهي تحط بسلام فوق سطح القمر بطاقم يتكون من رجلين ليخطو الإنسان أول خطواته فوق القمر، وقد شكلت تلك اللحظة الفارقة في حياة البشرية انتصاراً مؤزراً للولايات المتحدة في سباق الفضاء وتفوقاً واضحاً على غريمها الاتحاد السوفييتي. إنه الصراع الذي لن يقف في كل الأحوال عند حدود الفضاء، بل امتد إلى قضايا أخرى باتت معروفة للمتتبعين.
 
بيد أن الوصول إلى الفضاء، ورغم ما ينطوي عليه بالنسبة لأميركا من تفوق علمي وتكنولوجي واضح، جاء في سياق اضطرابات داخلية كبيرة كان يجتازها الشعب الأميركي، حيث حرب فيتنام مستمرة في حصد الأرواح وسط تخبط واضح في السياسة الأميركية وفشل ذريع في تحقيق الأهداف المرجوة في جنوب شرق آسيا، هذا بالإضافة إلى التوتر العرقي في الولايات المتحدة واستمرار الإقصاء والتمييز ضد السود، ثم الفقر المنتشر بين فئات من المجتمع الأميركي... كل ذلك جعل من الانتصار الفضائي ناقصاً وغير مكتمل، فكانت آخر مهمة أميركية إلى الفضاء بطاقم بشري في ديسمبر 1972، بحيث بالكاد حظيت المهمة الأخيرة بانتباه الأميركيين المنشغلين بقضاياهم الملحة.
واليوم وبعد مرور كل هذه السنوات والمتغيرات الهائلة التي شهدها العالم بسقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، تحولت الولايات المتحدة وروسيا إلى شريكين في مشروع محطة الفضاء الدولية. وبتقاعد برنامج الرحلات المكوكية إلى الفضاء التابع لأميركا وخروجه من الخدمة، أصبح رواد الفضاء الأميركيون يعتمدون في مهماتهم الفضائية على الصواريخ الروسية التي تقلهم إلى محطة الفضاء المقامة بشراكة أميركية روسية. وبالإضافة إلى موسكو وواشنطن، هناك شركاء آخرون مثل كندا واليابان والاتحاد الأوروبي، يأملون في اجتذاب رواد فضاء لإيصالهم إلى محطة الفضاء الدولية، علماً بأن هذه الأخيرة قد ينتهي العمل بها في عام 2020، أو بعد ذلك بسنوات قليلة، وإلى حد الآن لا وجود لخطط لتعويضها.
 
لكن التنافس لا يقتصر اليوم على البلدان الرائدة في المجال العلمي، بل دخلت المنافسة بلدان أخرى باتت تطمح للوصول إلى الفضاء وإنشاء برامجها الخاصة، حيث انخرطت كل من الصين والهند فيما يمكن تسميته بسباق الفضاء الخاص بهما، لتعكسا مكانتهما الدولية المتنامية. ففي 5 نوفمبر المنصرم أطلقت الهند مسباراً فضائياً اتجاه كوكب المريخ، ولو كُتب له النجاح سيصل المسبار إلى الكوكب الأحمر في غضون 14 شهراً، حيث سيكون مبعث فخر للهند، رغم الكلفة الباهظة للبرنامج والمشاكل الداخلية المستفحلة مثل الفقر المتفشي على نطاق واسع وعجز البنية التحتية الذي ما زال يعيق النمو الاقتصادي في الهند. ومباشرة بعد ذلك أطلقت الصين أيضاً في 14 ديسمبر الجاري مسبارها الفضائي الذي وصل بالفعل إلى سطح القمر، ووضعت مركبة فوقه لإجراء أبحاث على القمر. وهو إنجاز حقيقي يعكس الجهود التي تبذلها الصين لتطوير قدراتها العلمية وطموحها لاستكشاف الفضاء الخارجي سواء لأغراض مدنية أو عسكرية. وفي هذا السياق أيضاً تخطط الصين لإقامة محطة فضائية خاصة بها دون إشارة إلى احتمال انخراط دول أخرى في المشروع على غرار محطة الفضاء الدولية المشتركة بين أميركا وروسيا وبلدان أخرى، وإن كانت الصين قد أعلنت عدم ممانعتها في استخدام محطتها لكل راغب في ذلك. هذا الأمر يثير سؤالا حول مدى استعداد الولايات المتحدة للتعاون مع محطة الفضاء الصينية إذا ما خرجت المحطة المشتركة مع روسيا من الخدمة وطوي مشروعها، فمن المشاكل المطروحة حظر الكونجرس لأي برنامج تعاوني مع الصين بسبب سجلها السيء في مجال حقوق الإنسان، ووضعها لأجسام مضادة للأقمار الصناعية في الفضاء تشكل تهديداً مباشراً لأنظمة المراقبة الأميركية.
 
ومع أن الصين والهند مستعدتان للاستثمار بسخاء في برامجهما الفضائية، مدنية كانت أم عسكرية، إلا أنهما قد تواجهان مقاومة داخلية قوية وتضطران إلى الحد من أنشطتهما الفضائية إذا ما ظل النمو الاقتصادي متباطئاً وتنامت الأصوات المعارضة للكلفة الباهظة للبرامج الفضائية ومطالب التركيز على الإشكالات الداخلية ذات الطبيعة الاجتماعية. وإن كان ما تنطوي عليه هذه البرامج من دغدغة للشعور القومي وإنجاز هندسي وعلمي كفيل في الوقت الحاضر على الأقل بالتغلب على الاعتبارات الاقتصادية لتواصل نيودلهي وبكين سباقهما الفضائي لسنوات قادمة.
 
--------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية الخميس 26/12/2013.
طباعة

تعريف الكاتب

جيفري كمب

جيفري كمب

دكتوراه في العلوم السياسية من معهد ماساشوسيتس.