مقالات رأى

مناورات روسيا في الأمم المتحدة

طباعة

تقوم روسيا التي تشعر بقوة ونشاط جديدين باستعراض عضلاتها في الأمم المتحدة حالياً. فبالإضافة إلى قيامها من حين لآخر بإعاقة مبادرات غربية عبر تهديدها باستعمال حق "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي، تعمل موسكو على ما يبدو عبر وكيل لمنع ليتوانيا من الفوز برئاسة الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة. صحيح أن الرئاسة فخرية وبروتوكولية إلى حد كبير، ولكنها تمنح من يشغلها هيبة واحتراماً دوليين، كما أنه أُسندت لهذا المنصب خلال السنوات الأخيرة مهام ومسؤوليات أكبر، ومن ذلك رئاسة الاجتماع السنوي لزعماء العالم في نيويورك كل شهر سبتمبر وأحداث أممية مهمة أخرى.

وتقليدياً، تتناوب المجموعات الجغرافية الخمس للدول الأعضاء في الأمم المتحدة على رئاسة الجمعية العامة كل 12 شهراً. ومن المقرر أن يتولى رئاسة الدورة السابعة والستين للجمعية العامة ممثل لمجموعة أوروبا الشرقية. وقد ترشحت ليتوانيا للرئاسة في 2004 وظلت المرشح الوحيد لسبع سنوات؛ غير أنه في أوائل 2012، أعلن وزير خارجية صربيا "فوك جيريميك" عن ترشح بلاده – وهي خطوة دعمتها روسيا على الفور. ومن المتوقع أن تصوت الجمعية العامة التي يبلغ عدد أعضائها 193 حول هذا الموضوع في يونيو المقبل.

والواقع أنه من النادر جداً أن تقوم الجمعية العامة بالتصويت مباشرة حول هذا المنصب. ذلك أن تصويتاً مثل هذا من المرجح أن يُبرز الانقسامات بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ويُضعف الرئيس المقبل، كما أن معظم أعضاء الأم المتحدة يفضلون اتباع التناوب الجغرافي المعتاد. ولذلك، فقد دعا البعض إلى حل المسألة داخل مجموعة أوروبا الشرقية؛ ولكن بلجراد وموسكو من غير المرجح أن تتراجعا في وقت تناوران فيه لتحقيق أهداف سياسية معينة.

موسكو مصممة على إضعاف التضامن بين الدول التي كانت تابعة لها سابقاً في أوروبا الوسطى والشرقية في أي محفل دولي تلعب فيه دوراً قيادياً. فهذه البلدان لم تعد تتلقى تعليمات من موسكو. ولذلك، فإن روسيا منحت دعمَها الدبلوماسي لصربيا من أجل إضعاف قدرة أعضاء مجموعة أوروبا الشرقية على حل المشكلة بمفردها ومنع ليتوانيا من تحسين مكانتها الدولية.

روسيا ترغب في إحراج ليتوانيا على خلفية تصريح وجدته محرجاً في جلسة للأمم المتحدة في مايو 2010 أحيت الذكرى الخامسة والستين لنهاية الحرب العالمية الثانية، حيث أشار ممثل ليتوانيا الدائم في الأمم المتحدة، دليوس سيكوليس، إلى أنه وخلافاً لما عاشه جزء كبير من أوروبا، فإن نهاية الحرب لم تجلب الحرية لليتوانيا، وإنما الضم من قبل قوة شمولية أخرى هي الاتحاد السوفييتي.

ولكن إشارة "سيكوليس" إلى الاحتلال الروسي أثارت غضب الكريملن على ما يقال. ذلك أن نظام بوتين المنصَّب حديثاً (مرة أخرى) أمضى العقد الماضي محاولًا حجب حقيقة أن الاتحاد السوفييتي كان متعاوناً مع ألمانيا النازية وزودها بالموارد خلال عامين حاسمين في بداية الحرب العالمية الثانية، عندما اجتاح الرايخ الثالث أوروبا وأطلق "الهولوكوست". فقد كان نظام ستالين متواطئاً مع هتلر آنذاك حيث كان يرى فيه الأداة الرئيسية لتدمير الرأسمالية الغربية. ويسعى بوتين إلى الترويج لتاريخ روسيا حتى تسترجع هذه الأخيرة مكانتها كقوة عالمية؛ غير أن جهود إسكات ليتوانيا تعد جزءاً من استراتيجية أوسع تروم نزع المصداقية عن البلدان التي كانت تخضع لتأثير موسكو سابقاً.

وفي هذه الأثناء، تأمل الحكومة الصربية من خلال تأكيد حضورها في الأمم المتحدة أن يساهم ذلك في وقف مزيد من الاعترافات بدولة كوسوفو، التي كانت إقليماً تابعاً لها في السابق، والحصول على خدمة دبلوماسية من موسكو العام المقبل بالمقابل.

لكن المثير للسخرية، أن وزير الخارجية الصربي يستفيد من الدعم الروسي ضد شركاء صربيا الأوروبيين في وقت يسعى فيه بلده جاهداً إلى التقرب من الاتحاد الأوروبي أكثر؛ إذ تشير نتائج الانتخابات العامة التي عرفتها صربيا في السادس من مايو الجاري إلى تأييد شعبي واسع لعضوية الاتحاد الأوروبي. والحال أنه إذا تضررت تطلعات صربيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بسبب النزاع حول رئاسة الجمعية العامة، فإن ذلك سيخدم أيضاً طموحات موسكو الرامية إلى تقسيم أوروبا.

والواقع أن "جيريميك" خسر قدراً كبيراً من المصداقية في حكومته خلال العام الماضي بسبب الانتكاسات التي منيت بها سياسات صربيا بشأن كوسوفو. ذلك أن تسعين بلداً عضواً في الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة اعترفت بكوسوفو كدولة جديدة رغم الجولة العالمية التي قام بها "جيريميك" في محاولة لنزع الشرعية عن كوسوفو. كما أن العديد من المسؤولين الأوروبيين لا يحبونه. وتشمل مقاربة "جيريميك" الانتقام من ليتوانيا عبر السبل الدبلوماسية في حال رفضت سحب ترشحها لرئاسة الجمعية العامة. وفي هذا الإطار، يتهم المسؤولون الليتوانيون بلغراد بإعداد حملة لإعاقة ترشح ليتوانيا لمقعد مؤقت في مجلس الأمن الدولي لمدة عامين اعتباراً من 2014.

والواقع أن الرهان تشمل أموراً أكثر من مجرد منصب دبلوماسي رمزي. ذلك أن رهان القوة حول رئاسة الجمعية العامة يُبرز الحملة التصعيدية التي تخوضها روسيا الصاعدة من جديد ضد البلدان التي كانت تدور في فلكها سابقاً وأصبحت اليوم جزءاً لا يتجزأ من الاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو"، وحليفةً موثوقةً للولايات المتحدة.

---------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الثلاثاء، 15/5/2012.

طباعة

تعريف الكاتب

جانوس بوجايسكي

جانوس بوجايسكي

زميل برنامج أوروبا بمركز الدراسات الدولية والاستراتيجية في واشنطن